انقسم الفقهاء وأهل الكلام بين من قال إن الإمامة (الدولة) واجبة بالعقل يُستدل على وجوبها بما يحصل عنها من المصالح وما يفوت من المفاسد،
ومن قال إنها واجبة بالشرع يُستدل على وجوبها بمنقولات النبوة والوحي،
وطرف ثالث قال بوجوبها بالعقل والشرع معاً،
وطرف رابع -وهُم فرقتين من الخوراج الأزارقة والصفرية- نفى وجوبها كلياً لا بالشرع ولا بالعقل.
القول بالوجوب شرعاً (وحياً) معناه التعامل مع مسألة الدولة ضمن مباحث الدين.
ثم انقسم القائلون بهذا بين من اعتبر الدولة أصل من أصول الدين ومن قال أنها فرع لا أصل.
الإمامة رئاسة عامة، هذا محل إجماع.
لكن هل هي رئاسة في الدين فقط أو في الدنيا فقط أو فيهما معاً؟
جواب الفقهاء الأوائل رئاسة في الدين والدنيا.
هذا في النظرية، أما في التجربة فلكل حالة حكمها.
على أن القول بأن الدولة (الإمامة، الاجتماع المنظم) أصل من أصول الدين، مختلف كل الاختلاف في معناه ونتائجه عن القول بأن الدين (الشريعة، الملة) أصل من أصول الدولة.
الأول تديين للدولة، والثاني تدويل (تسييس) للدين.
خلافاً للشيعة، فإن غالبية فقهاء أهل السنة اعتبروا الدولة (الإمامة) مبحث فرعي في مباحث الدين الكلية، ولا يترتب على الموقف منها أو العلاقة بها كفر وإيمان.
لكن على الإجمال يلتقي السنة والشيعة وعموم المسلمين على النظر إلى الدولة من زاوية الدين، بدلاً من النظر إلى الدين من زاوية الدولة.
الاختلاف فقط بين من يرفع ومن يخفض رتبة الدولة في الهيكل النظري العام للدين.
وهو ليس بالاختلاف الهيّن.
فقد انعكس ذلك على مسار التاريخ العملي، فمال الفريق الذي رأى أن الدولة من فروع الدين إلى المرونة والتهاون في شروط من ينبغي أن يحكم وكيف ينبغي أن يحكم، وارتبط بعلاقة متخففة من التوتر مع الدول والممالك والسلطنات التي ظهرت واختفت في العالم الإسلامي.
في حين سلك الفريق الآخر عكس ذلك، طريق العناد والرفض والانشقاق والتثوير والعزلة.
القول بأن الدولة فرع ثانوي من فروع الدين يمهد للقول بأن الدين أصل من أصول الدولة، وهذا بدوره يقود إلى جعل السيادة للدولة على الدين بما أنه عنصر من عناصر وجودها.
في حين أن القول بأن الدولة أصل من أصول الدين يقتضي نفي استقلالية الدولة والسياسة وتسليم مصيرهما لرجل الدين.
هل يجب أن تكون العلاقة بين الدين والدولة علاقة أصل بفرع؟ لماذا لا نبحث لهذه العلاقة عن تعريف من نوع آخر؟
نعم، لا يجب أن تكون الدولة في علاقة نفي وتضاد مع الدين، وإنما علاقة تجاور أو علاقة تكامل وتعاضد بين مركزين ومقامين يتقاطعان حيناً ويتقابلان حيناً آخر.
وعلى وجه العموم، فالفصل بينهما في الأذهان أسهل بكثير من الفصل بينها في مجرى الحياة، ذلك أن العلاقة بينهما -تاريخياً وفي التجربة- تحتمل كلاً من الفصل والوصل، وقد تكون تركيبٌ من الوصل والفصل، فليس هناك مثل أعلى معياري واحد صالح دون تعديل ولا تبديل.
من حيث الوظيفة والدور، كما أسلفنا، تلتقي الدولة والدين في أمور وتتمايز في أمور.
والسؤال هو:
هل يجوز التوحيد بين الدولة والدين في المفهوم، فنقوم بتضمين معنى ووظائف الدولة في إطار مفهوم واسع عن الدين، أو تضمين وظيفة ومعنى الدين في إطار مفهوم واسع عن الدولة؟
لم يعد هذا جائز اليوم.
الموقف العلماني في زماننا يحب أن يتصور كيان الدين منفصلاً عن كيان الدولة، والتسوية التي يقترحها تنتهي برسم حد صارم بين رئاسة الدين ورئاسة الدنيا.
في الزمن الغابر كانت الدولة والدين شيء واحد تماماً، وقيل أن الأخير متقدم على الأولى في الوجود، وفي مجرى التطور حدث التباين والانفصال.
هل يمكن تخيل دولة ليس فيها عنصر من الدين أو العكس تخيل دين ليس فيه عنصر من سياسة وحكم واجتماع؟
حين نقول دولة فنحن لزوماً نقول مجتمع وحين نقول مجتمع فنحن لزوماً نقول فرد.
يمكن تخيل فرد لا يؤمن بما تؤمن به الأديان.
هل الأثر واحد بين الأفراد للإيمان أو عدم الإيمان؟
لا حتماً.
كذلك المجتمعات، وكذلك الدول.