لا يمكن تصوير المشهد في الشرق الأوسط بغير أنها حرب كبرى، فالحرب التي فتحتها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023 كانت قرارا من إيران لقطع مسار التطبيع السعودي – الإسرائيلي. وبما أنها بدأت الحرب، فإن على الإيرانيين مواجهتها تماما كما واجهوا صدّام حسين في حرب الثماني سنوات، والتي انتهت بانتصار العراق وإقرار الخميني أنه اضطر لقبول تَجرُّع كأس السم. وبما أن إيران فتحت الحرب على إسرائيل عبر ذراعها في قطاع غزة، فعليها أن تتعامل بواقعية الحال بأنها حرب، وإن لم تكن ككل الحروب التي عرفها الشرق الأوسط من بعد الحرب العالمية الثانية. فيكفي أن هجوم إيران في أبريل 2024 سجّل أول هجوم تاريخي على الإطلاق للثورة الخمينية على إسرائيل. كانت المواجهة نقطة الاختبار الحقيقية للقوة الإيرانية التي توعدت منذ 1979 بمحو إسرائيل، واعتمدت إستراتيجية الأخطبوط لتحقيق هدفها الإستراتيجي بتصدير ثورتها الأيديولوجية وتوسيع نفوذها في المنطقة.
موقعة “أبريل 2024” كسرت “حاجز الخوف”، وفتحت الصراع بين إيران وإسرائيل بكل ما فيه من تمددات أيديولوجية عميقة. لا شيء يُعادل واقعية فرصة الانقضاض التي أظهرت فيها إيران قدرتها على شنّ هجوم عسكري مباشر بعد وعيد وتعهد بمحو الدولة الإسرائيلية من الوجود. كان الهجوم للمرة الأولى الذي أظهرت فيه إيران قدرتها على توجيه صواريخها الباليستية إلى تل أبيب، حتى وإن لم يُحقق الهجوم ضربات مؤلمة، غير أنه كشف الرغبة في تحقيق أقصى درجات الأذى. إسرائيل، في المقابل، يبدو أنها حزمت أمرها بضرب رأس الأخطبوط في طهران نفسها. عملية “البيجر” أظهرت عزم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على الذهاب إلى أبعد نقطة، لذلك فإن اغتيال حسن نصرالله كان في مضمونه أن حربا مفتوحة قائمة بين إسرائيل وإيران، وأن على طهران أن تُدرك بأن ما صنعته من 1979 يجري تقطيع أوصاله.
الحرب الهجينة، أو ما يمكن اصطلاحه بـ”حرب المستقبل”، لم يستوعبها العقل العربي، كما لم يُدرك العقل الإيراني بانتمائه الأيديولوجي مفهومها، لذلك أُصيب بالضربات المؤذية. الهجوم الإسرائيلي على ميناء الحديدة في اليمن كان اختبارا واضحا لمدى قدرة الطيران الحربي على الوصول إلى أبعد مسافة، وتأدية المهام، والعودة إلى القواعد العسكرية. نجاح القدرات الجوية أعطى ثقة للقيادة في تل أبيب، وعليه تحدّثت بأن النيران الكبيرة في اليمن على الشرق الأوسط أن يراها رسالة واضحة للخطوة التالية. ألفا كيلومتر قطعتها الطائرات بكفاءة هي المسافة التي أيضا يُمكنها أن تصل فيها إلى قلب طهران. الحرب المفتوحة التي تشهدها المنطقة تتجاوز في أبعادها الجغرافية والعسكرية كل الحروب السابقة، فهي حرب متعددة الجبهات والأدوات، تمتد من البحر الأحمر إلى الخليج العربي، ومن سوريا ولبنان إلى العراق واليمن. إنها حرب تُستخدم فيها أحدث التقنيات العسكرية، من طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية وأنظمة دفاع جوي متطورة، إلى جانب حرب المعلومات والحرب السيبرانية.
من على منبر الأمم المتحدة، أظهر نتنياهو خرائط واضحة لا تحتاج إلى توضيح، ففيها مُحدّدات الحرب بكل ما فيها من معنى. إيران وأذرعها اختارتا توقيت المواجهة، لكنهما لم تُدركا الخطوة التالية، وكيف ستكون ردّة فعل الدولة العبرية، ولا حتى البلدان العربية، ولا الموقف الدولي. انقلب طوفان الأقصى على النظام الإيراني، فالعرب الذين كانوا يرغبون في كسر الهلال الشيعي عبر سياسات احتواء سوريا وإعادتها إلى الجامعة العربية وجدوا أنفسهم يُراقبون الأداء الإسرائيلي وهو يقتنص قيادات حزب الله في قلب دمشق وبيروت، ويُطارد عناصر حماس في غزة والضفة الغربية. المسألة باتت أبعد من كسر “طريق القدس” الذي كان حسن نصرالله يُروّج له نيابة عن الخميني وعلي خامنئي، الطريق يتم تحطيمه بالكامل، حتى أن توازنات النفوذ التي كانت على الأراضي السورية اختلّت تماما عمّا كانت عليه قبل 7 أكتوبر 2023.
الإسرائيليون ومعهم الأميركيون منحوا العالم “ملهاة” مفاوضات الهدنة في غزة مع إدراكهم أن عليهم استكمال “حرب القيامة” التي أعلنها نتنياهو في استدعاء من التلمود، هي حرب وجودية قد تصل إلى ضرب رأس النظام في طهران إن لم يستوعب المرشد الأعلى جوهر ما يعيش فيه، فحتى ما ستفضي إليه الانتخابات الأميركية لن يغير شيئا فهناك حاجة ملحّة إلى إنهاء فوضى تصدير الثورة الشيعيّة التي دمرت المنطقة، فتشابك الصراعات والمواجهات في هذه الحرب غير مسبوق في تاريخ الشرق الأوسط، نجد أن تداخل المصالح الدولية مع تغيير النظام العالمي والتداخل الأيديولوجي الديني والمذهبي يشكلان تعقيدا من تعقيدات الحرب التي لا أحد يعرف نهايتها، حتى الإسرائيليين أنفسهم الغارقين في دوامة صراعاتهم الداخلية التي أفضت إلى سيطرة اليمين المتطرف على السلطة، والذي يداعبه الحلم التوراتي بإقامة دولة إسرائيل الكبرى فيما كانت إيران تعتقد أن نفوذها بلغ أقصى مداه بإخضاعها أربعة عواصم عربية.
“الشرق الأوسط الجديد” بات حقيقة، وعلى شعوب المنطقة القبول بحقيقة النتائج التي ستنتهي إليها الحرب. فالتحديات أمام الأنظمة العربية كبيرة، وليس لديها مساحات للمناورة، فلطالما تعاملت هذه النظم مع التهديدات، سواء الإيرانية أو الإسرائيلية، لكنها من بعد الربيع العربي باتت تُدرك خطر جماعات الإسلام السياسي عليها، وهي ترى أن إسرائيل قادرة على إضعاف – على الأقل – قوة هذه التنظيمات العسكرية. كما أن الإسرائيليين يرغبون بكل ما يملكون من أن لا يكون للإيرانيين نفوذٌ على حدودهم، وهو الذي أدركه المرشد علي خامنئي مُتأخرا، فلقد أضاعت تقديراته – منذ عام 2015 – فرصة الحصول على القنبلة النووية. فالتقديرات الخاطئة أوصلت إيران إلى حالة الانكشاف العسكري، وأظهرتها بهذا السوء أمام التفوق الإسرائيلي، ولو كانت تمتلك القنبلة النووية لَحققت توازن ردع موضوعي، وليس توازنا قائما على الأذرع الميليشياوية.
الموقف لا يُمكن تجاوز حقائقه، فكما استدعت إسرائيل من إرثها الديني “حرب القيامة”، كانت إيران وجماعات الإسلام السياسي السُّنية معها تستدعي هذه الحرب من كتبها وإرثها الديني، وحتى وهي تُراقب سقوط البراميل المُتفجرة على الشعب السوري في ذروة “الربيع العربي”، وصعود الإخوان لحكم مصر، وتمدُّد تنظيم داعش، كانوا يتوعدون بهذه الحرب الكونية. الحرب في ذهنية هذه الجماعات قائمة على خيول وسيوف، وتجاهلوا أن هذا العصر قائم على التكنولوجيا وعلى إعداد الإنسان وحريته. إسرائيل، وإن كانت دولة شبه ديمقراطية، لكنها دولةٌ تمتلك العلم والحرية، وبهذا تفوّقت على إيران وأذرعها، وجعلت من جماعات الإسلام السياسي غير قادرة على استيعاب ضرباتها القاتلة والمُميتة. وعلى كلٍ، لا بدّ لما بعد الحرب من سبيل لإعادة الخروج من أزمة العقل العربي والإسلامي من أزماته التي أودت به لخوض هذه الحرب التي اختاروها بأنفسهم يوم انقلبوا عمدا على قطار التطبيع.