تٌعد المقابر من منظور ديني موضعًا لدفن وتكريم كل من نزل عليه أَجَله، ومُقَام للعبرة والتأمل والتَبَصَّر، وحَيِّز لنقطة العودة إلى الأرض التي خُلقنا منها ووجدنا عليها، ويسبق ذلك شعيرة الجنازة التي تعتبر واجبًا وحقًا لـ المتوفي، ويليهما (أي الجنازة والدفن) المواساة والدعم لأهل وذوي الميت، وذلك لإظهار التعاضد والتكافل والترابط الاجتماعي.
لكن دور المقابر في عهود الكهنوتية السلالية تحول إلى مكان لـ ترهيب أبناء الأرض وترويعهم، ومُقَام لتهييج أبناء القبائل اليمنية وتحريضهم، ومنطلق لتثبيت السلطة، وطريق لتعزيز الحكم والولاء، ومنفذ لإعادة شحن القلوب بالبغضاء، وبؤرة لنشر أيديولوجية الدخلاء والغرباء والشظايا!. أما في وقتنا الحاضر، فقد أصبح افتتاح مشاريع المقابر إحدى الإنجازات التنموية، وغدت ساحاتها مزارات كـ المتاحف الشعبية، وصارت مزينة بالأشجار كـ الحدائق، وخصصت لها الميزانيات، وحدد لها أيام لـ الزيارات (الإجبارية)، وسٌهلت لها وسائل النقل، وتم إحاطتها بالخرق والصور واللوحات، وأُضيت لها المصابيح، ونظمت لها الفعاليات، واعتمدت لها المواقيت (الذكرى السنوية)!. وإضافة إلى ذلك، أُنشأت لها الهيئات (الهيئة العامة لرعاية أسر الشهداء) لوضع التشريعات اللازمة لاختصار الإجراءات الخاصة بتسهيل وصول المغرر بهم إلى مقابرهم، وتزيين مراقدهم؛ بينما أسرهم في حالة بؤس وجوع ومعاناة!. أما الجنازة في زمن الكهنوتية السلالية، فقد أصبحت مواكب سيارات مزينة، وأهازيج فرح متعالية، وصولاً لـ خروج الأرامل أو الثكالى أو اليتامى لإطلاق النار ابتهاجًا بقدوم جثة المغرر به الهامدة!.
والهدف من وراء كل تلك الأساليب الكهنوتية السلالية تتمثل بـ تأجيج المشاعر وشحن المجتمع ضد بعضه البعض وتفتيته، واستقطاب أقارب القتلى المغرر بهم، وتضخيم دور المضللين ممن لقوا حتفهم (دماء الشهداء)، وترويج أيدلوجيتهم القذرة، وتحشيد عكفتهم من المتشيعين لهم، وتأصيل مفهوم التضحية والولاء!. أما وسيلة الاعتناء بالمقابر وتزيينها وتخصيص أيام الزيارات المتعددة لها، فإنها تهدف في ظاهرها إلى تمجيد وتبجيل مراقد المغرر بهم؛ ولكن باطنها يسعى لتعزيز فكرة "الانسياق والخضوع الجماعي" وغرس شعور مجتمعي بأنه جزء من معركة مستمرة للدفاع عن حقوقه المشروعة (أي الدفاع عن عبوديته وخضوعه لكهنة الآل)!.
وعند إعادة النظر في مفهوم "الدفاع عن الحقوق المشروعة" لأبناء الأرض، والرجوع إلى معظم رموز الحركات الوطنية الممتدة من أحفاد سبأ وحِميّر، فلن تجد مقابر لهم ولا حتى رفاتهم، وفُصلت رؤوسهم عن أجسادهم ورميت لتأكل الطير منها!. حتى آخر رئيس للجمهورية الأولى الذي حكم اليمن ٣٣ سنة، لا أحد يعرف إلى يومنا أين تم دفنه وأين رفاته (بغض النظر عن تقييم فترة حكمه). وبالمقابل، أصبحت قبور الدخلاء أضرحة مرصعة بالرخام، وغدت قبور الغرباء مزارات تعلوها سقوف لتقي رفاتهم من حر الصيف وبرودة الشتاء، وصارت قبور الشظايا قبب لتعكس الرمزية الدينية والتاريخية!.
يجد الفاحص للتاريخ والمدقق في ثنايا صفحاته، بأن أي مقابر كبيرة راح ضحيتها من أحفاد سبأ وحِميّر، عادةً ما يكون وراءها أذرع الكهنوتية وأيدي السلالية، ليس في شمال الوطن فقط، بل حتى في جنوبه!. تاريخيًا، أرتكبت الكهنوتية السلالية جرائم ومجازر متعددة بحق أبناء أرض سبأ وحِميّر، جرائم بحقوق كل من: قوم همدان (بلاد شاكر)، و أهل برط، وأهل قرية عفارة، وأهل أرحب بن الدعام، وأهل خيوان، وقرية الهجر، وبني الحارث، وأصحاب ميناس، والـ لإكيليين، وآل طريف والجفاتم، وبني يعفر شبام، وأهل البون، وآل يعفر، وأهل قرية أملح، وأهل تهامة (الزرانيق)، وأهل لبيبان، وغيرهم الكثير!.
حيث يٌشار أن أكبر مقبرة في شبه الجزيرة العربية تقع في محافظة صعدة، والاسم الوحيد المحفوظ لـ زرانيق تهامة في جبال حجة يتمثل بـ "مقبرة الزرانيق"، الذي أعدم فيه ما يقارب من ٨٠٠ قيل يماني من الزرانيق، بعد أن تم إرسالهم إلى سجن حجة عام ١٩٢٩م من قبل البغيض أحمد يحيى حميد الدين، وعلى ذلك قس!. أما في العقود الأخيرة، وما تسببت به الكهنوتية السلالية، فقد امتلأت ساحات المدن بالمقابر، وتحولت المدرجات الزراعية إلى مدرجات قبورية، وتضررت كافة المناطق التي عبروا منها أو تمكنت أيديهم القذرة من الوصول إليها!.
كذلك، الأحداث الدامية والمقابر الكبيرة لأحفاد سبأ وحِميّر في جنوب الوطن، كان خلفها بذور فتنة الكهنوتية السلالية من قبل "منزوعي الألقاب"، وإحداها ما حدث في ١٣ يناير ١٩٨٦م في عدن، والتي راح ضحيتها ما يقارب من ٢٠ ألف مواطن. كانت مقدمات الشرارة الأولى لتلك الأحداث هو الغدر والتخلص من حفيد سبأ وحِميّر "سالِم رُبَيِّع عَلي، وزملائه" من قبل "عبدالفتاح إسماعيل" الذي تمتد أصوله للسلالية (أشراف الجوف)، وكانت الشرارة الثانية هو الغدر والتخلص من حفيد سبأ وحِميّر "علي عنتر، وزملائه" من قبل "علي ناصر محمد" والذي ينتهي لقبه المحذوف بـ "الحسني"، والذي مستمر بدعم أبناء سلالته شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، ولا يزال يطمح إلى يومنا بحكم اليمن!. أما آخر وزير دفاع للجمهورية الأولى، الذي سلم مقدرات الجيش وفتح المجال للميليشيات الكهنوتية السلالية، وقال قولته الشهيرة "بأن القوات المسلحة والأمن مؤسسة حيادية، وأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع"، فقد كان ذلك "محمد ناصر أحمد علي" والذي ينتهي لقبه المحذوف بـ "الحسني"!.
ختامًا، الأرض التي يُشيد فيها أضرحة للدخلاء، ويبنى فيها مزارات للغرباء، وترفع على تربتها قبب للشظايا، ولا يُعرف فيها قبور رموزها الوطنية من أبناء الأرض، هي أرض مصادرة محتلة وتحتاج إلى تحرير. كما أن المؤسسات العسكرية والأحزاب السياسية والمواقع القيادة العليا التي يقودها "محذوفي الألقاب من بقايا الشظايا والدخلاء"، هي مؤسسات وأحزاب ومواقع عليا، ملغومة وخطيرة وقنابل موقوتة على المجتمع والوطن ككل. يجب أن يتم إزالة كافة مخلفات الكهنوتية السلالية التي تريد أن تجعل منها رمزية دينية أو تاريخية سواءً كانت أضرحة أو قبب أو مزارات، ويجب أن يوضع لوح حجري كبير على بوابة كل مقبرة تسببت بها أيدي الكهنوتية وساهمت بها فتن السلالية، وينقش عليه بالخط المسند والعربي بأن تلك جرائم وفتن بقايا الدخلاء والغرباء والشظايا من الكهنوتية السلالية!.