اِنتَقَل اليمن خلال القرن الماضي -على مراحل متفرقة- من وضع التجزؤ المزمن إلى وضع الدولة الوطنية الموحدة عام 1990م.
بعد مرور عقدين فقط من تلك اللحظة، راحت البلاد تتجه -على مراحل أيضاً- صوب حالة جديدة من التجزؤ لم تستقر على شكل حتى الآن.
الفرق أن حالة التجزؤ القديمة كانت تحمل في طياتها البذور الواعدة بوحدة الكيان الوطني عبر سيرة نضال تاريخية كبرى معلومة الاتجاه،
فاليمن الكبير منذ الستينات كان أفقاً ذهبياً تنمو باتجاهه وتتكامل مختلف الحركات والأفكار والعواطف والآمال.
في ظني ليس هذا هو الحال اليوم!
في يمن الأمس كان للبناء والتوحيد والتكوين فكره ورجاله وثقافته وأدواته، كما إن للتمزيق والتخريب في يمن اليوم فكره ورجاله وثقافته وأدواته.
مع ذلك لا ينبغي أن ننسى أن تخريب منطق وجود الدول، إذا بدأ، لن ينتهي عند حد من تلقاء نفسه.
فما تحتجُّ به لنقض وحدة سياسية في نطاق أكبر يمكن أن يحتج به غيرك لنقض الوحدات الجزئية على النطاق الأصغر فالأصغر.
أقصد إذا المسألة مسألة ادعاء نظري بالحق والاستحقاق، وإذا كان وجود الدول من عدمه يتوقَّف فقط على امتلاك حجج ودعاوى، سواءً بالحقيقة أو بالوهم، فما من دولة -مستقرة أو مستحدثة- ستكون في مأمن من التمزق إلى دويلات أو الغرق في هاوية لا قرار لها من الفوضى والعنف!
ثم إن الحُجج والدعاوَى التاريخية والثقافية والجغرافية التي لدى أنصار التقسيم الثنائي الجهوي (شمال جنوب) ليست بالضرورة أقوى ولا أوفر من الحُجج والدعاوَى التي يمتلكها أنصار التقسيم الثلاثي والرباعي والخماسي.
إنني لا أدري ما الذي يستطيع الغيور على وحدة جزء من اليمن (جهة أو منطقة أو قبيلة) أن يقوله لإحراج أو لوم الغيور على وحدة الكل اليمني!
التجزأة بعد توحيد تظل من أشد التجارب قسوة ومأساوية في تاريخ الأُمم والشعوب.
ولا فرق في هذه الحالة بين التقسيم إلى دولتين والتقسيم إلى ألف دولة.
كان سقراط محقاً عندما قال أنه لا يوجد شر أعظم من تمزيق دولة بعد أن كانت كتلة واحدة، ولا يوجد خير أعظم مما يضمها ويحفظ وحدتها.
جاء في قصيدة للدكتور المقالح أنه "كلما اتسع الوطن ضاقت أحزانه".
لمعة شعرية جذابة، لكن ما حظ الحقيقة فيها؟
لا ندري على وجه التحديد.
الشواهد تؤيدها حيناً وتنكرها حيناً آخر.
فهناك أوطان اتسعت وضاقت أحزانها، وأوطان اتسعت واتسعت أحزانها، وأوطان جمعت بين قلة الاتساع ووفرة السعادة.
ولكل حالة حكمها.
فيما يخص اليمن، عبارة المقالح صحيحة إلى حد كبير.
والمقالح بالفعل كان يعني بها اليمن، وقد جعل العبارة عتبة لقصيدة موضوعها الوحدة.
اليمن تاريخياً يتسع بالوحدة، وتضيق أحزانه بهذا الاتساع، ويضيق بالتجزؤ والانقسام، وتتسع الشرور والأحزان.
وكان المؤرخ اليمني محمد عبدالقادر بافقيه قد توصل إلى نتيجة كهذه لدى حديثه عن توحيد اليمن القديم: "وكانت دوافع إقامة الكيانات السياسية الكبرى [في اليمن القديم] تعكس رغبة الحكّام والمتنفذين في الدول [اليمنية] الأقوى في توسيع مجال سلطانهم لما يضفيه ذلك عليهم من أمجاد ولما يحققه من مكاسب مادية لهم ولأتباعهم.
ومما لا شك فيه أن الكيان الأكبر كان يقدم فرصة عيش أرغد لمن هو داخله، فالوحدة -حتى بتلك الصورة البدائية التي قد تبدو لنا فجّة- تقلل من العوائق أمام نمو الاقتصاد المحلي، وتقدم غالباً أمناً أفضل لمن يضمّهم هذا الكيان".
وقد كتب ألكسندر هاملتون، أحد آباء الولايات المتحدة الأمريكية، في الأوراق الفيدرالية، مجادلاً لصالح الاتحاد ضد الاتجاه النقيض، فقال: "إن الاتحاد الراسخ المكين سوف يكون أقوى حافز لخدمة سلام الولايات وحريتها باعتباره حاجزاً صلباً يصد الاضطراب والانقسام الداخلي فيها.
ومن المستحيل أن نقرأ تاريخ الجمهوريات الصغيرة في بلاد الإغريق وإيطاليا، دون أن تغمرنا مشاعر الاشمئزاز والرعب من الارتباكات التي ظلت تزعجها على الدوام، ومن التعاقب السريع لقيام الثورات فيها حتى أبقتها في حال تذبذب دائم بين أقصى الطغيان وأشد الفوضى".
وفي اليمن نستطيع القول أن ما لم يُدرَك بالوحدة من الخيرات والمنافع مُحال أن يُدرَك بالانفصال والتشرذم، وما لم يُدرَك منها بالجمهورية لن يُدرك حتماً بالإمامة.
لا أزعم أن هذه قاعدة عامة يصح تعميمها على كل الأقاليم والبُلدان، لكني أزعم أنها كذلك في ما يخصّ اليمن الذي نعرف، شماله وجنوبه، شرقه وغربه.
التاريخ القريب يخبرنا أن الوحدة كانت المهرب من شرور الوضع التاريخي الانقسامي السابق لها.
فما الذي تغير اليوم حتى نجد من يصدِّق أن الانقسام -إلى دولتين أو أكثر- سيكون هو الحل ولا شيء سواه، وقد كان هذا الانقسام قبل 22 مايو هو لُبّ المشكلة التي كان خطاب الوطنيين يُرجع الجانب الأكبر من شقاء اليمن وأزماته إليها.
لن يطول الوقت حتى نعلم مرة أخرى أن "الانفصال" لم يكن سبيل النجاة الأنسب لـ جنوب الوطن من "مرض" يَشقى به شماله!
صحيح أن التجزؤ السياسي يخلق مصائر وأحوال متعددة لكيانات صغيرة شبه منفصلة، لكن هذا التعدد في الحالة اليمنية يظل تعدداً كمياً لا نوعياً حاسماً:
مشهد حزين لـ قطع وأجزاء متناثرة ومتداخلة من بناية كبيرة محكومة بالخراب والسقوط بعد كل تكوين وارتفاع.
"فهي بالموضوع واحدة وبالقول كثيرة"، فيما لو استعرنا لغة الفلاسفة.
وهكذا، فإذا كانت الوحدة السياسية هي "الوجه الإيجابي" لوحدة المصير اليمني، فإن هناك دائماً "وجه سلبي" لوحدة المصير يعبر عن نفسه بقوة حتى في أعلى درجات التجزؤ.
هذا هو ما نعنيه بـ وحدة المصير الأبدي: يمنيون في الانحطاط وفي النهوض.
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك