من الأجدر بالعالم العربي، أنظمةً وشعوباً، التمعُّن والاهتمام بمضمون رسالة رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في تهنئته بحلول الذكرى الثالثة والخمسين لقيام الدولة الإماراتية. وإن جرت العادة أن يُوجّه قادة الدول كلماتهم إلى شعوبهم في المناسبات الوطنية، وإن كانت الحالة بروتوكولية في سياقها، غير أنه مع الظروف التي تعيشها شعوب المنطقة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ أكثر من عقدين، تبدو هذه الرسالة مهمة للغاية، وينبغي التدقيق فيها؛ لأنها تحمل مضامين عميقة تبدأ من مفهوم تجديد الهوية الوطنية العربية في الألفية الثالثة، مرورا بمضمون الدولة العصرية في نطاقها الشمولي العالمي، ووصولا إلى تثبيت قاعدة الدولة وجذورها. وتحمل الرسالة محفزات متعددة، وهي مكتوبة بخط اليد وبكلمات محدودة، لكنها مشمولة بدلائل هي الجديرة بالاهتمام.
من يعيش في البيئة الإماراتية قبيل احتفالات الذكرى الثالثة والخمسين لقيام الاتحاد، كان يشعر منذ أكثر من شهرين بأن البيوت الإماراتية تشهد حديثًا واحدًا عن مشاركة أبنائها وبناتها في “وقفة ولاء”، وهي الاصطفاف العسكري الذي أُقيم هذا العام بمناسبة مرور عشرة أعوام على صدور أمر الرئيس الراحل الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان – رحمه الله – في عام 2014، الذي أقرّ فيه قانون الخدمة الوطنية والاحتياطية. ورغم أن التجنيد العسكري غير مألوف في دول الخليج العربية، إلا أن الإمارات وضعت ضمن إعدادها لكوادرها الوطنية إلزام الأفراد بالخدمة الوطنية. وكان ملحوظا حجم الاهتمام الشعبي بالمشاركة في المناسبة، وهو ما يُعطي انطباعًا بأن المجتمع يشعر برضى عن مردود التجربة على أفرادها وما انعكس على الأسر، وبالتالي على التكوين المجتمعي.
تخوض الإمارات تجربة تقدمية متقدمة في إعادة تجديد هويتها الوطنية وفقا لما أقرّته في “وثيقة الخمسين”، وهي الإطار العام الذي صدر في الذكرى الخمسين لقيام الاتحاد. وتُمثّل هذه الوثيقة خارطة طريق ترسم رؤية واضحة للمستقبل، تهدف إلى تعزيز القيم الوطنية وتعميق الإحساس بالهوية، إلى جانب تحقيق التنمية المستدامة في مختلف المجالات. وقد تضمّنت الوثيقة خطوات جريئة لتطوير قطاعات حيوية، مثل الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التركيز على التعليم كدعامة أساسية لتشكيل الأجيال القادمة. وفي المضمون، هي تجديد للهوية الوطنية وفقا لمقتضيات الواقعية، فالدولة التي أسّسها الآباء نشأت في ظرفية زمانية مختلفة عن ظرفيتها بعد خمسة عقود. وفيما تتخبط الشعوب العربية وتتصارع فيما بينها، وجّهت الإمارات بوصلتها نحو نفسها لتُعيد إنتاج ذاتها.
وجّه محمد بن زايد رسالته التي كتبها بيده، مُحدّدا فيها شعب الإمارات، مواطنين ومقيمين. فهوية البلاد تقوم على الاندماج والشراكة، المواطن مع المقيم، الكل في هذه البلاد يتقاسم مسؤولية العمل، لذلك يتقاسم أيضا زهو المنجزات. هذه الفلسفة الوطنية صنعها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيّب الله ثراه – أولا، فهو الذي بذر فكرة الوطن المتصالح والمتعايش مع نفسه. قصة زايد وراشد التي يتم تداولها لتجسيد روح التأسيس الوطني في مضمونها، هي الرسالة التي خطّها محمد بن زايد ليؤكد أن في الإمارات فلسفةً أخرى، فيها التزام لكل من يعيش على أرضها. الجميع يعمل، كمواطن ومقيم، من أجل هدف واحد، وهو الإمارات. هذه نقطة جوهرية في فكر رجالات الدولة الإماراتية، وصنعت الهوية الوطنية.
لا يمكن لمقيم في الإمارات أن يعتبر نفسه بعيدا عن أن يكون جزءا فاعلا في حيوية العمل، ليس لمجرد كونه عملا يكتسب منه رزقه، بل لأن هناك شعورا يتملّكه بأنه أيضا شريك في عمل وطنيّ، من واجبه إنجاحُه، وليس فقط إنجازُه لمجرد الإنجاز. ما يحدث هو أن الديناميكيات دفعت الأفراد، مواطنين ومقيمين على حدّ سواء، ليكونوا نسيجًا موحّدًا منخرطًا في المؤسسات الوطنية والخاصة للعمل. هذه الفلسفة قد يراها الكثيرون في العالم أنها مُعقّدة؛ لأنها تنمّ عن فكرة أصيلة كان يؤمن بها مؤسّس الإمارات، زايد بن سلطان. الإرث الذي هو نفسه كان يؤمن به، وجسّدته أعماله في زمن ما قبل النفط وما بعده، صنع ميلاد الدولة، وهو ما تجتهد الأجيال التالية على تجديده.
في رسالة وجّهها محمد بن زايد، قدّم رسالة شكر لكل شعب الإمارات على ما تمّ إنجازه، وهي بالتأكيد محفّزٌ لما يجب إنجازه في السنوات الخمسين التالية. عندما يتمّ توصيف عهد محمد بن زايد بأنه عهد الصعود، فهو توصيفٌ يتطلّب استيعابًا أكبر لحجم المهام والمسؤوليات الموكلة إلى الأفراد لينجزوها لتحقيق الأهداف الكبيرة في كل المستويات. وتأتي المحفّزات من رأس القيادة باعتبار الشعب هو الصانع لهذه المنجزات. وقد جاء التفوّق الإماراتي بِريادتها من أن الكلّ يرى نفسه جزءًا من هوية الشعب. إنها فلسفةٌ مهمّةٌ يقدّمها محمد بن زايد في تجديد الهوية الوطنية لمحيطه من الأوطان التي تحتاج إلى أن تُدرك أنه بدون أن تمنح شعبها القدر الصحيح من التقدير والاحترام، فإنها لن تُنجز ما تُنجزه الدولة الإماراتية.
التفوق الإماراتي لا ينبع فقط من قوة الاقتصاد أو الحداثة في البنية التحتية، بل من رؤية قيادية تُقدّر دور الشعب في تحقيق هذه الإنجازات. هذا التقدير يعكس فهما عميقا لأهمية العلاقة بين القيادة والشعب كأساس لبناء دولة قوية ومستقرة. وما تُقدّمه الإمارات من تجربة ناجحة في تجديد هويتها الوطنية يحمل رسائلَ عميقةً للدول العربية. إنّ التقدير المتبادل بين القيادة والشعب، والاستثمار في الإنسان، والرؤية المستقبلية القائمة على الابتكار، هي عوامل رئيسية لتحقيق الاستقرار والازدهار. في الوقت الذي يعاني فيه العديد من الدول العربية من أزمات داخلية وصراعات مستمرة، تُقدّم الإمارات نموذجا للدولة التي استطاعت تحويل التحديات إلى فرص، وبناء مجتمع متماسك يعمل من أجل تحقيق أهداف مشتركة.
رسالة الشيخ محمد بن زايد ليست مجرد كلمات احتفالية، بل دعوة إلى التأمل والتعلم. إن الدول التي تسعى لتجديد هويتها الوطنية وبناء مستقبل أفضل لشعوبها، عليها أن تأخذ من الإمارات نموذجا للنجاح. الإمارات أثبتت أن الطريق نحو المستقبل يبدأ من الإيمان بقدرات الإنسان، ووضع رؤية واضحة للتنمية، وتعزيز روح الشراكة بين جميع أفراد المجتمع.