تُعتبر علاقة الإنسان بأرضه من أقدم وأعمق وأعقد العلاقات، وقد أرتباط الإنسان بـ تربة أرضه ارتباطاً وثيقاً منذ الأزل بعلاقة كاملة تُشكّل جوهر ذاته، وكينونة هويته، ومختلف مسارات حياته، فعلى أرضها ترعرع وسار، وفي تربتها زرع وحصد، وعلى سهولها ووديانها وجبالها وشواطئها شيّد الحضارات، وعنها كتب الروايات، وفي حبها نظم القصائد والأبيات، وعن تاريخها سرد سجلات الأحداث، وإن هٌجّر منها أوصى بدفن جثمانه في ثراها، ودارت حروب طاحنة للدفاع عنها، ومعارك دامية لـ التخلص من كل الغزاة والدخلاء الطامعين بها. وهناك مستويات متعددة لعلاقة ارتباط الإنسان بالأرض متمثلة بـ التسخير والتفكر والمحبة والألفة، وقد تصل إلى مستوى صداقة الأمكنة، وقد تتجاوز تلك العلاقة مرحلة الانتماء إلى مرحلة الولاء التام. وهنالك أشكال متنوعة للانتماء للأرض، منها الانتماء التاريخي والترابط الحضاري والاقتران القومي ذو الموروث المشترك (ويُعد أشد وأقوى انتماء)، أو الانتماء بالولادة فقط، أو الانتماء بالجنسية، أو الانتماء بالثقافة، أو غيرها.
تعرضت أرض سبأ وحِميّر للغزو قبل الإسلام، وبقي فيها بعض الدخلاء (أحفاد باذان) الذي تم تثبيتهم بأرض غيرهم من منظور ديني، وقدم البعض الآخر من بقايا الغرباء والشظايا (أحفاد الرسي) في القرن الثالث الهجري كـ "هجرة علم"، وجاءوا حفاة عراة هاربين مشردين مطاردين، ولم يكونوا يملكوا شبرًا واحدًا من أرض سبأ وحِميّر؛ ولكنهم بالماضي السابق والحاضر القريب وفي وقتنا الراهن، سلبوا ونهبوا أرض أبناء الشعب الذي تعاطف معهم واستضافهم، باستخدام أساليب قذرة متنوعة وطرق خبيثة متعددة؛ حتى وصل بهم الحد إلى ادعاء أن الله قد أستودعهم تلك الأراضي، وأن أجدادهم أوقفوا أراضي في القرون الماضية، و أن تلك الأراضي كانت ملكية خاصة لـ الأئمة السابقين، وميراث الأئمة اللاحقين!. وهنا تبرز علاقة جديدة مشوهة ما بين الغازي المحتل والأرض المسلوبة، علاقة استباحة واستغلال بحتة -لا علاقة انتماء أو أرتباط- قائمة على التضليل والتزييف والتجهيل وبث الفتن من أجل النهب والسلب والاستيلاء على أراضي أبناء الشعب بمختلف أنواعها وتقسيماتها وتصنيفاتها!.
وتنقسم الأراضي عمومًا بناءً على نوع الملكية إلى أراضي أملاك خاصة، وأراضي عامة (أو أراضي الدولة)، وأراضي الأوقاف، وأراضي أملاك جماعية (أو أملاك القبلية)، وأراضي أملاك مشتركة، وأراضي مشاعة، وأراضي الفضاء (غير المملوكة)، وغيرها. ولكل نوع من تلك الأنواع تقسيمات فرعية متشعبة، واستخدامات وخصائص وأغراض محددة؛ وذلك بهدف حماية الحقوق، وصون الممتلكات، وتنظيم الأملاك، وإدارة الموارد العامة لمقدرات الشعب.
عملت الكهنوتية السلالية على تغيير أنواع الأراضي وتبديل تصنيفاتها والتلاعب بتقسيماتها ونقل ملكيتها بين الفينة والأخرى، بناءً على امتداد نفوذ سُلطتها، ووفقًا للمساحة المتاحة لأيديها العابثة في أروقة القضاء، وطبقًا لموضع أرجلها القائمة على الأوقاف، وتبعًا لمستوى طول مخالبها العابثة بـ أرشيف سجلات الأراضي والعقارات.
حيث أقدم الدخلاء على نهب ومصادرة الأراضي الخاصة بأبناء الشعب المناوئين لهم، واستخدمت قفازاتها القذرة للتصرف بتلك الأملاك الخاصة عبر بيعها المتعدد الذي يٌصعب عملية استرجاعها. وقام الغرباء بتحويل الأراضي العامة للدولة المخصصة لخدمة المجتمع وأغراض البنية التحتية العامة إلى أراضي أملاك خاصة بـ الأئمة وسلالتها. وغيّرالشظايا أراضي أبناء الشعب من أملاك خاصة إلى أراضي أوقاف، ثم قاموا بتعديل الأوقاف العامة إلى أوقاف خاصة، وتبديل بعض أراضي الأوقاف من خدمة الأغراض الخيرية والتعليمية والخدمية ورعاية الفقراء والمحتاجين إلى أراضي أملاك خاصة بكهنة الآل، وأصبح يصب ريع ما تبقى منها في خزائن السلالية ويدر لبنها لتغذية فقاسات العكفة. وأَقْبَل الكهنة على تفكيك الملكية الجماعية (القبيلة) عبر بث السموم والفتن بين القبائل، وأصبحت بصائر الملكية الجماعية مفككة في خزائن الكهنة، وسلطت نافذين من قفازاتها القذرة للاستحواذ على الملكية المشتركة، واستفادت من أراضي الملكية المشاعة، واستغلت أراضي الفضاء الغير مملوكة، كونها صاحبة السلطة والثروة!.
وعند العودة لتتبع استراتيجيات الكهنوتية في وضع يدها على الأراضي في القرون السابقة، ستجد أن الكهنوتية استخدمت العديد من الاستراتيجيات والأساليب والطرق الخبيثة للاستيلاء على أراضي أبناء الأرض؛ حيث أصدرت الفتاوى التي أباحت الدماء وشرعنة نزع أملاك أبناء الأرض، وجيشت العكفة ودفعت بهم نحو سلب ونهب أراضي أبناء جلدتهم، ووضعت السلالية يدها على تلك الأراضي، فتشكلت الإقطاعيات الكبيرة التابعة للأئمة، وظهر الإقطاعيين السلاليين (أو من يمثلهم في الواجهة)، وأصبح أبناء الأرض معدمين تستغلهم تلك الأيدي المجرمة. ومارست السلالية أساليب التجويع الممنهجة على أبناء الأرض، وأثقلت كاهلهم بالجبايات والإتاوة والابتزازات، حيث اضطرت المزارعين من أبناء الأرض أما لبيع أراضيهم بأثمان زهيدة بخسة أو إلى الهجرة وتركها أو إلى العمل مع السلالية في أقطاعياتهم أو للعمل كـ عكفة تابعين خانعين لهم. وأيضًا، أقدمت الإمامية البغيضة على تهجير بعض أبناء الأرض من اليمنيين ذوي الديانات السماوية الأخرى، واستحوذت على أملاكهم. ولم تتوقف عند ذلك، بل بث السلالية سموم الفتن بين أبناء الأرض عبر تزوير بصائر الملكية لأحد الأطراف، ودفعت بالأطراف المتنازعة إلى فكي الثعابين، وتم مماطلة البت في قضايا الأراضي كونهم مسيطرين على مفاصل القضاء، وتم الاستيلاء عليها عبر طرق "الشريعة المتوكلية"!.
أما في عهد احتلال الدولة العثمانية لليمن، فقد كانت معظم الأراضي العامة (بما فيها أراضي الدولة الزراعية) تابعة لوالي سلطان الدولة العثمانية، وقد تم توزيع بعضها على العائلات السلالية مقابل تقديمهم خدمات معينة ضد أبناء الأرض، وعند خروج الأتراك من اليمن، أصبحت كل تلك الأراضي أملاك خاصة بـ الإمام يحيى حميد الدين وسلالته وحاشيته، وأصبحت عائدات الأوقاف تصب في خزينة الإمام؛ لأن خِزانة الدولة هي نفسها حزينة الإمام!. لذا، أصبح الدخلاء الغرباء إقطاعيين ومن كبار ملاك الأراضي، واختفى مسمى الأملاك العامة (أراضي الدولة)، وأصبح يطلق عليها بأملاك الإمام، وواصلت السلالية الاستيلاء على ما تبقى من أراضي أما بالقوة عبر عكفتهم وقفازاتهم القذرة أو بواسطة تزوير بصائر الملكية والتلاعب بها، أو بأخذها بطرق ملتوية و بأثمان زهيدة بخسة، أو بغيرها من الأساليب البشعة.
أما في العهد الجمهوري الأول، فقد تغلغلت الكهنوتية السلالية في المؤسسات المرتبطة بالأراضي والعقارات، وثبتت حضورها في مواقع مفصلية متمثلة بـ الأوقاف، وهيئة المساحة والأراضي، والسجل العقاري، والقضاء، والأرشيف، وإدارات التوثيق والسجلات، ولجان الاستثمار، وغيرها.
وفي بداية أحداث ٢٠١١م في صنعاء وغيرها من المناطق، نسقت الكهنوتية السلالية سريعًا مع بعض أبناء القبائل من العكفة الموالين لها، ممن لديهم مزارع صغيرة ومحاطة بأراضي واسعة تابعة للدولة، وقامت بتزوير البصائر وحولت أراضي الدولة تلك إلى أراضي حرة (ملكية خاصة)، على شريطة أن تقوم السلالية (القضاة والأمناء الشرعيين) بعملية الإشراف على تقسيم وبيع تلك الأراضي، بحيث يكون في الواجهة أبناء القبائل من أصحاب المزارع ولهم نسبة بسيطة من بقايا الفتات، وتأخذ الكهنوتية النسبة الكبيرة، وقد مثلت لهم مصدر هام للثروة ولدعم أنشطتهم المختلفة!.
وعند سقوط العاصمة السياسية بيد الكهنوتية السلالية في ٢٠١٤م، بدأت باستحداث بعض الآليات، واستخدام طرق منظمة وممنهجة لاستكمال الاستيلاء على الأراضي، وذلك بواسطة الهيئة العامة للأوقاف، والحارس القضائي، والهيئة العدلية، وهيئة المساحة والأراضي، والسجل العقاري، ولجنة الاستثمارات، ولجنة استثمار أراضي القوات المسلحة، وغيرها؛ وذلك لاستكمال نهب الأراضي بمختلف أنواعها وأشكالها، وتسهيل عملية السيطرة على كافة الأنشطة العقارية وتجييرها لمصلحتهم. ولم تتوقف عند ذلك الحد، ولكنها حاولت نزع الأملاك الخاصة لأبناء الشعب بواسطة أخرج وثائق مزورة على أنها وثائق وقفية تاريخية للإمامة السابقة من القرون الماضية (السادس والثامن الهجري)، تنص بأن الأراضي في محيط صنعاء وغيرها من المحافظات، هي أراضي وقفية لأجدادهم الأئمة (الحفاة العراة المشردين الذين استضافهم اليمنيين).
ولا تزال الكهنوتية السلالية مستمرة بعملها الممنهج للسطو على ما تبقى من أراضي، حيث حولت أراضي الدولة ومزارعها إلى أرضي خاصة بها، وضاعفت إيرادات الأوقاف لتصب في خزائنها ولـ تسهم في زيادة إنتاج فقاساتها، وشكّلت جماعة النهب المنظمة تحت مسميات لجان عدة، واستبدلت العدد القليل من الأمناء الشرعيين المحسوبين على أبناء الشعب بأمناء شرعيين سلاليين تابعين لها، ووزعت أراضي الدولة تحت مظلة الاستثمار والمستثمرين (لـ السلاليين أو من يمثلهم)، وافتعلت الحرائق لطمس أرشيفات التوثيق المرتبطة بالأراضي، واستخدمت ذريعة المصلحة العامة والضرورة العسكرية لـ انتزاع الأراضي والملكيات الخاصة، وحاولت اِمتِشَال الوثائق الأصلية عبر مطالبة جميع ملاك مباني المدن السكنية بتسليمها نسخة من أصل أوراق ملكيتهم، وفرضت حجز على أراضي واسعة داخل المدن ومنعت أصحابها ممن لديهم عقود تمليك من أي بناء أو استحداث بمزاعم أنها ملكية القوات المسلحة، ورفعت لافتة المشاريع الخدمية والصناعية كـ غطاء لنهب ما تبقى من أراضي الدولة والأوقاف وتوزيعها بين أفراد العصابة السلالية.
والأسباب الرئيسية التي مكنتهم من عمل كل ذلك -سابقًا ولاحقًا- ناتجًا من أن بأيديهم السلطة (الولاية)، وفي خزائنهم الثروة، وشكّل لهم العكفة الحماية والقوة، إضافة إلى سيطرتهم على مواقع وظيفية متعددة وشبكة مترابطة سواءً على مستوى القضاء، أو الأمناء الشرعيين، أو التحكم بالأرشيفات، أو السيطرة على إدارات التوثيق والسجلات، أو التغلغل بجميع مفاصل الهيئات والمؤسسات والدوائر ذات الصلة بالأراضي والعقارات.
وانتهى المطاف بأن أبناء الأرض لا يملكون بضعة أمتار في أرض آبائهم وأجدادهم، وأفنوا أعمارهم وزهرة شبابهم في الادخار للحصول على بضعة أمتار لبناء مساكن لهم، التي تم شراؤها من الدخلاء، ودفعت أثمانها وعادت ثمارها لـ السلالية؛ بينما أضحت الكهنوتية السلالية ممن لم يكونوا يملكون شبرًا واحدًا، من أكثر العائلات التي تملك أراضي بمختلف أنواعها وفي أهم المواقع (المدن ومحيطها)!. بل أن بعض المحافظات صار أكثر من ثلثي مساحتها أراضي أوقاف، وأصبحت الكهنوتية السلالية هي صاحبة الأوقاف العامة والخاصة، ووصل الحد إلى عمل أوقاف لرعاية حمامات مساجد خارج إطار جغرافيا الدولة؛ بينما أبناء الشعب من أصحاب الأرض يتضورون جوعًا ويعانون الجهل والمرض!.
قبل الختام، لقد شكّلت عائدات الأراضي موارد مالية ضخمة لـ الكهنوتية، وثروة هائلة لـ السلالية، جعلت منهم المسيطرين ماليًا والمتحكمين سياسيًا واقتصاديًا والمُهيْمنين عقاريًا، وسهلت لهم دعم أنشطتهم وتنفيذ أجندتهم، عن طريق صناديق سلالتهم المالية، ومجالس عنصريتهم السرية، وشبكات استثماراتهم الخارجية!. ولا بد من الإشارة هنا، أنه في خمسينات القرن المنصرم، أسست الكهنوتية السلالية صندوقًا ماليًا بمعونة الإمام البغيض أحمد، وتبرع للصندوق أصغر عامل تابع لـ الإمام حينذاك بـ ٥ آلاف جنيه استرليني، وجزء من تلك الأموال كان مصدره من ما استولوا عليه من أراضي وعقارات أبناء الشعب الذي استضافهم، وكان الهدف الأساسي من الصندوق المالي هو محاربة القومية والقضاء على المنادين بالإصلاح في اليمن؛ وذلك لأن القومية ببساطة تعني عدم وجود الشظايا والدخلاء والغرباء من عصابة الكهنوتية السلالية!.
ختامًا، يجب فحص وتدقيق ومراجعات كافة سجلات الأراضي، والتوعية بعدم الشراء من الكهنوتية السلالية (أو ممثليها من القفازات القذرة)، والتحذير من عدم التعامل مع أي وثائق صادرة منها، واستعادة كافة الأراضي بمختلف أشكالها من فكيها، والتركيز على المفاصل الوظيفية الهامة المرتبطة بالأراضي سواءً في المؤسسات أو الهيئات أو الإدارات، وأتمتة أرشيف كافة سجلات توثيق الأراضي، وأتمتة السجلات العقارية؛ وذلك لمنع التلاعب والتزوير والعبث بها. لقد أعادت الجمهورية الأولى مساحات من الأراضي لصالح الدولة وعامة الشعب، واسترجعت بعض ممتلكات أبناء الشعب، التي تم نهبها وسلبها من قبل السلالية الكهنوتية وقفازاتها القذرة؛ وسوف تستعيد القومية اليمنية كافة الأراضي والحقوق والممتلكات وتعيدها إلى أهلها من أبناء الأرض، طال الوقت أو قصر.