لا تتحرر العقول بسقوط الأصنام السياسية وحدها، فما لم تتخلص من الأفكار والغرائز العميقة التي توجه لاوعيها السياسي فستعيد انتاج صنم جديد بعد سقوط الأول.
ويبدو أن اللاشعور السياسي العربي (الجابري) لم يتحمل سقوط صنم وكاريزما حسن نصرالله فسارع لتنصيب صنم جديد هو الجولاني. ولا اتحدث هنا عن بعض اخوتنا السوريين بل عن العرب الذين تسمرت اعينهم على الاحداث السورية المتسارعة وصاروا يبحثون فيها عن نموذج أو إلهام للتغيير.
وعبر عشرات المقالات والمنشورات والمساحات يتم تقديم نموذج الجولاني العسكري والجهادي والذكوري صنما جديدا للخلاص.
بل أن اصدقاء ملحدين ولادينيين هاجموني على الخاص والعام لأنني شكّكت في الطاقة الخلاصية والنموذج الملهم للزعيم القادم من أغوار دا$ش والقا$دة ليعيد بعث الربيع العربي ويبني دولة المواطنة والحريات من قلب العروبة السوري.
هو صلاح الذين وخالد بن الوليد، وهو القائد وهو الاب، وهو المجاهد وهو المقاتل الشجاع، وهو الواثق والحاسم والداهية والبراغماتي.. لأذكر عينة من صفات التبجيل التي ظهرت خلال اقل من اسبوعين.
في مساحة على منصة إكس لنخبة يمنية تم الإجماع أن سبيل الخلاص هو البحث عن جولاني يمني او بنسخ تحربته الى اليمن! مجرد نموذج بسيط لجنون تقديس الزعامات.
حصل الجولاني على لقب "القائد " بكل حمولته البطريركية.
القائد ليس سياسيا او عسكريا عاديا، انه حموله من الرموز والرسائل والالهامات. فشل تجربته في إدلب وفسادها ليس مهما. المهم هو الرمز حتى لو كان كاذبا. وفساده ودمويته حتى ضد اصدقائه واعضاء جماعته ليس مهما. سيتم نسيانه لصالح صورة القائد القادر على التحكم في الاحداث ونشر احساس الأمان والقدرة.
عجزه أمام التوسع الاسرائيلي ليس مهما، وارتهانه لتركيا ليس قضية جوهرية. دائما كانت فحولة القائد السياسي موجهة نحو الداخل-البيت، أما الخارج فهو يخلع فحولته وشاربه ويلبس عباءة السياسة الناعمة والأنوثة السياسية المرفوضة داخليا. نموذج “سي السيد” الصارم داخل بيته والمتفلت خارجه ليست شخصيةً درامية فقط، هي حقيقة سياسيّة وشعورية عربية.
صعود "سياسة الرجل القوي" ظاهرة عالمية.
ترمب مثلا نسخة مؤمركة منها. شعبوي معاد للحريات والدستور والقوانين لكنه قادر على جذب غرائز الجماهير بنموذج الفحولة السياسية الذي يقدمه: الزعيم القوي الصلب المقاتل الخشن القادر بالقوة والعنف على انجاز ما لا يمكن انجازه بالسياسة.
واستدعاء ترمب للمصارع الاسطوري هالك هوجن لافتتاح حملته الانتخابية بشاربه العريض وعضلاته وحركته المشهوره بتمزيق القميص رسائل لا تخطئها العين لعودة نموذج الرجل الفحل الذي يحتج على تأنيث السياسة (الديمقراطية) وتأنيث المجتمع (المساواة) ويعيد الأمور الى حالتها "الطبيعية" حالة alpha male الذي يقود القطيع بقوة ويخضع الرجال ويستولي على عقول وخيالات النساء.
تداول المعجبون صور المذيعات المحجبات بجانب الجولاني كنموذج واضح للفحولة السياسية والرمزية.
الذكر المسيطر يفرض اجندته على الإناث مثلما ان القائد القوي يفرض سيطرته على الفصائل المسلحة وعلى السياسة.
يتم تكثيف تدوال صور الجولاني بنظراته الحادة والصارمة وقامته الطويله مع اختيار الصور التي تضعه في المركز وفي وضع اعلى من الاخرين .
في المقابل يتم نشر صور بشار الأسد وزوجته في لحظاتهم الأسرية العائلية البسيطة (السباحة، الرحلات العائلية، جلسات البيت، الولادة، اللعب مع الاطفال، ملابس السباحة ) بصفتها النقيض التام للفحولة الجولانية.
تختفي صورة بشار الديكتاتور الدموي لانها تحمل شحنات فحولة هائلة لتظهر مقابلها صورة الرجل الناعم بابتسامته المنزلية اللامبالية ونعومة حياته اليومية.
الفتاة السورية البسيطة التي طلب منها الجولاني تغطية شعرها لكي تلتقط صورة معه دافعت عن ذلك لان الجولاني، حسب تعبيرها طلب ذلك بنوع من "الأبوية" وتحت دافع "الغيرة" على بنات بلده وبحقه في الظهور بالمظهر الذي يريد. الأبوية والغيرة يعض من قيم الذكر المسيطر والقائد المحافظ فهو ليس "أب" الفتاة فقط هو أب الجميع، و"غِيرته" لا شك ستشمل كل النساء التي افلت شعرها من معايير الغيرة وحراسها.
لكن ما غاب عنها ان تحجيب المرأة رمز لسيطرة الذكر على جسدها وحريتها وضمان عدم اقتراب الذكور الاخرين منها. لكنه على المستوى الاشمل فلسفة كاملة حول المراة كعورة وحول البيت كمملكة طبيعية لحياة المراة وموتها.
الاخضاع الدي يمارسه الرجل القوي يمتد الى الذكور ايضا.
في المقابلة التي أجراها احمد منصور مع الجولاني عام 2015 في بداية تسويقه قطريا، كانت لغة الجسد لا تخطيء.
احمد منصور المعروف بتعاليه على ضيوفه كان جالسا في وضعية الانزواء وانكماش الجسد ورأسه مطاطيء ويتحدث بصوت خفيض منعم النبرات.
من الشمبانزي الى الانسان هذه لغة الجسد المعبرة عن الخضوع.
مقابلات مذيعي قناة العربية الذكور لم تخرج عن هذا الاطار. حالة الافتتان بشخصية الجولاني كانت واضحة على موفد العربية طاهر بركه الذي قصي ربع ساعة على الهواء يتحدث بافتتان عن شخصية الجولاني
وثقته وقوته وحرسه القليل و"قبوله" بالتصوير معهم!
كان أشبه بمعجب يلتقي بنجمه المعبود وليس صحفيا يسائل سياسيا ويفند اطروحاته كما يفترض بالصحفي ان يكون.
لكن الاعلام المفتون ياخذ تصريحات "القائد" بلا تمحيص ولا مساءلة. فلم يسائله احد حول واقعية وعد رفع الرواتب بنسبة 400% ولا حول الانفراد بالسلطة وتهميش بقية قوى الثورة. القائد فوق السياسة كما هو فوق البشري العادي.
في الاسابيع التي تلت 7 اكتوبر نشر موقع العربي الجديد (الاسلاموي المحافظ) مقالا لكاتبة "موالية" تتحدث فيه عن رجولة أبو عبيده وتقول انها تحلم بزوج مثله وتتخيل ابو عبيدة وهو يمارس الجنس مع زوجته ملثماً.
كانت تلك فترة الانجذاب النسائي الجماعي نحو أبو عببده كنموذج للرجل القوي الخطير الغامض الذي يتمناه قطاع عريض من الفتيات العربيات.
بدأ الآباء ينشرون فيديوهات لاطفالهم بلثام ابو عبيدة وهم يقلدون حركاته وتهديداته. بالنسبة للرجال مثل ابو عبيدة رمزا لاستعادة الرجولة المفقودة امام اسرائيل (الهزائم التاريخية) وأمام الانظمة (القمع والإهانة).
كانت ايضا عودة جماعية نحو سياسة قائد القطيع المحفورة داخل جيناتنا. كان بقاء القطيع في ازمنة ما قبل الحضارة يعتمد على القائد القوي الذي يقوده غرائزيا نحو المراعي الخصبة ويلهمه في معاركه ضد الاعداء.
لقد اختفى الرجل القوى طويلا خلف القيادات السياسية العاجزة والفاسدة، لكن ها هو يعود من جديد (السنوار، نصرالله ، ابو عبيدة، الحوثي).
لكنها كانت عودت سريعة ما لبثت ان سقطت تحت آلة الحرب الاسرائيلية الفائقة.
اختفى الرجل القوى ليظهر البطل الشهيد والقائد المأساوي (السنوار، نصر الله) لكن البطل الشهيد غير قادر على إثارة طاقات الدوبامين الهائلة عند الملايين.
لهذا كان لابد من خلق صنم جديد.
بدأ وعيي السياسي مع أزمة الخليج 1990 واحتلال صدام للكويت، ومنذ ذلك الحين وانا الاحظ اننا نكرر نفس الاخطاء في كل حدث سياسي محوري.
تقديس الزعيم الملهم والمنقذ المنتطر، التعامي عن الواقع والعيش في اوهام التغيير السريع الذي سيقود الى المدينة الفاضلة باقل مجهود.
الجولاني اداة من ادوات تركيا وتاثيرها عليه لا يقل عن تاثير ايران على حسن نصر الله او الحوثي.. نعم، الجولاني لن يحارب إسرائيل ولن يذكر اسم الجولان لان في ذلك نهايته، لكنه لن بقاوم المطالب التركية لإدارة معاركها بالوكالة عندما تحين الفرصة.
لقب القائد كان أبرز القاب بشار الأسد. وشعار ان سورية ستضيع لو رحل الاسد هو نفس شعار المفتتنين بالفحولة الجهادية الجولانية. وكأننا أمام تجسيد فكاهي آخر لرواية "مزرعة الحيوان" وعجز عن ايجاد أي فرق بين الثائر الصاعد والديكتاتور الساقط.