آخر تحديث :السبت-29 مارس 2025-05:27ص

‏في رحاب الأستاذ

الأربعاء - 26 مارس 2025 - الساعة 05:04 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


حين تُطلق كلمة الأستاذ هكذا مجردة في أدبيات الأحرار، فإنّ الذهن ينصرفُ تلقائيا إلى أستاذ الأحرار المناضل أحمد محمد نعمان، رحمه الله، المولود في السادس والعشرين من أبريل 1909، في منطقة التربة بمحافظة تعز، من أسرة مشيخ وعلم وجاه ومال.


جمع آل نعمان بين المشيخة القبلية والسياسة، كما تميزوا بسعة الثقافة والتضلع في الأدب والشعر، على نحو نادر، من بين أغلب المشيخات، ما جعلهم قريبين من جميع الناس؛ أي أنها مشيخة مستنيرة، مثقفة، سياسية، لا كتلك المشيخات التقليدية التي عُرفت بها بعض المناطق التي يمثل الشيخ فيها إمامًا آخر..!


وقد كان لهذه الأسرة ــ ولا يزال ــ ميولات صوفية مكتسبة، توارثوها عن الآباء والأجداد، كما هو الشأن مع أغلب الأسر في تلك المنطقة وغيرها من مناطق اليمن التي تأثرت بصوفية الدولة الرسولية، بما تكتنزه الصوفية من القيم الإنسانية والأخلاقية النادرة. وهي قيمٌ عززت في الناس الزهد في جانبه الإيجابي، كما عززت فيهم روح المقاومة والكفاح للظلم، لأن المتفاني روحيا في الذات العلية لا يستسيغ عبودية البشر مهما كان. روح الصوفي تصمدُ بشموخ في مقاومة أعاصير الحياة، وفي مقاومة الطاغية والمستبد.


منذ البواكير الأولى لنضال اليمنيين ناوأت مشيخة آل نعمان بالحجرية طغيانَ الإمامة، إلى حد أنه ما ذكر النضال اليمني إلا وتبادر إلى الذهن مباشرة اسم الأستاذ نعمان، مقرونا بالزبيري، وبنجله محمد.


مثلت هذه المشيخة عضادة فكرية وسياسية في مسيرة النضال الوطني التي تشكلت من كل ربوع اليمن، بإلهام نادر، لا يزال إلى اللحظة يحتل زخم المكان والزمان، وقد أنكر الرجل ذاته، متماهيا مع روح القضية الوطنية الكبرى.


التحق بكتاب القرية صغيرا، وعمره سبع سنوات، في العام 1916م، وفيه أكمل قراءة القرآن الكريم ومبادئ اللغة والحساب وعلوم الدين واللغة في العام 1922م، ليلتحق في نفس العام بمدينة زبيد التي كانت تُسمى مدينة العلم والعلماء، وكان من أكمل دراسته في أربطتها ونال إجازة مشائخها صار عالما، وقد تخرج منها الأستاذ في العام 1931م، فعاد إلى قريته عالما في اللغة والدين والتاريخ والآداب، فأسس مدرسة في مدينته ذبحان، وإليها توافد طلبة العلم من مختلف المناطق المجاورة.


لقد آمن بالتعليم مدخلا إلى الإصلاح، وكان ذلك مبدؤه الذي التزمه، وآمن به طوال حياته، كما يذكر المؤلف عبدالرحمن بعكر في كتابه ثمانون عاما من حياة النعمان؛ ما أقلق كهنة السلطة الإمامية يومها، فأغلقتها، ووضعت الأستاذ تحت الإقامة الجبرية في تعز.


ولما لم يطق البقاء تحت الإقامة الجبرية غادر اليمن إلى القاهرة للالتحاق بالأزهر، ضمن البعثة العدنية التي ترأسها بتكليف من رئيس نادي الإصلاح العربي الإسلامي أحمد محمد سعيد الأصنج، لاستكمال دراسته العلمية، لينال بعد أربع سنوات شهادة "العالِمية" من الأزهر الشريف. وفي القاهرة انفتح على عوالم جديدة، من الصحافة والثقافة والشخصيات العربية المرموقة والجدل الفكري المتماوج آنذاك. وبين هذا الجو بدأ بتبني قضية اليمن والنضال بالكلمة مع رفاقه الأحرار، فأصدر أول وثيقة سياسية نضالية، وهي "الأنة الأولى" التي بعثها إلى ولي العهد السيف أحمد، كما كتب المقالات الصحفية في الصحف القاهرية آنذاك.


في العام 1940م تم تأسيس كتيبة الشباب اليمني من قبل أبرز الوجوه الشبابية الثقافية المتواجدة في القاهرة من الجنوب والشمال على حد سواء، وكان الأستاذ نعمان أحد أبرز وجوهها. ومن يومها توثقت علاقته أكثر مع رفيق دربه أبي الأحرار محمد محمود الزبيري اللَّذَين سلكا معا طريق السلم في البداية، ثم طريق النصح، فالمعارضة الهادئة، فالصيحة الغاضبة، وصولا إلى التثوير، بعد رحلة طويلة من التنوير.


عاد الأستاذ نعمان إلى اليمن في العام 1941م، وتولى إدارة معارف لواء تعز، مقتربا من مقام السيف أحمد الذي قرب إليه نخبة تعز آنذاك، وقد التحق به الزبيري أيضا بعد خروجه من سجن الأهنوم في صنعاء، لا حبا فيهم، وإنما منافسة لأخيه السيف عبدالله الذي أدنى منه نخبة صنعاء، وكان كل منهما يتوجس من الآخر. وخلال هذه الفترة أطلق عليه خطيب اليمن، كما أُطلق على الزبيري أمير شعراء اليمن.

ولم تدم هذه العلاقة كثيرا، فغادر الأستاذ نعمان ومعه رفيقه الزبيري إلى عدن، أواخر العام 1943م، ليؤسسا حزب الأحرار في عدن مطلع العام 1944م، ومعهما كوكبة من الأحرار.

في العام 1946م أسس نعمان والزبيري ورفاقهما الجمعية اليمانية الكبرى التي رأسها الزبيري أولا فالسيف إبراهيم لاحقا.


حين قامت الثورة الدستورية عام 1948م تم تعيينه فيها وزيرا للزراعة، ولم تدم أكثر من شهر واحد، دخل بعدها السجن حتى العام 1950، وكان البعض ينادي بإعدامه ضمن من تم إعدامهم آنذاك.


في الخمسينيات واصل نضاله من عدة منصات نضالية أبرزها خلال هذه الفترة الاتحاد اليمني في القاهرة، وكان الأب الروحي للمناضلين الأحرار، ومرجعيتهم الأول.


وقد ذكر الزبيري أن ترخيص صحيفة "صوت اليمن" الذي استخرجه في القاهرة قد ظل في الرف حوالي سنة كاملة، إذ لم يجد من يتبنى إصدارها ولا نفقاتها، وحين لحقه الأستاذ نعمان إلى هناك صدرت الصحيفة بعد وصوله بستة أيام فقط.

وبحسب المناضل محمد عبدالواسع الأصبحي "الخويل": لم يكن المغتربون يثقون إلا بالأستاذ نعمان، ولم يكونوا يرسلون تبرعاتهم إلا له، سواء أكانوا من لواء إب أو من لواء تعز أو من صنعاء". ومع ذلك لم يسْعَ ليكونَ هو المتصدرُ دومًا، بما له من فضلٍ على رفاقه، وعلى القضية بشكل عام.


يقول الأستاذ نعمان في مذكراته: قد أتضورُ جوعًا، لكيلا أنفق أي مبلغ إلا في سبيل القضية، في طباعة، في نشر، في برقيات، في مذكرات، لمن يعمل "في مقابل عمله"، وأنا مع أولادي نعيش في عدن كأبأس المخلوقين. وكان الزبيري يعرفُ الحقيقة ويشاركنا هذا.


قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر وكان واحدا من أبرز وجوهها، وشغل بعدها عدة مناصب سياسية: وزيرا، فرئيسا للوزراء، فعضوا في المجلس الجمهوري. يرافقه في كل المحطات السابقة نجله العبقري محمد.


كان الأستاذ نعمان من المدركين بعمق للقضية اليمنية بجميع أبعادها التاريخية والاجتماعية والثقافية، فنادى بتأسيس دولة تعتمد على نفسها، وعلى أبنائها بالمقام الأول، دولة النظام والقانون.


وقد غادر اليمن إلى المملكة العربية السعودية، وفيها أمضى بقية حياته، بين كتبه ومع أصدقائه.

في العام 1995 كرمه الرئيس علي عبدالله صالح، ومنحه وسام الجمهورية، أعلى وسام في الدولة؛ تقديرا لنضاله وعطائه الوطني ودوره في صنع القضية الوطنية.

وفي 27 سبتمبر 1996م وافته منيته في جنيف بعد رحلة طويلة من النضال والكفاح، وأعيد جثمانه إلى صنعاء، ودفن بمقبرة الشهداء بصنعاء.

د. ثابت الأحمدي