( لولا قدرتنا على النسيان لاختنقنا بالذكريات )
لولا اللغة والذاكرة لما كان هناك تاريخ ولا آلهة ولا حضارة ولا ثقافة والكائنات التي لم تشملها الذاكرة لا أحد يعرفها. يقال إن الأرض منذ بدايتها عرفت أكثر من ثمانية ملايين من الكائنات الحية، تمكن الإنسان من معرفة مليون كائن منها فقط؟ فما هي علاقة اللغة بالذاكرة؟ وماذا يحدث للإنسان حينما يفقد ذاكرته؟ وهل لدى الحيوانات قدرة على التذّكر؟ وما الفريق بينها وبين الإنسان؟ وماذا يحدث للكائن حينما يفقد الذاكرة؟ ثمة أسئلة كثيرة تواردت إلى ذهني وأنا اقرأ في موضوع الذاكرة والنسيان والهوية منها : أيهما أهم الأسم أم الجسم؟ وكيف يمكن للكائن يعرف ذاته إذا فقد الذاكره؟ أقصد هنا النسيان المرضي وليس النسيان الصحي الذي يعد أهم وظائف الذاكرة ذاتها بحسب مارسيل بروس الذي أكد في كتابه المهم ، الذاكرة والنسيان بان النسيان ليس مجرد غياب للذاكرة، أو نقص فيها كما شاع الاعتقاد بل هو آلية عقلية حيوية فاعلة، في قلب الذاكرة ومن دونه سوف تختنق الذاكرة. ومن وظائف النسيان المهمة يمكن الأشارة إلى :
اولا: فلترة الدماغ أو العقل الذي يتلقى كل يوم كميات هائلة من المعلومات والصور والرموز، ولو حاول الفرد الإنسان الاحتفاظ بكل شيء يفعله أو يحدث له أو يمر به كل لحظة في حياته لبات مثقلًا وغير قادر على التركيز فالنسيان يسمح بالاحتفاظ بالمفيد والتخلي عن غير الضروري فما أتعسنا بدون ملكة النسيان الذي يساعدنا على تجاوز المواجع والصدمات والأحداث المؤلمة؛ كالعجز والفشل والقهر والظلم والحرمان والأحزان وفقدان الأحبة وتعب الولادة فلولا نسيان النساء لآلم المخاض ووجع الولادة لما لتوقفن عن اعادة التجربة😍 وهكذا يمكننا النسيان من تجاوز ذكريات الخبرات والتجارب المحبطة والمؤلمة التي نمر بها كل يوم في حياتنا فلولا قدرتنا على نسيانها لما استطعنا الخلود إلى النوم ولما استعنا مشاعرنا وطاقاتنا الايجابية المفعمة بالأمل والتفاؤل مع بزوغ شمس كل يوم من جديد فلا شيء يستحق التوقف عن الاستمرار في الحياة طالما ونحن موجودون إذ على المرء إن يقوم بردة فعل كي لا يموت من القرف! حتى اليأس ذاته هو ضربة القدم الأخيرة التي نوجّهها للبؤس والغباء! فكم هي تلك المواقف والتجارب والاحداث المؤلمة التي إذا لم نتمكن من نسيانها لو استطعنا العيش أبدا. وعلى هذا الأرض ما يستحق الحياة!
ومن وظائف النسيان تحديث المعلومات البالية واستبدالها بالجديدة عندما تستدعي الحاجة الحيوية والحرية للتفعيل والتجديد حتى لا تتحجر أدمغتنا وتتصلب معارفنا وتتخلف حياتنا.
كما، ننسى أحيانًا طرقًا قديمة لحل المسائل عندما نتعلم طرقًا أكثر كفاءة وسرعة وسهولة فالدراجات الهوائية آنست الناس تعلم ركوب الحمير والسيارات أنستهم ركوب الجمال والطائرات حققت لهم الحلم بالطيران .الخ
والعقل مثل الأرض مهما كانت خصوبتها لا يمكنها إن تنتج أطيب الثمار بدون حراثة ورعاية وكذلك هو عقل الإنسان لا يمكنه إن ينتج الأفكار والمعارف المفيدة بدون قراءة مستمرة فالقراءة هي أوسع الطرق إلى المعرفة التي لا تزدهر إلا فضاء حر وسياق رحيب وخصيب وأمن كما هو حال بعض النباتات الشتوية التي تنمو داخل بيوت زجاجية شفافة تسمح لاشعة الشمس والأكسجين بالدخول إما إذ طليت الجدران والنوافذ بالسواد والرماد كما هو حال الحروب والقمع والاستبداد فلا تنمو إلا الطفليات والجراثيم السامة والنسيان هو مروحة الحرية وفعاليتها في إهمال التفاصيل غير المهمة التي قد يزدحم بها الدماغ وحذفها منه بما يمهد بقاء هامش من “الفراغ” الذهني المعرفي الذي يساعد على الربط بين الأفكار بطرق جديدة، وهو أساس الإبداع فالنسيان يعمل كآلية “تنظيف” للعقل، مثلما تقوم البرمجيات بحذف الملفات المؤقتة.
فضلا عن دور النسيان في توازن العلاقات الاجتماعية وجعلها ممكنة في تجاوز الزلات الصغيرة أو المواقف المحرجة التي تحدث كل يوم بين الفاعلين الاجتماعيين فما اعظم النسيان في ازمنة المحن والخذلان وربما هناك مميزات كثيرة للنسيان الصحي بوصفه فعالية للتجدد والتغيير والإبداع لا يحتملها هذه العجالة ويهمنا هنا الاشارة إلى مخاطر النسيان المرضي أو فقدان الذاكرة فقدان (Amnesia)، هو حالة تؤثر على القدرة على تذكر المعلومات أو تكوين ذكريات جديدة. ويمكن أن تكون مؤقتة أو دائمة، جزئية أو كاملة، في حالات فقدان الذاكرة الشديد، قد ينسى الشخص من هو، وأين يعيش، ومن هم أفراد أسرته. تصبح الذات مشوشة، وكأن الذاكرة التي تصنع هوية الفرد قد مُسحت وبهذا المعنى يصبح الاسم أهم من الجسم احيانا فكيف لمن فقد ذاكرته إن يعرف نفسه للآخرين؟
وما مخاطر النسيان المرضي عدم القدرة على تكوين ذكريات جديدة، إذ يصبح الشخص غير قادر على التعلم من التجارب أو التذكر من اللحظة إلى الأخرى. مثلًا، قد ينسى فاقد الذاكرة ما فعله قبل دقائق فضلا عن نسيان الأقارب والأصدقاء، والتجارب المشتركة مع المجتمع الذي يؤدي إلى عزلة الفرد عن وسطه الاجتماعي فالروابط العاطفية مع الآخرين تعتمد إلى حد كبير على الذاكرة ومن مخاطر فقدان الذاكرة اضطراب المصاب في ضبط المهام اليومية كتناول الطعام، الذهاب إلى العمل، أو حتى استخدام الأدوات التقنية والاجهزة ومنها ( وسائل التواصل والمواصلات) وهذا ما يسبب له
الشعور الدائم بأن هناك شيئًا مفقودًا، أو عدم فهم ما يجري حولك، قد يولد حالة من القلق والاكتئاب والخوف من العالم.
وسوف نكتشف إن الذاكرة هي مفتاح السر في بحث الإنسان عن الخلود وتشديد الصروح الحضارة كالاهرامات الفرعونية بل وربما يكون الدين ذاته هو تقنية الذاكرة بازاء الموت والزمان،
لقد دفع الانسان خوفه الشديد من التغير والزمان الى البحث عن الله الواحد الاحد القوي الثابت قال تعالى: «فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما افل قال لا احب الافلين﴿76﴾ فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما افل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من الضالين﴿77﴾ فلما رأى الشمس بازعة قال هذا ربي هذا اكبر، فلما أفلت قال يا قوم اني برئ مما تشركون﴿78﴾ اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض، حنيفا وما أنا من المشركين» يقول كولن ويلسون: «والحق ان الدين نفسه استجابة للغز الزمان الاساسي . افتقار الانسان الى الامن حين يحيا في الحاضر. واعياً بابعاد الماضي والحاضر التي تسحقه في كون لا يمتلك سلطاناً مباشراً عليه والمحاط بخطر الموت والفناء الظاهري. "والحل الذي تقدمه معظم الاديان هو تأكيد على نمط للوجود يتحقق بالخلود والتعالي والابدية، بغير بداية ولا نهاية مبرءاً من الاخطاء ومنزهاً من التغير فالدين يعمد الى ادماج الحاضر الأرضي والطبيعي والإنساني في الماضي والمستقبل"
لقد تطورت الذاكرة عبر التاريخ من اللحظة البيولوجية مرورا بلغة الجسد حتى اللحظة الرقمية إذ كانت الذاكرة في المراحل المبكرة من تطور الإنسان، جزءًا من منظومة البقاء في سياق قانون الحياة افطري مقاومة الموت والفناء والحفاظ على البقاء بتجنب المخاطر، وتذكر أماكن الماء والطعام، وتعلم أنماط الطقس وحركة الحيوانات. هذه الذاكرة البدائية كانت تشبه إلى حد بعيد ذاكرة الحيوانات، مركزة على الإدراك الحسي والتجربة المباشرة ومع تطور الدماغ، وخصوصًا قشرة الفص الجبهي، بدأت قدرات الإنسان على التذكر تصبح أكثر تعقيدًا، ليس فقط لتخزين المعلومات، بل لمعالجتها وربطها بسياقات أوسع. وأول الحضارة هو الإحساس بالخوف من عاقبة الاعتداء على الآخرين ومن الضرر الذي يصيب الإنسان من اعتداء الآخرين عليه وهو الخوف الذي نعبر عنه بالضمير والوازع ومخافة الأذى والضرر جراء القيام بالذي صار اسمه بعدما لا يحصى من الزمن والخبرات والتجارب حراما وعيبا وممنوعا ولا يجوز” ويذهب فرويد إلى إن الحضارة بدأت حينما بدأ الإنسان في تنظيم دوافعه الغريزية عن طريق مجموعة من النواهي والتابو والقانون”