آخر تحديث :الجمعة-18 أبريل 2025-02:32ص

‏نشوان بن سعيد الحميري.. القضية والموقف

الجمعة - 11 أبريل 2025 - الساعة 02:50 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


يُولدُ المتميزون بجناحين ليطيروا، ومن خُلق ليطيرَ يصعبُ عليه أن يزحف، والعكسُ أيضًا صحيح.


هكذا نتخيلُ نشوان بن سعيد بن سعد بن أبي حِميَر الحِمْيَري، الذي ينتهي نسبه إلى القَيل الحميري حسان بن أبي مراثد. والمولود في منطقة "حُوث" شمالي صنعاء، وكانت يومها مدينة عامرة بالعلم والتجارة والنشاط الاجتماعي المتنوع. وهي مدينة قديمة تنضحُ فيها الآثارُ الحميرية بالشموخ والبهاء؛ بل إن المنطقة كلها منطقة أثرية تاريخية عتيقة، يرجعُ تاريخُها لمئات السنين، بعضها قائم إلى اليوم.


لم يذكر المؤرخون سنة ميلاده، إلا أنها على الأرجح نهاية القرن الخامس، أو بداية القرن السادس الهجري.


والدُه هو القَيلُ اليمانيُّ الكبيرُ سعيد بن سعد الحميري، أحدُ كبارِ تجارِ المنطقة ووجهائها، ومنه ورثَ ذلك الإِباءَ بنفسٍ أبيّةٍ تأبى الضّيمَ وتعافُ الغبن، سواء على نفسها أم على غيرها، لأنَّ الحُرَّ ذا النفسِ الشّريفة يتأبّى ظلمَ غيره كما يتأبّى أن يُظلمَ هو على حدٍ سواء.


ثمة مدخلاتٌ عدة تؤثر في صياغة الشخصيّة الإنسانيّة وتوجيه السُّلوك، من بينها البيتيَّة، والبيئة والتعليم، ثم "التّحدي" الذي يواجه الإنسانَ في بيئته، ومن ثم تكونُ "الاستجابة" إذا ما استعرنا مصطلح المؤرخ الفيلسوف آرنولد توينبي، صاحب الموسوعة التاريخية الشهيرة: دراسة للتاريخ، "A study of history". "التحدي والاستجابة".


وجميعُ هذا المُدخلات ــ إضافة إلى ما سنذكرُ لاحقًا ــ كان لها أثرُها الإيجابيُّ في تشكيلِ شخصيّة نشوان..


البيئة بما هي بيئةُ جدلٍ تاريخي سياسي عريق، وبما هي بيئة علمية ثقافية عريقة.


أضف إلى ذلك المدرسة المطرفيّة ــ وهي الجماعةُ الفلسفية الأولى في المنطقة التي تشكلت هناك، برؤىً معرفيّة حديثة، قياسًا إلى حداثة تلك الفترة، وجزءٌ من تشكُّلها كان ردَّ فعلٍ لتطرفِ الإمامة الهادوية وغلوها في التعصب والتحوصل على الذات الصّنميّة التي أسّست لها..!


المطرفيّة التي وضعت البذورَ الأولى للمعرفة المجردة بمنهجية علميّة جديدة، وناقشت المئات من المسائل العلميّة والفلسفيّة قبل أن تتشكلَ حركةُ التنوير الأوروبي بمئات السنين، وكان يمكنُ أن تُشكلَ هذه المدرسة رافدًا علميًا وفلسفيًا جديدًا للفكر الإسلامي قاطبة، لولا أنَّ سوطَ الكهنوتِ قد قمعها وأبادها من وقت مبكر، وتعامل مع "هِجَرها" ومكتباتها كما تعامل التتارُ مع مكتبة بغداد.


ليس المطرفية وحدها من كانت سائدة آنذاك كمدرسة علمية فحسب؛ بل ومدارسُ بقية العُلوم والتيارات الأخرى أيضًا، من دينيّة وغير دينيّة، كالصُّوفية والسَّلفية "أهل الحديث" والإباضيَّة وغيرها.


في بيئةِ نشوان المنزلية "المُصغّرة" أولا تفتح وعيُه طفلا على تجارةِ والده، ووجاهته الاجتماعيّة، التي عزّزتْ فيه ثقتَه بذاته، مُتأملا كلَّ ما حوله من معالم وملامح هذه المشاهدِ المتنوعة:


التاريخ بعراقته..

الجغـرافيا بصلابتها..

السّـيـاسـة بجــــــــــدلها..

المدارس العلميّـة بتفرعاتها..

حـــركــة المجتمـــــع بنشــاطه..

الهادوية الكهنوتية بتعصبها وتطرفها..!


على يد والده استفتح تعليمه؛ إذ كان والدُه أيضًا عالمًا ومطلعًا على فنونٍ شتى في الأدب والحساب والفلك والأنساب وغيرها؛ ثم في حلقة الجامع الكبير في حُوث، وفقًا للطريقة السّائدة آنذاك، مع العديد من أقرانه، وأغلبهم من أطفال وشباب من يسمون أنفسهم "آل البيت" الذين أثارهم كثيرًا نبوغ هذا الطالب وتفوقه عليهم، حتى كان مثارَ إعجابِ شيوخه، ومحل فخر والده.


ولأنه بهذه المكانة، وبهذا التميز والنبوغ، فلا بد إذنْ من أعداءِ النجاح وخصومةِ الأقران، لسببٍ، ولغيرِ سبب.


لطالما سمع نشوان ممن حوله، وقد ذاع صيتُه: كيف لهذا اليافع أن يتقدمَ على أقرانه من سلالة آل النبي، أوعية العلم، وحملته، كما يزعمون؟!


ولكونه تساؤلا غير منطقي؛ بل غير مشروعٍ أساسًا، فكانت ردةُ الفعل أقوى، ولسانُ حاله:

حتمًا.. سأكونُ ما أريد.


النسبُ والسُّلالة لا علاقة لهما بالعلم.

العلمُ محصلةُ الجد والاجتهاد والطموح.. فقط.

وذلك ما أكده له والدُه يوما ما:


الناسُ سواسيّة يا ولدي. لا عليك. دعك وتخرُّصَاتِ الأفّاكين.


في الصّباح يذهبُ إلى الجامع مع أقرانه، لتعلُّم دروسه في الحلقات العلميّة، وفي المساءِ يعودُ بِنَهَمٍ شديدٍ للمطالعة في مكتبة والده التي فتح عينيه عليها صَغيرًا، وفيها قرأ:


كُتبَ الجاحظ بما تشتملُ عليه من معارفَ عامة، وكتب الهمداني، بما تحتويه من نفائسَ تاريخية ومعرفية، وموسوعة الأغاني للأصفهاني، بما تكتنز به من دُررٍ لغوية وأدبية، وغيرها من دواوين الشّعر العربي وكتب الفقه والتاريخ والأدب

.

تطلع لإكمالِ تعليمه في صنعاء، أو صعدة، حسب النظام السائد يومها، وقد غادر ذلك الفتى اليافع مسقطَ رأسه "حُوث" إلى صنعاء، والتحقَ الشاب بحلقةِ الشيخ علي بن رُزين، كما سكنَ معه أيضًا في نفس سكنه، وكان منه بمثابةِ ابنه؛ فدرسَ على يده علومَ الدين واللغة والبيان والعروض، وعلوم الأديان الأخرى وفلسفاتها. وأثناءها اكتشف فيه شيخُه أنه شاعرٌ مطبوع، ذو لغة متدفقة، فشجعه على قرض الشعر، وعلى أدب المناظرات.


نشوان في وقش

بتوجيهاتِ شيخِه علي بن رُزين، انتقل إلى هجرة وقش، ذات الصّيت المهيب، ولم تكن أشواقُه وتطلعاتُه إليها تقلُّ عن أشواقِه الأولى حين انتقل من حُوث إلى صنعاء سابقًا.


"وَقَش" هي الأكاديميّةُ الكبرى التي يختتمُ بها المتعلمون تعليمَهم، فشُيوخُها هم شيوخُ الشُّيوخ، ومريدوها في غالبهم من المتميزين القادمين من مختلف الأصقاع، والذين حازوا على تعليمٍ معقولٍ قبل أن يدخلوها، وعددهم بالمئات، متوزعين على غُرفٍ سكنية عديدة، وتجري عليهم "الجِراية" السنوية والشهرية من الأكل والشرب والملبس والدواء، وأيضًا الرقابة والمتابعة، وعدم السّماح لأي طالبٍ بمغادرتها إلا بشروطٍ صَارمة؛ أمّا مناهجُها وكتبُها فهي غيرُ ما اعتاده بعضُ الفقهاء التقليديين في بعضِ الأربطة الأخرى، وقد أكمل تعليمه في وقش ثم عاد إلى منطقته حُوث.


دعوته

أسرفَ الكاهن أحمد بن سليمان في الدم والقتل كعادة آبائه وأجداده المنتقمين، وكعادة من بعده من سلالته أيضا، وهو ما يسقط عنه شرعية الحكم، كمجرم قاتل وسفاح، فأعلن نشوانُ نفسه إمامًا للناس في خولان بن عامر بصعدة، وتحديدًا في "وادي صَبَر" منها..


ولم لا؟!

فهو ابنُ قَيلٍ من كبارِ أقيالِ اليمنِ وتجارها.

وهو العالمُ العلَمُ الذي تسبقُه شهرتُه حيثما اتجه، وأينما حل.

وهو مستوفٍ شروطَ الإمامة التي تنصُّ عليها كتبُ الفقه الإسلامي.


وهو كذلك محل رضا غالبيةِ الناس الذين عرفوه أو سمعوا عنه.

كاد نشوان بدعوته هذه يمثلُ إنقاذًا لليمن من نيرِ وكهنوتِ النظرية الهادوّية لولا تقاعس النخبة الاجتماعية القائمة آنذاك عن نصرته؛ الأمر الذي اضطره بعد ذلك إلى الرحيل نهائيا إلى مارب أولا، فحضرموت ثانيا، واستقر بها فترة من الزمن، ثم عاد إلى مسقط رأسه، ثم إلى منطقة حيدان في خولان صعدة، وهناك توفي أواخرَ ذي الحجة من سنة 573هـ، وهناك دفن، ولا يزالُ ضريحُه مشهودًا مزُورًا إلى اليوم، وإِلى جوار قبرِه أربعة قبورٍ أخرى، يُعتقد أنها قبورُ: ابنيه سعيد وعلي، وأختيهما.

د.ثابت الأحمدي