عدت قبل قليل من #الحديدة، وخيال المدينة عالق في قلبي ورأسي، مشاهد الناس والشوارع وبقية التفاصيل، الخرافات عندما تتحدث عن البؤساء في زمن قديم، الزيارة لم تكن بذلك الشكل الذي توقعته، لأنها تحولت في خيالي لرواية محفورة عن الحزن والظلم والحرمان، وفي الحقيقة لم أكن أرغب بالسفر إليها لولا إلحاح بعض الأصدقاء، ولكن وبعدما وصلتها تحولت الحكاية إلى دافع شخصي كي أكتب عنها، دافع خلقته الصدفة، وأخذتني إليه المقادير، لأنشره بضمير وواقع، عن ظلم يجب إقامة المعجزات في سبيل إزالته، بمدينة الحديدة كل شيء صار بائس، بشر نحيلون جدًا وعاطلون وتائهون، وبنى تحتية دفنتها الرمال وطمرت ملامحها القمامة، وغياب كامل لملامح وجود حكومة تعنى بالناس والمحافظة، وبحر هائج يشعر بظلم أبناء مدينته، ورياح لو تحدثت لصرخت للناس بالمأساة، إنها مدينة لا يرعاها أحد، ولا يرغب في إنقاذها أحد، مدينة الجحيم، وحمام الأغنياء، ومرتع المتبجحين بالأموال والثروات.
شوارع مدينة الحديدة مليئة بالعبارات الخضراء، جدران طويلة وعريضة، وخطوط بارزة وموضوعة عن القيادة والإيمان والولاء، لافتات عملاقة ومرتفعة ومحلقة بصورها الخضراء، وعبارات مدوية عن التفويض والوجود والبراء، وتحتها وجوارها ومحيطها وكل نواحيها بشر مرميون في الطرقات، كبار سن بملامح العجز والفقر والخذلان، أجساد نحيلة وهياكل بارزة، ووجوه حارقة متدلية من علامات الوضع والزمان، لا نظافة في شوارع الحديدة، ولا جهة معنية بتحسين المكان، لا كهرباء، لا ماء، لا نوايا قديمة وحالية وقادمة لتطوير المدينة، الأسفلت الذي تحقق في الماضي صار مدفون بالرمال، في كثير من الشوارع والمفترقات، القمامة تحيطها وتتكدس فيها، الأرصفة مطمورة، والأشجار مقلوعة، والقائمون عليها لا يأبهون بها، لقد تركت المدينة لمصيرها، والبشر فيها تركوا لعجزهم وخوفهم ومصيرهم، سكانها يعملون بدراجات نارية، تحت أشعة الشمس وفراغها، والبقية عمال في مشاريع القادمين من الجيال، وأخرين باعة متجولون، يبيعون أمور رخيصة وبسيطة، وما تبقى منهم بشر يمدون أيديهم ويطلبون الصدقات، رجال مرورها يرتدون ملابس بالية، على أجسادهم البالية، معظمهم كبار في السن، ومنهكون وواقفون ينتظرون السقوط في أي لحظة، عمال الأسواق معظمهم أطفال، تركوا الدراسة وتحملوا العبء وصاروا ضمن الحكاية، ونساء بائسات وضعيفات وحارقات من الشمس، إنها بمجملها حكاية الشعب الميت في مدينة السياحة والبحار..
تحدثت إلى أحد العمال من أبناء الحديدة، عن شعوره بمدينته، قال لا أشعر بأنني منها أو بامتلاكي لها. كل شيء فيها ملك لأشخاص من محافظات أخرى، نحن مجرد عمال بأجور زهيدة، عمال لا نملك في يومنا أكثر من شباشبنا الممزقة، وشاب أخر أجابني عن حقيقة معروفة للجميع، لا أحد من أبناء الحديدة يملك مشروعًا رائجًا في المدينة، لأن معظمها للأخرين، الفنادق، المتنزهات، الكهرباء التجارية، المطاعم، مشاريع مع شحتها وقدم إنشاءها إلاّ أنها لأشخاص ليسوا من الحديدة، في الوقت الذي يستغرب فيه أحد المواطنين من توقف عجلة التنمية منذ أكثر من ثلاثة عشر عامًا، يقول: لم تشهد مدينة الحديدة أي تطوير رسمي أو تنمية رسمية، أو توجه تجاري للتملك فيها والتطوير بشكل مقارب لما حدث ويحدث في صنعاء ومأرب وشبوة وصعدة والمخا وعدن، لهذا تهالكت وتقادمت المدينة، وطمست ملامحها، والبناء فيها متوقف كليًا، في ذات الوقت الذي تشهد فيه إقبالًا كبيرًا من الزوار والسواح الداخليون، لكنهم لا يهتمون بها، فالفنادق المزودة بالكهرباء والمكيفات موجودة لهم، وأسواق القات غالي الثمن موجود لهم، والمتنزهات على سواحل البحر لا يجلس فيها غيرهم، بينما أبناء المدينة يخدمونهم ويقدمون لهم متطلباتهم اليومية.
في الحديدة أفقر سكان العالم، وأسوء مدينة ساحلية في هذا العالم، وبالمقابل فيها أغلى أنواع القات القادم من أكثر مناطق القات جودة في الشمال، بأسعار مخيفة وبالغة، علاقية قات صغيرة بـ 200 الف، وعلاقية أخرى بـ 100 الف، وهكذا تتفاوت الأسعار صعودًا ونزولًا، لكنها مخصصة لأشخاص من مناطق الجيال فقط، يشترونها يوميًا من محلات مكيفة ومرتبة، ويقضون حياتهم دون مبالاة واهتمام بواقع المدينة وأوضاعها، سترى الكثير منهم، مع أبنائهم وسياراتهم، يشاهدون الناس من فتحات سياراتهم المرتفعة، يدخلون الفنادق، ويزورون الشواطئ، ثم لا يكترثون بما تعيشه المدينة مع أبنائها، الأمر لا يعنيهم، لأنهم يتعاملون من المدينة كحمام استجمام فقط، يدخلونه ويغادرونه ويعودون إليه مجددًا..
لم يعد أحد يتفاجئ من مناظر رجال تجاوزوا الستين والسبعين يعملون تحت أشعة الشمس بدراجات نارية، مع ملامح الضعف والإنكسار، رجال موجودون بكل نواحي المدينة، يبحثون عن ركاب بأثمان زهيدة، ونساء بالمئات يتسولن في الطرقات والسواحل والمتنزهات، وأطفال صغار يبيعون الماء البارد بكل مكان من المدينة، ومدارس هالكة وفارغة ومتروكة، وجامعات متوقفة، ومعاهد منسية، وحياة بائسة بكل تفاصيلها، أنا لا أدري لماذا يتجاهلها أيضًا رجال الأعمال، لا أحد منهم يريد إقامة مشروع خاص فيها، لهذا لا توجد مباني جديدة، ولا مدارس أهلية، ولا جامعات خاصة، ولا مطاعم نظيفة، ولا شاليهات منافسة، لا يوجد شيء عدا ما تحقق قبل أربعة عشر عامًا، مع بضعة فنادق تستوعب تزايد الأغنياء القادمين من المحافظة المجاورة.
أبناء الحديدة ليسوا يمنيون بالضرورة، لقد حولهم الزمان لبشر لا يملكون أي حقوق أو مواطنة، لا دولة لهم، لا قيادات لديهم، لا مشاريع في مدينتهم، لا تحديث لحياتهم، لا خدمات تعنيهم، لا حاضر، ولا مستقبل، ولا حياة ولو بمستوياتها الدنيا، لقد صاروا جميعًا مهمشون ومتروكون وباحثون عن صدقات، بينما أرضهم أجمل الأماكن، وموقعهم أعظم المواقع، وبحرهم أكبر البحار، ومعطياتهم الجغرافية أكثر المغريات، لكنهم لا يملكون منها شيء، غير البؤس والظلم والنسيان، وفي الثنايا أيضًا، لم يظهر منهم إعلاميون يهتمون بما يجري لهم، ومن اشتهر منهم ذهب ليصور العاجزين في مدينته ليجمع ببكائهم التبرعات، هذه إشكالية القبول بواقع المأساة، وأيضًا لا يوجد نشطاء ينشغلون بمجتمعهم، ولا عدسات كاميرات تنقل بؤسهم وظلم الأخرين لهم، ولا مجموعات ضغط تقدم مطالباتهم، ولا نداءات حقوقية تستعرض حياتهم، الحديدة تحتاج لتسليط الأضواء الحقيقية على مجريات المدينة، تحتاج لرفع الأصوات، لصناعة الحق في المواطنة والحياة، تحتاج لقائد منها. لسلطة من أبنائها، لمؤسسة تعنى بها، ما يجري فيها تجاوز الخيال، وتجاهلها ظلم متراكم سيطمس المدينة من خريطتها.
ماجد زايد