آخر تحديث :الأربعاء-08 مايو 2024-10:00ص

كان عيدًا برائحة الدم يا صنعاء !

الخميس - 11 أبريل 2024 - الساعة 03:48 م

ماجد زايد
بقلم: ماجد زايد
- ارشيف الكاتب


"لكي لا ننسى، كان عيدًا برائحة الدم يا صنعاء"، تخليدًا لذكرى من ماتوا بمثل هذا اليوم في رمضان العام الماضي، بطوابير الصدقات في باب اليمن، كصورة واضحة عن اليمنيين والمواطنين في أسوء أزمنة الدنيا، الحكاية كاملة، وتفاصيل أخرى، مع نماذج قضوا في ذلك اليوم الحزين.. 

"هذا ما حدث"

قبيل عيد الفطر بيوم واحد فقط، من العام الماضي، توفي ما يقارب مائة شخص في صنعاء، بينما كانوا يحاولون الحصول على الصدقات المالية، رجال كبار، شباب، موظفين، تربويين وعسكريين والكثير من المواطنين، ماتوا وهم يحاولون الحصول على القليل من الفتات والصدقات، نتيجة الحاجة والفقر والوضع المعيشي المنعدم في مناطق صنعاء، لقد صنعت هذه الفترة باليمنيين ما لا يمكن تصوره، حويع وفقير وخويف وهروب، حتى أصبح الناس في مناطقنا مجرد أجساد متهالكة وعقول متمايلة للجنون.

كان الألاف يتجمعون عند بوابة مدرسة معين، بانتظار بدء دفع الصدقات، انتظروا لساعات وتزايدت الأعداد، في ظل لجنة تنظيمية تتبع رجل الأعمال حسن الكبوس، إلى أن تفاجئوا بوصول طقم أمني يتبع الشرطة، وصلوا وطردوا المنظمين وحلوا مكانهم، وهكذا مر القليل من الوقت، حتى بدأ الإزدحام يشتد، ليتخلى المنظمون المسلحون عن أماكنهم تاركين الحشود تتدافع فوق بعضها، تركوا أماكنهم وحدث تدافع شديد بين الألاف من الناس، حتى كسرت بوابة المدرسة وسقط المئات فوق بعضهم، تلا هذا إطلاق رصاص غير معروف الإتجاه، وبسببه ذعر المتدافعين اكثر وتدافعوا بكل قوتهم، ليسقط منهم عشرات الضحايا والمصابين، ليموت ما يقارب مائة مواطن يمني، فيما المئات منهم في العناية المركزة والمستوصفات.

هذه الحادثة المأساوية نتيجة الجوع والفقر والحاجة اليمنية للصدقات، بعد سنوات من معاناتهم وانقطاع رواتبهم وتعطلهم عن العمل والحياة، الشوارع مليئة بالباحثين عن الصدقات، فتيات بعمر الزهور، عجائز كبيرات، أمهات ونساء مع أطفال صغار، بائعات متجولات، وغيرهن، بحالة من الإرهاق والتعب والفقر الشديد، يمنيات أصيلات خرجن من بيوتهن للبحث عن الصدقات بعد أن عجز رجالهن. لم تكن تمر لحظات حتى تغادر إحداهن وتأتي أخرى، بعضهن يحملن في أيديهن بعض المستلزمات لعرضها للبيع، يبررن وقوفهن المتكرر في الشوارع الرئيسية، وأخريات يحملن أوراق العلاجات، وفتيات بعمر العشرين يطلبن الصدقة بنوع من الخجل والحياء وعدم التعود، في منظر يقتل القلب ويدمي العقول.. بالمناسبة، اهتمامات الناس وأحاديثهم ونقاشاتهم في صنعاء، لا تكاد تتجاوز الحصول على كيس دقيق ودبة غاز ومتصدق يأتي من هذا الطريق أو ذلك الاتجاه، تحول الناس الى متسولين تحت سلطة الحوثيين، رضخوا لممارسة الشحاتة وتقبلوا الصدقات كأمر واقع، لا تتعجبوا، هذا الأمر واقع يمني صريح.

الله ما أرخص الحياة..

يومها ذهبنا نبحث عن مفقودين في طوارئ مستشفى الثورة، الله يا قهر الدنيا في ملامح الناس، يا بؤس الأقارب والساخطين، بكاء، حزن، خوف، شوارع الدم المصبوغ بالقهر والأشباح، قهر الوجوه، تعاسة الإنسان، ذل البشر، بكاء الأمهات، مواكب القهر الطويل، ظلام المدينة، أخبار الميتين، هذي السنين الدامعات قوافل وجنائز وراحلين، وجرح الحياة في الأعماق غائر، وأمام عينك يذبح الشعب الحزين.. وأنت تسكرك المخاوف والهموم،، الناس تهرب في الشوارع.. والحياة بلا حياة، والشعب يغرق كل يوم في دماه، وغرائب الأيام..، من قهر.. إلى قهر.. ومن ذل إلى ذل ألى مقبرة، الله ايها اليمنيين، ما أصغر الدنيا إذا صغر الوطن، ما أرخص الدنيا إذا هان الوطن، ما أرخص الحياة والدنيا أذا رخص البشر! وطن غريق.. كان يومًا للكرامة موطنًا.. وصار اليوم قبرًا للخائفين، الناس تصرخ في الشوارع.. أرضنا هذي عناء، أرضنا هذي بكاء، أرضنا هذي جحيم، خوف وحرمان وقهر للعاجزين.

"كانوا مثلنا"

كانوا مثلنا تمامًا، يريدون رؤية أبنائهم بملابس جديدة، ويلتقطون لهم الصور الجميلة، ثم ينشرونها للأخرين، كانوا يريدون استقبال ضيوفهم وتقديم العيدية لأطفالهم، كانوا يريدون تهنئة أصدقائهم، وأقاربهم وجيرانهم، كانوا مثلنا، وكانت بيوتهم ستكون سعيدة بوجودهم، لكنهم مـ ـاتوا، وتحولت بيوتهم ونفوس عيالهم وأقاربهم إلى أماكن عزاء وحزن وبكاء، كانوا مثلنا تمامًا، وظروفهم مثلنا، وعيالهم مثل عيالنا، وأحلامهم مثل أحلامنا، وسعادة أبنائهم مثل سعادة أبنائنا.

ماتوا الف مرة..

لقد ماتوا الف مرة قبل أن يموتوا فعلًا، في زحمة البشر المذعورين، سقطوا تحت أقدام الأخرين، ببطونهم الجائعة وأجسامهم الضعيفة، كانوا يحاولون التشبث بالحياة، ينادون بكل قوتهم: نحن نموت، نحن نموت، يصرخون بأرواحهم، يتشبثون، يترنحون، يتمتمون بأدعية خائفة لا يعرفون من أين جاءت لهم، يختنقون مع كل كلمة، يرفعون أيديهم، يلتفتون، ينظرون في وجوه الآخرين، لا يرون غير أجساد الميتين، يتذكّرون، يقاومون، ينهارون، يرتجفون، يختنقون، يموتون مرة أخرى، ينهضون برؤوسهم من الموت، يتأملون الموت بينما يخنقهم ويمسكهم ويحاصرهم، يلامسون التراب بأيديهم، يريدون الصراخ مرة أخرى، يعجزون تمامًا، يقبضون بايديهم على التراب، والخوف يتساقط من وجوههم، خوف المذعورين، واستسلام العاجزين، كانوا يريدون النجاة، لكنهم استسلموا، وتوقفوا عن الصراخ، كانوا يتذكرون الموت، يقتنعون به، يتمنونه سريعًا، يتمنونه تمامًا، لقد انتهت الحياة، وخنقت الملامح، وتمزقت الأطراف، وتوقف القلب، وغادرت الروح، وانتهي كل شيء. لقد ماتوا وانتهت الحكاية، بعد الف عام من المعاناة والألم خلال دقائق قليلة. وهذه بقايا أحذيتهم شاهدة على كل التفاصيل الأخيرة.

عدنان الصعفاني..

عدنان عبدالله طمح الصعفاني، أبن بلادي حراز، في ثنايا الخمسينات من عمره، معلم وتربوي وأستاذ يمني، وأب لخمس بنات وولدين، وواحد من ملايين اليمنيين المنقطعين عن رواتبهم وحياتهم، وأحد المتزاحمين بطوابير التدافع اليمني في سبيل الحياة. للحصول على فتات الصدقات بعد أن تغيرت ملامحهم ووجوههم، وشابت رؤوسهم وعقولهم، كواحد من موظفي الدولة المتروكين، موظفين شاخوا كثيرًا، وعجزوا عن فعل أيّ شيء لأنفسهم وأبناءهم في أعظم فترات حياتهم عجزًا وقهرا، لم يكونوا قط يتخيلون هذا المصير في سنوات عطائهم ورواتبهم، كانوا يثقون بانتماءاتهم للدولة، ووظائفهم المرموقة بمؤسساتها، لكنهم وقعوا في فخ الإنهيار العام، والإنعدام التام لكل شيء في هذه الدولة، وصارت قناعاتهم تلك عن سنواتهم القادمة والعاطلة كالسراب، فلا رواتب معهم، ولا وظائف حقيقية لحياتهم، ولا مدخرات قديمة تحمي عجزهم وحاجتهم، ولا شيء من عطاء الدنيا وتقديراتها.

لهذا ذهبوا يواجهون مصيرهم بنوع من الصبر والتصبر، بينما ينتظرون صدقات الأخرين وفاعلي الخير، وحين تأتي يذهبون للحصول عليها بقلوبهم وأرواحهم، ولأجلها يجلسون عند بوابات المباني والمؤسسات، تحت أشعة الشمس حتى تصل، وبجوار بعضهم يتحدثون عن سنواتهم في زمن العطاء والدولة، حتى يحصلون على ما جاؤوا له، لكنهم لم يعلموا قط بأن مصيرهم الأخير سيكون في ثنايا هذا الإنتظار الأليم.

عندما ذهب الأستاذ عدنان عبدالله الصعفاني لأخذ الصدقات. كان يفكر بأبنائه وبناته، يفكر بهم وماذا سيشتري لهم بعد عودته، كان يريد أن يتقمص سعادة العطاء ورعاية الأبناء في فترة العيد، كان يفكر بشراء جعالة العيد وبعض الاحتياجات، تمامًا كما كان يفعل بماضيه في ليالي الأعياد، كان يومها ينتظر الصدقة وفي داخله غصة من نظرة البؤس والشفقة في عيون أهله وأبناءه عليه طيلة أيامه الفائتة، لهذا قرر العودة هذه المرة إلى بيته بيدين تحملان الأكياس والمشتريات، ليثبت لهم بأنه يستطيع شراء السعادة بنفسه وأمواله، لم يكن يعلم بأنه وقع في فخ المصير المعدوم، بعد أن تحولت حياته الى ذكريات وأمنيات، ومجموعة خيالات عن زمن فات ولن يعود أبدًا.

رحمة الله عليه، وعلى موظفي الدولة المساكين، لقد انكسروا جدًا، وتحطمت مقاماتهم أمام أعينهم وحياتهم، وأمامها عجزوا تمامًا عن تقديم أدنى شيء، أو فعل أيّ شيء، أو شراء أرخص الأشياء، ولم يجدوا أمامهم سوى الموت بألم شديد وصور حزينة، لينتهي تفكيرهم وقهرهم ووجعهم وشفقة الأخرين عليهم.

"محمد الجمرة"

محمد عبده محمد الجمرة، 25 عامًا، عازب، كان لا يسمع، ولا يتكلم، ولا يزعج أحد، أصم وأبكم، وابتسامة لا تفارقه أبدًا، كان يعيش في سعوان، ومع ظروف العيش، حاول أن يكون رجلًا، ويساعد ابوه وأسرته، ليس عاجزًا، أو قاصرًا، إنه رجل، وسيذهب بنفسه للحصول على المساعدات، ذهب ولم يعد، وفارق الحياة مع ملامحه واصراره ومشاعره كلها، مات يوم أمس في زحام المتدافعين، رحمة الله عليه.

لقد كُان في العشرين من عمره.. في العشرين فقط، لم يجن ذنبًا ولم يرى شيئًا، ولم يعش من الحياة ربيعها، ولم يكن له حياة يحبها أو تحبه. لقد قضى عشرين عامًا من سنواته يستعد كي يكون رجلًا، وما إن أصبح كذلك حتى مات، أيموت شباب في مقتبل العمر من أجل حفنة ضئيلة من التراب؟! نعم يحدث هذا في اليمن. رحمة الله عليه.

"محمد طارد"

محمد طاره،51 عامًا، أب لطفلين، يعيش في صنعاء القديمة، كان نجلًا وحيدًا لتاجر يمني، ولكن والده أفلس خلال سنوات الحـ ـرب اليمنية، بعدها توفيت زوجته وأم عياله، ليجد محمد طهره نفسه وحيدًا مع طفليه اليتيمين، ليعيش معهما ويكافح من أجلهما، لتمر عليهم السنوات تلو السنوات، حتى جاء يوم أمس، محمد طهره بحسب أقربائه لم يكن يريد الذهاب لذات المكان، ولكنه اضطر للذهاب مع صديقيه اللذان أرغماه على مرافقتهما إلى هناك، أهله طلبوا منه البقاء لتناول العشاء، ومن ثم الذهاب، لكنه رفض لأجل صديقيه اللذين ينتظراه بباب البيت، وبالفعل خرج من المنزل قبيل أذان المغرب متوجهًا الى مدرسة معين، ذهب ولم يعد يعدها ابدًا، أما صديقاه فتركا المكان عندما شاهدا الإزدحام الشديد، تركاه وغادرا، لم يوافقا على الدخول، ولكن محمد طهره، قال: لن اعود وقد أتيت، ودخل بنفسه بين المتزاحمين، بعد أن غادر صديقاه واختفيا، ومن ثم ظهرا بعد الحادثة، ظهرا على قيد الحياة، بينما صديقهما "محمد طهره" قد صار جثة ملقاة في ثلاجة المستشفى، كان قدرًا أخذه الى هناك، إلى مصيره الأخير، وربما هو الوفاء عندما يتجاوز السنن والحكايات.

"عبده المناخي"

منذ تلك الليلة الفاجعة، وأهله يبحثون عنه، ولأجله نشروا وطبعوا وعمموا وزاروا كل الأماكن المحتملة، لم يكونوا يعلمون بأنه مـ ـات في جموع المتزاحمين، لم يتوقعوا قط أنه أحدهم، لكنهم ظلوا يبحثون عنه في كل مكان. حتى وجدوه اليوم ميـ ـتًا في ثلاجة مستشفى العلوم والتكنولوجيا، ضمن الشـ ـهداء المتدافعين بمدرسة معين.

عبده المناخي، 45 عامًا، أصم وأبكم، وأحد مؤسسي جمعية الصم والبكم اليمنيين، أب لطفلتين، ويعيش معهن في حي شيراتون بجوار قسم حمير، وصل إلى مستشفى جامعة العلوم ضمن الحالات الحرجة، كان مايزال على قيد الحياة، لفترة وجيزة ثم مـ ـات، وغادر حياته وبناته مع معاناته وذكرياته كلها.

وبحسب أهله وأقاربه، في ذلك اليوم استلم عبده المناخي راتبين من "كاك بنك"، ثم اختفى، وظلت أسرته تبحث عنه، وعندما وجدوه اليوم في ثلاجة المـ ـوتى، وجدوه وقد طمست ملامحه، وفُقدت رواتبه، هذا أثار حزنهم الشديد، عن معانـ ـاته وصراعه الذي عاشه قبل الممات، بعدها حاولوا إخراج جثته ولكنهم منعوا، بحجة أن تشييعهم سيكون جماعيًا ورسميًا.

رحمة الله عليهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، قصص الحزن والمآسـ ـاة في تلك الليلة الحزينة لن تنتهي ولن تذهب أبدًا من ذاكرتنا جميعًا.. فهذه الذكريات لا تموت!

#كي_لا_ننسى #ضحايا_التدافع #صنعاء
#قصص_ضحايا_التدافع

ماجد زايد
كاتب وصحفي يمني