آخر تحديث :الأحد-08 سبتمبر 2024-01:54ص

ليتني مجنونا.. قصة بقلم حفيدتي هبة مسعد

الثلاثاء - 09 يوليه 2024 - الساعة 12:20 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


استيقظت على صوت صراخ أخي "المجنون" في منتصف الليل وتنهدت قائلًا بصوت عالٍ: يامريض دعنا ننَم !
اعلم بأنه ليس من المفترض ان أقول هكذا ولكن في تلك الليلة كنت حقًا متعب، وهناك الكثير من الضغوطات وانا الأخ الأكبر بالعائلة ومجبرٌ على العمل ليلَ نهار لتلبية احتياجات أخي المريض، وأبي المقعَد، وأمي الكاهلة، كانت الحياة شاقه بالنسبة لي مع تلك العائلة، كنت دائمًا ما أصرخ في وجه أخي وأدعوه بالمريض، ومع انه مريض ومجنون كان دائمًا ما يرى الأشياء بإيجابية وروح بشوشة.
أتذكر أحد المواقف عندما كنا صغارًا، حيث كنت العب معه مجبرًا من قبَلِ أمي، فقال لي حينها: انظر الي ماذا سافعل !
فكسر اللعبة، وانقسمت إلى قسمين، فصرخت بوجهه قائِلًا: ماذا فعلت أيها المريض !!!
فابتسم ابتسامته البلهاء وقال: بل لتصبح اثنتين ونلعب معًا، فحينها لا ينتظر أحدٌ دورهُ ليلعب.
ذهبت إلى أمي حينها وانا أبكي على لعبتي المحطمة، وقالت لي جملتها التي اسمعها كل يوم منذ ولادة أخي: تحمل يا بني انه مريض ولا يعي ما يفعل .
عشت حياتي كلها أتقبل تصرفاته السيئة فقط لأنه "مريض".
وفي أحد المرات، كنت اعتني بوردٍ زرعته لأمي في "البلكون" وحينما انتظرته أيمامًا ليبدأ بالنمو وأتريثه على أحر من الجمر....
قدِمَ أخي وسمعته يبكي، ودخل إلى الغرفة والورود بيده !
فصرخت والنيران تخرج من عيناي قائلًا: ماذا فعلت ! لماذا هكذا ؟! هل انت غبي؟!!!
فنظر إلي،وأجابني: سوف تمطر قريبًا، وسيشعر الورد بالبرد إذا بقي بالخارج، فأدخلته لم يكن بيدي شيءٌ لفعله سوا الصراخ بوجهه..
-
في بعض الأحيان كنت أشعر أنَّ أخي ليس بمَريض، بل هناك شيءٌ غريب ! حقًا لا أتحمل العيش معه أكثر.

في ليلةٍ عمَّ بها الهدوء أرجاء المنزل
رنَّ هاتفي قبل نوميَ بدقائق، نظرت إلى شاشته، فوجدتهُ اتصال من رقم غريب.
رددت بصوت مرتاب، جاهز لأي مخاطرة ستحدث
كانت الساعة الثانية ونصف حين رن الهاتف -فالاتصال بهذا الوقت من الليل لا ينم إلا عن المشاكل-
- السلام عليكم، كيف حالك دكتور محمد؟
رددتُ بنفسٍ ضيق: وعليكم السلام من انت؟
_انا خالد
_مرحبا يا خالد متى ستأتيان أنت وأخاك، ذكرني هل يستعمل الدواء جيدا؟
_غدًا صباحًا... نعم يستعمله بانتظام
_إذًاا لا تتأخروا
_حسنًا، ولكن لدي سؤال هل يمكنني ان أجلس معكم في العيادة ؟
_ يؤسفني أنه من الممنوع، لكن سأحاول صدقًا في ذلك، كما انه لا نحتاج لوقت كثير فغدًا سأسألهُ بعض الأسئلة، تنهدت متابعًا مثلًا -هل رأيت شيئًا جميلًا اليوم؟- أو بعض من الأسئلة التي قد تجعله يتحدث- ثم نتابع بحديثنا قليلًا، وإن لم اكن موجود فادخل إلى الطبيب "علي" وسوف يرحب بكم .
_ حسنًا شكرًا لك، وأتأسف على الإزعاج
_ لا بأس فهذا من واجبي، إلى اللقاء
...
_حين أغلق خالد الهاتف دخل أخاه إليه، وعلامات الحزن ارتسمت على وجهه، ثم قال خالد مستنكرًا : ماذا الآن؟ هل هناك شيء؟ وإلا سأنام؟!
صمت قليلًا ولم يثني بجواب، ثم تنهد وقال بشرود حيث كان ينظر إلى الجدار: الحياة جميلة! لكن هل الجميع يستمتع بها؟ أنا حقًا أراها حلوة ولكن...
وتنهد ليكمل كلامه قائلًا: عندما يموت المرء برأيك هل سوف يرتاح أم لا ؟
ولمَ أنت دائمًا غاضب؟ وهل سوف تزرع الورد مره اخر بعد رحيلي؟ ومن سيحميها من الامطار ؟ ولمَ تبكي امي عندما تراني العب مع القطط بالشارع؟ أهو تصرف سيء؟
توقف عن الحديث لوهلة، حينها شعرت بالذنب لا أدري لمَ، لكنه أتبع مردفًا: انظر إليك هل الناس مُقسَّمون في هذا المكان هل أنت من النوع الاخر؟
رددت عليه باستغراب قائلا: ماذا تقصد؟
التفت الي وقال: أشعر بان هناك من يستمر بكونه سعيدًا وهناك من يبقى بكونه بحزن دائم بدون سبب مثلك تمامًا، أساسًا لمَ انت حزين وانا سعيد وجميعنا نعيش الحياة ذاتها؟
تريثت قليلًا، تنهدت، وفكرت في نفسي فقلت: لن أناقش شخصًا مريض..
ولكن اشعر بأنه "محق" !!
كيف فأنا أمتلك الصحة وجميع النعم التي حُرِمَ منها، فلدي الأصدقاء والمال ويمكنني فعل ما أريد، بينما ،هو دائمًا ما يتحدث لنفسه وإلى الجدران، والحيوانات، ولكنني أنا من أكون دائمًا عبوس الوجه، أما هو، فهو السعيد البشوش وما الخطأ في ذلك؟ وقبل أن أجيبه قال لي:
_ أتعلم أنت وأنا وهم، جميعنا لسنا طبيعين
_ماذا تقصد؟
_ انت كذلك مريض
_ حسنًا أنا مريض دعنا ننَم الآن
_ ولكن أتعلم ما الفرق؟ أنت لا أحد يعلم بأنك مريض وانا الجميع يناديني بالمجنون ! أليس هذا غريبًا؟
حينها شعرت بأن لديه اشياء كثيرةٍ ليخبرني بها، لكنني بلا سابق انذار حيث غلبت عليّ نفسي أجبته بوجه غاضب: هذا يكفي أريدُ أن أنام لكي نذهب إلى الطبيب غدًا !!
فلم يجبني وتوجه ماشيًا إلى الباب وخرج، أما انا ثقلت جفوني فغططت بنومٍ عميق.
في الصباح
استيقظت وذهبت مع أخي إلى الطبيب، وفي الطريق لم يتحدث كثيراً كان يردد كلمة "هل يشبهني ؟"
-
وصلنا إلى المستشفى والدكتور محمد لم يوصل بعد، فأخبرنا الممرض اننا نريد الدكتور (علي) ولم أكن أعرفه أنا من قبل وعندما دخلنا كان لديه رجل يتحدث معه، فجلسنا على الكرسي أنا وأخي وكان هناك قطة، فكان أخي يلاعبها، أما أنا منحرج جداً من تصرفه، ولم أتحرك ولم أقل شيء، لكن حاولت مراراً أن المح له بأن يتوقف.
عندما خرج الرجال من الغرفة نظر الطبيب لنا ووجّه جلّ نظره لأخي، قائلا: اخرج.
فأجابه اخي: أُريد البقاء مع القطة!
فابتسم وقال له: خذها معك الى الخارج! يجب أن انفرد مع المريض.
-
حمل أخي القطة، وهمَّ خارجًا، نظر إلي الطبيب وقال: ما اسمك ؟
لم اقل له حينها بأني لست المريض ولست أنا الشخص الذي يحتاج للعلاج!
بل راودني كلام أخي، وأردت أن أخوض هذا الموقف، لا نعلم فلربما أكون أنا المريض حقا!!!
أجبته بهدوء : خالد
_ ياخالد! كيف كان يومك هل رأيت شيئًا جميلًا اليوم ؟

لم أنبس ببنت شفة، لكن هززت رأسي نافيًا كي أخبره بأني لم أرَ شيئًا جميلًا حتى للحظة.
_ حسنًا إذًا، وهل تحب القطط كما يحبها ذلك الرجل الذي اصطحبك ؟
_ فرددت بهدوءٍ حازم: لا، فأنا أكرهها، وأكره من يصاحبهم.
لم يعطني أي ردة فعل
فأتبع يسألني اسئلة كثيرة.. أجبت على الكثير بالنفي وبعضها لم أجب أصلا عليها..
وعندما انتهى، كتب اشياء بالورقة وسلمها لي.
وقفت من مكاني دون ان أتفوه بأي شيء، وخرجت لأخي، ثم اخذت الدواء الذي كتبه الدكتور.
وفي طريقي للعودة صادفت الدكتور (خالد) فرحب بي، ثم تناول مني كيس الدواء من باب الفضول، وقال: ولكن هذا الدواء ليس لحالة أخيك إنه "لمرضى الاكتئاب" ؟!
أجبته بهدوء مترردًا : لا بأس يادكتور، فجميعنا -مرضى-
فأخذت الكيس، ورجعت للبيت صحبة اخي.
ولكن مذ هذه اللحظة....
- أصبحت أنا من يتناول الدواء قبل النوم .
-اخاف عليه من مجرد التفكير بالانتحار -لأن حياته غالية- وأنا من حاولت إلقاء حياتي إلى التهلكة.
- أستيقظ يصاحبني صداع قاتل، أما هو يسقي الازهر ويداعب القطط .
- أنام وأنا لا استطيع التقاط أنفاسي، وهو يهمس قبل نومه: غداً سوف احمي الازهار من الأمطار .
- أناديه بالمريض وانا من يشرب الدواء .
- أصرخ دائماً بوجه أمي وهو من يقفل الشباك عند رأسها، لخوفه عليها من وحوش لا وجود لها .
- أتمنى أن أصبح مجنونًا كأخي، وليس "عاقلًا" كما أنا .

_بقلم هبة مسعد المحبشي