آخر تحديث :الخميس-19 سبتمبر 2024-05:43م

ثورة 48م.. اليقين الثوري (10 ــ 30)

الخميس - 19 سبتمبر 2024 - الساعة 12:11 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


لافتات سبتمبرية

تمثلُ ثورة 1948م نهايةَ اليقينِ الثّوري الأول إذا ما استعرنا التعبير الأدبي الصُّوفي الذي أشارَ إليه أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري، رحمه الله، وهو يشرحُ تجربتَه مع الطاغية يحيى حميدالدين بقوله: "لقد كانت تجربة خصبة عميقة، كسبنا منها الأساس الأول للثورة، وهو اليقين باستحالة تغيير الإمام يحيى عن غير طريق القوة. ولم يكن هذا اليقينُ الثوري ليحصل إلا بعد المرور على كل هذه التجارب..".

حقا.. إنها نهاية الشّوطِ الأول، من المحطاتِ النضاليّة لسببين:
الأول: انتهاء حكم إمام طاغية، يُعتبر أطولَ من حكم اليمن خلال القرن العشرين، صريعًا على يد الشعب، بثورةٍ أخفقت؛ لكنها لم تفشل. كما سنوضح ذلك لاحقا.

الثاني: بنهاية ثورة 48م الدستورية، بدأ فصلٌ جديد، وثقافة مغايرةٌ، تنتمي للمستقبل أكثرَ من ارتباطها بالماضي، وإن كان النظام الإمامي لا يزال مستمرًا؛ لكنّ حدثَ ثورة 48م هزّ المسلماتِ الخرافيّة التي روّجها الطاغية، وبدأت تستجدُّ أسئلة جديدة، خاصة بعد قيام ثورة يوليو المصرية في يوليو 1952م. أي أنّ ثقافةَ الثورةِ تحولت إلى ثورةٍ ثقافيّة خلالَ عقد الخمسينيات حتى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر العظيم، 1962م، فكان الانفجارُ الكبيرُ الذي بدّدَ ظُلمة ألف عامٍ من الدجلِ والزيفِ والكهنوت.

توصل الأحرارُ مع الطاغية العجوز إلى طريقٍ مسدود، فكان اليقينُ الثوريُّ الذي لا بدّ منه، متمثلا في التخلص منه، والانتقال إلى حكمٍ دستوري، يلبي وإن الحد الأدنى من مطالب الشعب، ويحقق لهم حياة كريمة، كبقيّة شُعوبِ الأرض التي انتقلت خلالَ القرن العشرين نقلة نوعية، فعرفت مؤسساتِ التعليم وخدماتِ الصحة والكهرباء والمياه، ونشأت فيها مؤسسات الدولة العصرية الحديثة، كما تحقق الرفاهُ الاجتماعي ومقومات العيش الكريم، عدا الشّطرَ الشّمالي من اليمن، فإنه كان إلى حقبةِ القرونِ الوسطى أقربَ منها إلى القرن العشرين. وذلك بفعلِ سياسةِ الكهنوت المتخلفة التي جثت عليه طويلا، وغيّرت ملامحَ وجهه الحضَاري الأصيل، رغم عراقة هذا الشعب الحضارية.

على أية حال.. حسم الثوارُ الأحرارُ أمرهم في صنعاء، وصَاغوا الميثاقَ المقدس، المرجعية الدستورية لثورة 48م، والتي تسمت بموجبه بثورة الدستور، والمكون من 39 مادة، وملحقٍ من أربع مواد أخرى، وتوافقوا على عبدالله بن أحمد الوزير إمامًا دستوريًا، وأرسلوا منه نسخًا إلى الزبيري ونعمان في عدن. وكانت بصماتُ الفضيل الورتلاني فيه واضحة. ولا شك أن نسخة منه قد تسربت إلى ولي العهد أحمد في تعز، بل وأخبار الحسم الثوري كاملة بتفاصيلها، من خلال عيونه المحسوبين على الأحرار، المندسين في أوساطهم.
ولحساباتٍ تتعلق بطموحه وتطلعاته للحكم، فقد تركها تسيرُ حيث أراد الثوار، لثقته بنفسه من اقتطاف النتيجة النهائية، كما رد على رسالة لأحمد محمد الشامي، الذي كان يوافيه بتفاصيل أخبار صنعاء، وهو ما كان فعلا. فلقد كان على علم بكل تحركات الفضيل الورتلاني وأنشطته وخططه ــ والورتلاني مهندس ثورة الدستور، حسب تعبير أحمد محمد الشامي ــ ومع هذا لم يتخذ بشأنه أي إجراء، لا في صنعاء، ولا في تعز، وبوسعه أن يسجنه، أو ينذره بمغادرة البلاد؛ علما أن من أقنع الورتلاني بضرورة قتل الإمام والتخلص منه هو الإمام الدستوري عبدالله الوزير، وإلا فقد كان من المنتظرين لموت الإمام، كغيره من رجالات الجمعية اليمانية الكبرى.

شائعة موت الإمام
في واحدة من مكائده الشيطانية ضد الأحرار، عمل ولي العهد أحمد على تسريب خبر موت الإمام يحيى يوم 15 يناير 1948م، وتعمّد إيصال المعلومة إلى أوساط الأحرار بعدن؛ أي قبل قتله بأكثر من شهر، والذين استبشروا بهذا الخبر السّار، ومن ثم نشروا برنامجهم كاملا في صحيفتهم "صوت اليمن"، كما نشروا معه الميثاقَ المقدس وأسماء إمامهم وحكومتهم الجديدة كاملة، وأبرقوا بذلك إلى مصر، وعنهم تناقل الخبر وكالات الأنباء الخارجية، علما أن الميثاق المقدس واسم الإمام الجديد وأعضاء الحكومة إنما تم تجهيزها من قبل لفترة ما بعد موت الإمام الذي كان ينتظره الجميع، وليس لما قبله.

يوم حِزيز.. نهاية طاغية
في صبيحة يوم الثلاثاء، الموافق 17 شباط فبراير 1948م، خرج الإمامُ يحيى لتفقدِ أمواله في منطقة حزيز، جنوب صنعاء، وهي الرحلة الثانية فقط التي خرج فيها من صنعاء، كما ذكر المؤرخ محمد علي الأكوع، إلى جانب رحلته إلى "حمام دمت" قبلها بسنوات للاستشفاء، في الوقت الذي كان الثوارُ بكاملِ استعدادهم لتنفيذ مهمتهم التاريخية، أو قل لتنفيذ الواجب التاريخي؛ لأنّ القضاءَ على حُكم بيت حميدالدين كان عند الثوار الأحرار كالشهادتين، محور الإيمان، من قالها واعتنقها فهو حر ثائر، ومن تردد فيها فهو جامد، أو عميل خائن، كما ذكر المؤرخ الشماحي.

في صبح ذلك اليوم كانت المسؤولياتُ قد توزعت على رجالاتِ الثورة، فيما عيونُهم ترقبُ موكبَ الإمام المتجه جنوبًا، يصحبه رئيس وزرائه عبدالله العمري، فاقتفاه للتو البطلُ اليماني الكبير علي ناصر القردعي ورفاقه، على سيارة يقودها السائق محمد ريحان، وفي منعطف ضيق كمنوا له، منتظرين عودته، وما أن عاد بسيارته حتى أمطروه ومرافقيه بوابلٍ من الرصاص، خرّ على إثرها صريعًا يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد طول حياة، هي حياة الدجل والكهانة والطغيان التي ورثها عن آبائه.

وكان القردعي من المعارضين للإمامة بقوة، مُهاجمًا الطاغية يحيى، شعرًا ونثرًا، فمثّلَ شعلة لا تنطفئ خلالَ فترةِ حياته ضد كهنوت الإمامة، عامدًا إلى حل المشكلات القبليّة التي تذكيها الإمامة دائما، ما أوغر عليه صدرَ الإمام يحيى، فسجنه سنتين، تمكن بعدها من الفرار بقيوده مع أحد رفاقه من آل حميقان، فقال في ذلك شعرًا:
وانا أحمدك يا الذي سهلت مخراجي
من قصر فيه الرسم والبوب والصناج
فيه خمسة أبواب ما فياتهن شاجي
غير مبهمات القيود السود والأرتاج

وحين تأكد هؤلاء من موت الطاغية عادوا إلى صنعاء، يزفون البُشرى لرفاقهم، غير أنّ الخبرَ قد تسرب إلى سيف الإسلام الحسين، نجل الإمام نفسه، قبل أن تعرفَ قيادة الثورة ذلك، ومن بين ذلك جمال جميل الذي كان بمثابة القائد العسكري للثورة، والذي أبلى بلاء حسنا، ولعب دورًا بطوليًا نادرًا، كما سنشيرُ لذلك بعد قليل مفصلا، ويُقال أنّ الإمام عبدالله الوزير هو الذي أبلغ الحسين ابن الإمام يحيى بخبر مقتل أبيه، وأنه قد تولى الحكمَ بدلا عنه. وأيًا يكن الأمرُ فقد أبرقَ الحسينُ لأخيه أحمد في تعز فورًا، يخبره بمقتل أبيه، ويبدو أنّ أحمد كان ينتظر ذلك الخبر بفارغ الصبر، والذي لا يُستبعد أن يكون قد تسربت خطتُه من قبل، فأمرَ أحمد بإغلاق البرق في تعز، وبدأ بإعداد العدة للدور الجديد.

وقد فرّ القردعي من حزيز باتجاه خولان، لكن القبائل الموالية للطاغية الصَّـريع اعترضته، وقتلته، بعد قتال مستميت من قبله هو وابن عمه محمد صالح القردعي، فأسر الطاغية أحمد بعد ذلك أخاه أحمد بن ناصر القردعي، وأودعه السجن في حجة، ورثى أخاه بقصيدة، وصلت إلى الطاغية أحمد، فأمر أحمد بقتله على إثر ذلك، "ولم يستطع أحدٌ من الجنود إخراجه إلى ساحة الإعدام بحجة، فقتلوه رميًا بالرصاص في زنزانته".، وقتل الطاغية أحمد أيضًا الشيخ علي طالب القردعي في سجن حجة في نفس الفترة.
د. ثابت الأحمدي