آخر تحديث :السبت-21 سبتمبر 2024-11:43م

المشكلة ليست في العقل بل في طريقة استخدامه

السبت - 21 سبتمبر 2024 - الساعة 10:33 م

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


بين الحضور والغياب، الاختفاء والتجلي، المرئي واللامرئي تحتدم الرغبة في البحث عن المعنى فيما وراء الظواهر وتزدهر الفلسفة والعلوم والآداب فإذا كان باطن الأشياء مثل ظاهرها لانعدمت الحاجة إلى العلم والمعرفة والخيال والإبداع. وهذا هو ما يميز الكائن الإنسان عن سائر الكائنات الحية التي لا تجيد التخفي إذ هي مكشوفة ومنكشفة للحواس المجردة على الدوام . وحده الإنسان الكائن بين الكينونة والمظهر بحسب اريك فروم إذ مكنته اللغة بوصفها ثقافة من حجب الكينونة والمعنى في هذا العالم فهو بوصفه الكائن العاقل الوحيد الذي يمتلك وظيفة مزدوجة؛ التخفي والتجلي. فليس بمقدور الإنسان أن يفهم إنسانًا آخر بضمير مطمئن كما يفهم الحيوان الذي يرقد بجانبه هنا والآن. وهذا هو سبب سوء التفاهم في عالم متعدد اللغات والثقافات والأفكار إذ أن اللغة والثقافة تحجبان المعنى دائمًا. ومن رحم الجهل ولد العلم ومن رحم الغيب تولد الدين ومن رحم اللامرئي يزدهر الخيال والإبداع. فلا نكتشف الا موجودا ولا نخترع الا ممكنا. والواقع واحد بالنسبة للجميع والاختلاف يكمن فقط في زواية الرؤية وقدرة العقل على فهم ما يراه. تكلم حتى أراك وأكتب حتى أعرفك أما الفهم والتفاهم فيحتاج إلى شيءٍ آخر. نعم العقل هو اعدل الأشياء قسمة بين الناس كما قال ديكارت الفرنسي ولكن الناس تختلف في استخدامه.
ومن الاخطاء الشائعة الاعتقاد بأن العقل هو عضو من اعضاء الجسم. إذ يتم المطابقة عند البعض بين العقل والمخ أو الدماغ بمعنى واحد وهذا غير صحيح البته.

ليس هناك شيئًا ملموسًا محسوسًا اسمه العقل بل هو مفهوم مجرد يطلق على ممارسة أو نشاط يباشره الانسان في أثناء ممارسته لحياته اليومية ،ومع ذلك يظل مفهوم العقل أهم وأخطر المفاهيم التي مارست تأثير ساحق على حياة المجتمع الانسان ،ويتجدد نظام كل ثقافة أو حضارة من المعنى التي تمنحه للعقل والموقف التي تتخذه منه.وقد كان العقل يعد المفهوم المركزي في حقل الثقافة اليونانية ،فهو عند الفيلسوف هيرقليطس«اللوغوس» أو«العقل الكوني» بمعنى النظام أو القانوني الكلي وهو عند أنا لساجوراس «النوس» «العقل الكلي» أي القانون والنظام مقابل«الكاوس» أو الفوضى وهو عند سقراط القاسم المشترك بين الناس أي الكلي وهو عند ارسطو«الذي ينظم كل شيء وهو العلة لجميع الاشياء »من الملاحظ ان اليونانيين يستخدمون كلمة (العقل) بمعنى النظام الكوني أوالله ،العقل يحكم العالم ،والتعقل بهذا المعنى هو ادراك النظام الذي يحكم الكون والترتيب بين الاشياء وقد ساد هذا التصور للعقل والنظام الطبيعي تاريخ الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر وهذا هو معنى قول فرانسيس بيكون«أن اردنا أن نعرف الطبيعة علينا الانصات إلى قوانينها» ويرى محمد عابد الجابري«أن المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة والقول بأن العقل يكتشف نفسه في الطبيعة ومن خلال التعامل معها ثابتين أساسيين في بنية الفكر الغربي اليوناني الأوروبي.لكن ماذا عن العقل في الفكر العربي الاسلامي؟ جاء في لسان العرب: “العقل، الحجر، النهى، ضد الحمق والعاقل هو الجامح لأمره وهو،مأخوذ من عقلت البعير إذ جمحت قوائمه» وأيضاً: «العاقل من يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم اعتقل لسانه إذا حس ومنع الكلام.. وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك أي يحبسه” واضح هنا أن المعنى المراد من العقل هو معنى قيمي وأخلاقي وليس معرفيًا أو فكريًا مفهوميًا ،كما أنه لا يشير إلى نظام الطبيعة وقوانين الكون ،وإذا وجدنا في دلالات العقل العربي معنى للنظام والتنظيم فإنما في المجال التداولي والمتجه دومًا إلى السلوك البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها.ونقصد بمفهوم العقل؛ مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. هو غالبًا ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية. يملك العقل القدرة على التخيل، التمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال.

وحينما يعرف ويفهم كل شخص وفرد بأنه كائن عاقل يعيش في مجتمع بين أناس عقلاء يشبهونه بهذه الصفة الجوهرية المشتركة، أي «العقل» الذي يعد أعدل الأشياء قسمة بين الناس.. فمن المؤكد أنه يمارس فعل التفكير والتصور كل لحظة من حياته، وقد جعل بعض كبار الفلاسفة والحكماء أمثال أفلاطون وديكارت، الفكر برهاناً أولياً على إثبات حقيقية وجود الإنسان، «أنا أفكر إذن أنا موجود»، وهذه العبارة لا تخص ديكارت بذاته، ولا تقتصر على الفلاسفة والحكماء والمفكرين فحسب، بل تعني كل كائن يقول «أنا» من سيدنا آدم وكل أبنائه وأحفاده من أنبياء ورسل وأفراد عاديين، متعلمين وأميين، فقراء وأغنياء، سوداً وبيضاً، يهوداً ومسلمين. جميع سكان المعمورة من النوع الإنساني بغض النظر عن ألوانهم وأديانهم وألسنتهم وأحسابهم وأنسابهم وأماكن وجودهم على ظهر هذا الكوكب شمالا وجنوبا، شرقا وغربا؛ إذ إن جميع الناس معنيون بالتفكير بل ومقدر عليهم التفكير والتأمل والتدبر في آيات الله ومخلوقاته، في حياتهم ومشكلاتهم، في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، ولا أتصور وجود إنسان لا يمارس التفكير كل لحظة من حياته عدا حالات الغيبوبة الكاملة والسبات المطلق، حتى الأحلام هي نمط من أنماط التفكير، أي فعالية فكرية غير واعية.. ألسنا نرى صوراً وأشكالاً وحركات ومشاهد حسية حينما نحلم، إذن الحلم هو إفراز الأداة ذاتها «العقل المفكر». إننا نصف الشخص المغمى عليه بـ «فاقد الوعي» أي الغائب الفكر، وقبل سنوات أثبت العلماء في « مجال المخ والأعصاب» أن السبب الأخير والحاسم للموت يكمن في توقف عمل الدماغ.. ففي اللحظة التي يتوقف فيها النبض في الدفاع، يكون الكائن قد فارق الحياة وإلى الأبد، هذا ما أكده البروفسور «فرنون مونكاسل» عالم الأعصاب في جامعة «جون هوبكنز « الأمريكية.. في مقال نشر بعنوان «علم المخ في نهاية القرن «مجلة الثقافة العالمية؛ حيث يقول في المقدمة: «نفتتح هذا الملف عن المخ بتعليق فلسفي موجز، وذلك لسبب واضح:
فما راكمه النصف القرن الأخير من معلومات عن وظيفة المخ يضعنا وجهاً لوجه أمام سؤال: ماذا تعني أن تكون إنساناً؟.. ونحن لا ندعي وجود إجابات جاهزة في متناول اليد لهذا السؤال.. لكننا نؤكد على أن ما يجعل الإنسان إنساناً هو عقله.. وإنسانيته هذه تتضمن جوانب السلوك الذي يصنف تقليداً على أنه ذهني». ولا أعتقد أن هذا التأكيد يضيف شيئا جديداً، لما ينبغي عليه أن يكون «حسا سليما» فالحس السليم يدرك بالسليقة، وأن ما يميز الكائن البشر عن الحيوان الغابي، هو كونه مفكراً، وحينما تختفي هذه الصفة المأهوبة من حياة الموجود الإنساني، يرتد مباشرة إلى مستوى الحياة البيولوجي الصرف، ولكن على نحو أشد فجاجة وغباوة من الحيوانات الذكية، كالنحل والطيور والقردة العليا والكلاب والثعالب … إلخ. وإذا كنا نعتقد أن «العقل هو أعدل الأشياء قيمة بين الناس، وإذا ما عرفنا أن إنسانية الإنسان الحقة التي تتضمن جوانب سلوكه الإنساني هي ذات طبيعة ذهنية، أي تتصل بالتفكير من حيث هو فعالية مبدعة وخلاقة وشمولية ومتعددة الأوجه ومعقدة التركيب، وأحاسيس ومدركات وتصورات وكلمات ومفاهيم وأحكام، تذكر وتخيل واستيعاب فهم وحفظ وإبداع… إلخ.كل هذه العمليات الفكرية وغيرها كثير لا ريب أنها تجري في رأس كل فرد منا، غير أن السؤال الذي بات يشغلني منذ وقت طويل هو: لماذا استطاع غيرنا من بني الإنسان في كثير من البلدان أن يحلوا مشكلاتهم الحياتية في زمن قصير وفعالية عالية؟. لماذا أهل اليابان والصين أو فرنسا أو أمريكا أو بولندا.. إلخ.. لماذا استطاعوا أن ينتصروا علينا ويتجاوزونا بمراحل طويلة من سير تطورهم الإنساني؟ ولا أود أن أكرر السؤال.. «لماذا تخلف المسلمون وتقدم العرب؟ لشكيب أرسلان في أواخر القرن ما قبل الماضي؟.. بل أود أن أدرس المشكلة من زاوية أخرى غير آلية العلاقة بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر.. ومن المؤكد أننا جميعاً نعتقد بقدرتنا على الإجابة.