آخر تحديث :السبت-21 سبتمبر 2024-11:43م

إرهاصات ما قبل سبتمبر (13 ــ 30 )

السبت - 21 سبتمبر 2024 - الساعة 10:38 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية:

إنّ قطعَ رأس الشجرة لا يعني موتها، ما دامت جذورُها تحتضنُ تربة أرضها، وإنَّ تواري القمر إيذانٌ ببزوغ الشمس، كما أنّ غروبَ الشمس بداية لظهور القمر، وإن أفلَ نجمٌ تبازغت أنجمٌ أخرى.
ها هنا بعضُ النّجوم انطفأت
كي تزيدَ الأنجمُ الأخرى اشتعالْ
موتُ بعض الشعبِ يُحيي كله
إنّ بعضَ النقصِ روحُ الاكتمالْ
تفقد الأشـجـارُ من أغصانها
ثم تزدادُ اخضـرارًا واخضلالْ

لقد سبقت ثورةَ السادس والعشرين من سبتمبر عدةُ إرهاصات ثورية، كانت جميعُها تبشر وتنذر باليوم الأخير في حياة نظام الطغيان الكهنوتي الإمامي البغيض، ولعل أبرز هذه الإرهاصات بعد انقلاب 55م ثلاث محاط مهدت إلى جانب سابقاتها للحدث الأكبر، كالتالي:

حركة سعيد فارع "إبليس".
في العام 1960م، وبينما كان الإمام أحمد في السخنة، وهي مقر إقامته المفضل، لوجود حمام مائي كبريتي، يستشفي منه للروماتيزم الذي كان يشكو منه، قام سعيد حسن فارع الذبحاني، الملقب بـ "إبليس" بمحاولة قتله؛ بعد التنسيق مع الأحرار من مشايخ وضباط وغيرهم؛ لكن محاولته تلك باءت بالفشل. وقد كتب بعد أن عزم على تنفيذ العملية هذه الكلمات لأحد أصدقائه: "لقد كذبنا كثيرًا على الناس، أو بالأحرى كنا صادقين، ولكن الناس الآن يتهموننا بالكذب. والآن استودعك الله. إما الحياة وإمّا الردى".

ووفقًا للباحث للدكتور عبدالودود مقشر: كان سعيد فارع الذبحاني قد افتتحَ لهذا الغرض "الاغتيال" مكتبة بالحديدة، أسماها "المكتبة الثقافية الكبرى"، وكانت بجوار قصر الشراعي باشا، المطل على البحر، داخل باب مشرف، وكانت المكتبة مصدرَ تنوير فكري وقومي؛ حيث استقدمت أغلب المجلات والصحف المصرية، باعتبار الذبحاني وكيلا للمطبوعات المصرية، واستقدم كتبًا مسموحا به، وكتبًا ممنوعة، وكان ذلك غطاءً لنشاطه السّياسي؛ حيث يقوم بنقل المنشورات والصُّحف الوطنية من عدن، وكان يتولى توزيع هذه المنشورات في الحديدة شابٌ يُدعى علي مارش، بالتعاون مع امرأة ترتدي الحجاب، لا يُعرف اسمها.
وذكر الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته أن بعضًا من المشايخ كانوا قد أجمعوا على قتل الإمام بمدينة السخنة، شرق مدينة الحديدة، وتم الاتفاق مع سعيد فارع، ومع اللقية الذي سلمه ثلاث قنابل من مخازن الكلية الحربية، فأودعها في دكان لأحد أصدقائه في السخنة، ثم ذهب إلى بلاد الزرانيق لمقابلة الشيخ محمد يحيى منصر ووالدِه، وهما من مشايخ الزرانيق، ليوصل لهم رسالة من حسين المقدمي، فأباح لهما بالسر، ومن ثم قبضوا عليه وحملوه إلى الإمام بالسخنة. ومثّل القبض عليه صدمة للمشايخ الذين كانوا قد دبروا عملية القتل.
وقد تم إرسال هذا المناضل الوطني الكبير إلى سجن حجة، وتعرض فيه للتعذيب المبرح من قبل زبانية الإمام، ما اضطره لمحاولة الهروب من السجن، مع المناضل محمد عبدالله الفسيل، والمناضل حسين السحولي في العام 1961م؛ لكنه أصيب بكسر في رجله أثناء القفز من السور، فتنبه له الحرس، وهجموا عليه، وقتلوه بعد مناوشة حصلت بين الطرفين.
وعلى أية حال.. فإنّ حركة سعيد فارع بقدر ما هي فردية، تعكسُ صورةً استثنائية من الشّجاعة والفداء والتضحية بالنفس لفرد ما، إلا أنها تختزلُ إرادةَ كل يمني وطموحَه، وقد أحدثت بعدها جدلا واسعًا لدى اليمنيين وتساؤلات وتحليلات، لم تهدأ إلا بقيام حركةٍ أخرى بعدها بفترة، هي حركةُ العلفي واللقية والهندوانة. مثلما لم يهدأ الحديث عن ثورة 48م إلا بعد الحديث عن انقلاب 55م.

حركة العلفي واللقية والهندوانة
على الرغم من نجاح الطاغية أحمد في قمع الحركات المناهضة له منذ 48، مرورًا ب 55م، ثم حركة سعيد فارع في العام 1960م، إلا أن الشّعبَ كان ولادًا بالرجال الأبطال والمناضلين الصادقين ضد الكهنوت الأرعن، فما أن يخمد أوارُ أي حركة، حتى يضطرم نشاطُ أخرى من جديد، فلم يدَعُوا له جفنًا ينام.
في 25 مارس 1961م كان الطاغية أحمد في زيارة لمستشفى الحديدة، لإجراء بعض الفحوصات الطبية، وزيارة مرافقيه المصابين في حادث سيارة عسكرية حاولت مداهمة سيارة الإمام قبل ذلك بشهر، محاولة اغتياله، وما أن علم كل من: محمد عبدالله العلفي، وعبدالله اللقية، ومحسن الهندوانة إلا ودبروا خطة للقضاء عليه داخل المستشفى، وحين دخل الإمام المستشفى، تم إطفاء الأنوار أولا، ثم مباشرته بالرصاص من غرفة صغيرة، من قبل العلفي، فانبطح أرضا، متظاهرًا بالموت، وقد فرت حراستُه من حوله، وظن الثلاثة الأبطال أنه قد مات، لكنه لم يمت، فتم نقله إلى قصره مباشرة، وتمت معالجته هناك بالقصر. وبحسب الدكتور حسن محمد مكي، رئيس الوزراء الأسبق، عن هذه المحاولة: كان لها تأثيرها المدمر على حياة الإمام أحمد، وعلى مستقبل النظام الملكي في اليمن، وكانت مؤشرًا حقيقيا، تتالت بعده الأحداث التي أدت فيما بعد إلى قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، سنة 1962م.

وفي سياق حديثه عن الواقعة، ذكر الدكتور مكي أن "العكفة" من أتباع الإمام قد أتوا إلى منزله باحثين عنه، ففزع هو وأسرته أولا، لكونه من الحداثيين "المُبنطلين" وكان جنود الإمام يعتقلون هؤلاء "المُبنطلين"، وأغلبهم من الشباب المتعلمين أو العائدين من الخارج، إلا أنه قد اطمأنّ بعد ذلك حين عرف أن المطلوب منه ترجمة تقرير الأطباء الإيطاليين في المستشفى؛ كون الدكتور مكي يجيد اللغة الإيطالية، وكان من ضمن الفقرات التي وردت في التقرير أن حياة الإمام في خطر، وأن قلبه متعب، وأن من حُسن حظه أنَّ أيًا من الرصاصات البالغِ عددُها أحد عشر رصاصة لم تصب قلبه، وأن أخطر الرصاصات تلك التي أصابته في ظهره، وكان معظم الرصاصات الباقية في الحوض.

وذكر القاضي الإرياني في مذكراته أنه قد تم القبض على اللقية والهندوانة، وأنهما عذبا أثناء التحقيق، وثمة آخرون سُجنوا على ذمة الحادث، مثل حسين المقدمي، والدكتور فضل الله الزاقوت، السوري الذي كان يعمل في المستشفى كطبيب، وكان له صلة بالشهداء الثلاثة؛ أما العلفي فقد أقدم على الانتحار حين علم أن الإمام لم يمت، مفضلا قتل نفسه على ألا يتعرض لأي تعذيب من زبانية الإمام.
وسجل البطل اللقية موقفا بطوليا أثناء التحقيق معه وتعذيبه وإعدامه، فلم يبح بالسر عمن معه من المتآمرين أو يعرفون، حتى ساعة الإعدام، وكان العقيد عبدالله السلال ممن يعرف ذلك سلفًا، فأحس الإمام أو شعر بأن السّلال على علم، فأشركه ضمن لجنة التحقيق، متوهمًا أن الشهيد اللقية سيفضي بالسر للمحققين، وسيضع السّلال في حرج. وقد نفى اللقية أي مشاركة له، قائلا: ليس معي أحد؛ بل الشعب جميعه، وقد عاهدتُ الله والشعب أن أنتقم له، وكان هذا العهد في الكعبة الشريفة، وإنني أعلم علم اليقين أن الشعب لن يترك هذه الشجرة الخبيثة تنمو في أرض اليمن الطاهرة بعد الآن.
وقد لقيت هذه الحركة ــ على فشلها ــ ارتياحًا واسعًا على المستوى الشعبي، وأكبرَ الناسُ في الأبطال تضحياتهم تلك، كما عكست ذلك المظاهرات الطلابية التي اندلعت في مايو من العام 1962م، أي قبيل الثورة بأشهر قليلة.

المظاهرات الطلابية
كغيرهم من شرائح المجتمع، كان للطلاب دورٌ بارزٌ في النضال والمقاومة للطغيان والكهنوت، جنبًا إلى جنب، مع الجند والساسة والقبائل والمثقفين وغيرهم، على الرغم من محدودية المنصات الثقافية في اليمن، قياسًا إلى منصّاتِ القاهرة أو بغداد أو دمشق أو بيروت الثقافية، إنما الشعور بالقهر والإحساس بالظلم لا يحتاج ثقافة عالية، وإن كانت الثقافة والوعي من الضمانات الشعبية لمواجهة الطغيان ومناوأة الاستبداد.
لقد خرج طلاب المدارس في تعز وصنعاء في مظاهرات عامة، على الرغم من الرهبة السوداء التي كست وجوه وعقول الساسة والمشايخ من رجالات القبائل، متذكرين مآسي 48م، وعلى الرغم من تلك القبضة التي ظهر بها الطاغية بعد إعدامات 55م، إلا أن حسابات الشباب غير حسابات الشيوخ أمام رهبة هذا الكهنوت، وبمعنى آخر: لا حسابات أساسا لهم غير حسابات المستقبل، فطُهرانيتُهم الثورية ونقاؤهم السياسي أكبر من موانع التحدي، على ما تنطوي تحركاتهم من الفوضى أحيانا، كما هو الشأن في أغلب التحركات الطلابية.
وتكررت هذه المظاهرات الطلابية التي كسرت صنمية الإمامة، وكان الآباء ينظرون لها بتعجب، لأنهم لم يتعودوا من أبناء جيلهم تلك الصيحات، وقبلها مظاهرات عام 59م الطلابية في صنعاء إثر صدور قرار من الطاغية أحمد بفصل مئتي طالب، تظاهروا مطالبين بتوفير العمل، فازدادت المظاهرات عنفًا، ما أجبره بعد ذلك على إلغاء قراره السابق. وتوالت الاحتجاجات الطلابية والخروجات الصغيرة، حتى تكللت بمظاهرات مايو 1962م الشهيرة التي كانت واحدة من ينابيع الثورة بعد ذلك بأشهر قليلة. وأكثر من ذلك المظاهرة الطلابية في صنعاء وتعز في مطلع سبتمبر 1962م، قُبيل الثورة، بتشجيع من المعلمين المصريين.