آخر تحديث :الإثنين-23 سبتمبر 2024-11:50م

في رحاب الزعيمين: الزبيري ونعمان.. التنوير والتثوير (15ــ30)

الإثنين - 23 سبتمبر 2024 - الساعة 11:50 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


لافتات سبتمبرية

ثمّة صادقون في نضالهم؛ لكن لصدق الزعيمين: أبي الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري ورفيقه الأستاذ أحمد محمد نعمان مذاقا خاصًا، وثمة أحرارٌ في مواقفهم؛ لكن لحرية الزعيمين نَكهتَها الخاصة، وثمة رجالُ مواقف كثر، لكن مواقف الزعيمين مختلفة، ومتميزة، ومدهشة..!
مواقف بطولية خالدة، خلدتها روحا الزعيمين فكرًا وسلوكا، بالقلم، بالبندقية، بالقصيدة، بالخطابة، بالرواية، بالمقالة، وقبل كل ذلك بروح وطنية عتيدة، تنتمي لضمير الشعب، وقد اختزلت روح الأمة.

سَجَّلْ مَكَانَكَ فِي التَّاريْخِ يَا قَلَمُ
فهاهنا تُبْعَثُ الأجْيَالُ وَالأمَمُ
هُنَا الصَّوَارمُ فِي الأغْمَادِ ثائِرَةً
هُنَا الضَّيَاغِمُ فِي الغَابَاتِ تَصْطَدِمُ
هُنا القلوب الأبِيَّاتُ التي اتَّحدت
هُنا الحنان هُنا القربى هُنا الرحمُ
هُنا العروبة في أبطالها وَثَبت
هُنا الِإباء هُنا العليا هُنا الشيمُ
هُنا الكواكب كانت في مقابرها
واليوم تشرق للدنيا وتبتسمُ
هُنَا البَرَاكِيْنُ هَبَّتْ مِنْ مَضَاجِعِهَا
تَطْغَى وَتَكْتَسِحُ الطَاغِي وَتَلْتَهِمُ

سلك الزعيمان معا طريق السلم في البداية، فطريق النصح، فالمعارضة الهادئة، فالصيحة الغاضبة، وصولا إلى التثوير، بعد رحلة طويلة من التنوير.
قصائد الزبيري الشعرية ومقالات نعمان الصحفية كانت مشعليْ التنوير والتثوير معا، من الهمسةِ الأولى في أربعينيات القرن الماضي، إلى الصيحة الأخيرة في ساعة الصفر لثورة السادس والعشرين من سبتمبر مع رفاقهما الأبرار، من خيرة رجالات الوطن، وهم كثر: علي عبدالمغني، السلال، جزيلان، عبدالغني مطهر، العمري، العواضي، الإرياني، والقائمة تطول.

التقى الزعيمان، وكل همّهما الوطن. التقيا يحملان همومَ الشعب. نعمان بخلفيته المشيخية وفكره الصوفي "العلواني"، والزبيري بخلفيته القضائية وفكره التجديدي "الشوكاني"، ولابن علوان والشوكاني معا صولات وجولات مع أحداث عصر كل منهما. وسارا في مسار اليمن الواحد الكبير..
جمع آل نعمان بين المشيخة القبلية والسياسة، كما تميزوا بسعة الثقافة والتضلع في الأدب والشعر، على نحو نادر من بين أغلب المشيخات، ما جعلهم قريبين من جميع الناس؛ أي أنها مشيخة مستنيرة، مثقفة، سياسية، لا كتلك المشيخات التقليدية التي عُرفت بها بعض المناطق التي يمثل الشيخ فيها إمامًا آخر..!

وقد كانت لهذه الأسرة ــ ولا يزال ــ ميولات صوفية مكتسبة، توارثوها عن الآباء والأجداد، كما هو الشأن مع أغلب الأسر في تلك المنطقة وغيرها من مناطق اليمن التي تأثرت بصوفية الدولة الرسولية، بما تكتنزه الصوفية من القيم الإنسانية والأخلاقية النادرة. وهي قيمٌ عززت في الناس الزهد في جانبه الإيجابي، كما عززت فيهم روح المقاومة والكفاح للظلم، لأنّ المتفاني روحيا في الذات العلية لا يستسيغ عبودية البشر مهما كان. روح الصوفي تصمدُ بشموخ في مقاومة أعاصير الحياة، وفي مقاومة الطاغية والمستبد.
منذ البواكير الأولى لنضال اليمنيين ناوأت مشيخة آل نعمان بالحجرية طغيانَ الإمامة، إلى حد أنه ما ذكر النضال اليمني إلا وتبادر إلى الذهن مباشرة اسم الأستاذ نعمان، مقرونا بنجله محمد، وبالشيخ المناضل أمين عبدالواسع نعمان الذي لعب أدوارًا بطولية نضالية، لم يُكتب عنها حتى الآن.

وجمع الزبيري ــ على نحو نادر ــ بين ثقافة وفكر إمام اليمن أبي محمد الحسن بن أحمد الهمداني، فنشوان الحميري، فالفقيه المجدد الإمام محمد بن علي الشوكاني، وغيرهم من الرواد الأوائل الذين تأثر بهم الزبيري في مراحل تكوينه الأولى.
شكلت هاتان الثقافتان عضادة فكرية وسياسية في مسيرة النضال الوطني التي تشكلت من كل ربوع اليمن، بإلهام نعماني زبيري نادر، لا يزال إلى اللحظة يحتل زخم المكان والزمان.

من أجل الهدف الكبير أنكرا ذاتيهما الشخصية، مُنتصرَين للذات الوطنية الكبرى، يعيشان حياة البؤس والحرمان، وبين يديهما المال الذي كان يأتيهم من المتبرعين؛ لكنه مالُ القضية، ومالُ المشروع الكبير. يقول الأستاذ نعمان في مذكراته: "قد أتضورُ جوعًا، لكيلا أنفق أيّ مبلغ إلا في سبيل القضية، في طباعة، في نشر، في برقيات، في مذكرات، لمن يعمل "في مقابل عمله"، وأنا مع أولادي نعيش في عدن كأبأسِ المخلوقين. وكان الزبيري يعرفُ الحقيقة ويشاركنا هذا".

إلى جانب هذا أيضًا حصافةُ الأستاذ نعمان ونباهتُه وحذرُه الشديد، وهي ميزة السياسي النبيه؛ إذ ظل طوال هذه السنوات محتفظا بسرية التبرعات المالية التي تصل لصالح القضية، ولم يُطلع عليها أحدًا غير الزبيري فقط، لثقته المطلقة به، رغم المطالبات المستمرة التي تتناوشُه بالكشف عن مصدر الأموال التي يتحصل عليها، لمعرفته أنّ ثمة ذئابًا في ثياب الحُملان، وأنه إذا كان البعضُ صادقًا في هذه المطالبة، فثمة آخرون متربصون، يكيدون له ولرفيقه وللرجال المخلصين أيضًا المكائد، ويبحثون عن كل شاردة وواردة، ليبلّغوا بها ولي العهد، السيف أحمد، متظاهرين بالوطنية وبموالاة الأحرار، فظل وفيًا، محافظا على السر، متحمّلا الأذى والاتهام من الأصدقاء قبل الأعداء. أضف إلى ذلك ما كان من الدروس السّابقة من الأخطاء التي كان قد وقعت فيها هيئة النضال وجمعية الإصلاح، وكلتاهما تعرضتا لعيون الجواسيس وآذانهم، كما أنّ رجالها قد أُلقيَ عليهم القبض، وأُودِعوا سجون الإمام، بسبب عدم نباهة قيادة الجماعتين. والعاقل من اتعظ بغيره، كما يُقال.

وكما كان الأستاذ نعمان الرأسَ المفكر والمدبر والعقلَ المنظر للنضال، فقد كان الزبيري رحمه الله نافخ الروح الثورية في وجدان وأحاسيس الشعب اليمني، وكأنه حادي القوم في مسراهم؛ لذا ظلت روحُه سارية في جسد الشّعب إلى اليوم عَلَمًا خالدًا مخلدًا في الذاكرة الشعبيّة، ومنه يستلهمُ الأبطالُ اليوم نضالاتهم ومكافحتَهم داء الإمامة الوبيل. صحيح أنّ الإمامة قتلته، وهو في أوج عطائه ينازلهم العداء، أو قل قضت عليه جسدا؛ لكنها خلدته روحًا قائمة إلى يوم القيامة، قتلوا زبيريا واحدا، فخلق الشعب ألفَ زبيري، وهاهم الزبيريون الجدد اليوم قد تسلموا منه راية النضال وبيارق النصر في كل أنحاء اليمن، وهاهم اليوم يواصلون المسير بروح زبيرية عاتية، تقضُّ مضاجع الكهنة في عقر دارهم. فمن انتمى للشعوب هيهات أن تنساه، ومن اختار الانحياز لقضايا الأمة، ومطالب الشعب فلن تنساه الأمة، ولن يتلاشى من ذاكرة الشعب، وسيظل كذلك في وجدان وروح كل جيل قادم.

وما حملت يراعي خالقاً بيدي
إلا ليصنع أجيالاً وأوطانا
يخاله الملك السفاح مقصلة
في عنقه ويراه الشعب ميزانا
فهاك يا أمتي روحًا مدلهة
عصرتُها لخطاك الطهر قربانا
كأسًا من الشعر لو تسقى الشموس بها
ترنحت ومشى التاريخ سكرانا

لقد تلاقحت روحُ الشهيد الزبيري مع روح الشعب، فكان ذلك الشُّعور المتبادل، وكان ذلك الوفاء لرجلٍ نذرَ حياته لقضية الوطن حتى لاقى ربه في جبهات النضال يلملم أحشاءه، مرددا:
بحثت عن هبة أحبوك يا وطني
فلم أجد لك إلا قلبي الدامي
د. ثابت الأحمدي