آخر تحديث :الأربعاء-27 نوفمبر 2024-03:01ص

سبتمبر وأكتوبر جناحا اليمن الكبير (17 ــ 30)

الخميس - 26 سبتمبر 2024 - الساعة 02:25 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


لافتات سبتمبرية


للشعوب والأوطان تحولاتها التاريخية الكبيرة التي تتم من خلالِ محطاتٍ فارقة في حياتها، هذه المحطات هي في مجملها من صناعة الشعوب نفسها، عبر نخبتها الطليعية التي تمثل رأس حربة التغيير والتحول.
وفي اليمن تعتبر ثورتها 26 سبتمبر 1962م في شمال الوطن، وثورة 14 أكتوبر 1963م في جنوبه محطتين فارقتين في حياة الشعب الواحد الذي وقع بين نيري: الاستبداد الإمامي في الشمال، والاحتلال البريطاني في الجنوبي، فكانا شمالا "معتلا" وجنوبا "محتلا" بحسب ما كان يتردد في أدبيات الأحرار منتصف العقد القرن الماضي.

كانت أولا ثورة 26 سبتمبر الانفجار الأعظم، والتتويج الأكبر لنضالات اليمنيين ضد سلالة الكهنوت الإمامي البغيض، وكانت خاتمة لثورة 48 وانقلاب 55 وحركة 1960م، وانتفاضة 61م في القرن العشرين، ناهيك عما سبقها من انتفاضاتٍ وتمردات أخرى على نظام الحكم الإمامي منذ العشرينيات، أو ثورات اليمنيين ضد الأئمة قبل ذلك التي مثلت لها منابعها الأساسية وروافدها الأولية والتي سقتها وغَذّتها حتى اختمرت واكتملت. صحيح أن ثورة 48 فشلت؛ لكنها فتحت كوة الضوء في جدار العتمة، وبعثت على التساؤلات الجدلية في أوساط العامة عن طبيعة الحكم ومقارنته إلى الأنظمة العربية الأخرى القائمة آنذاك، إضافة إلى أنها كسرت الهالة الدينية التي كان الإمام يحيى يحاول صبغها على شخصه، بأنه ابن السماء، وأن الرصاص لا يخترق جسده، فلما اخترقت رصاصات القردعي جسده سرعان ما سقط زيف الدعاية الكاذب، ومن ثم بدأت نخبة صنعاء وذمار وإب وتعز والحديدة وعدن وحضرموت ولحج تتحدث في مجالسها الخاصة عن ظلم الإمامة وكهنوتها، وعن ضرورة الإصلاح السياسي، كما رفعت النخبة المستنيرة أصواتها عالية بضرورة تغيير نمط الحكم بكامله، لا مجرد الإصلاح الذي يشبه الترقيع من وجهة نظرها، والأمر كذلك حقا. وشكل مذياع صوت العرب من القاهرة مدرسة في الوعي والتثقيف من بداية الخمسينيات حتى قامت الثورة.

وعمق انقلاب 55م بقيادة الثلايا تلك التساؤلات أكثر في أوساط الجيش والمتعاطفين معه، وإن فشل الانقلاب المستعجل وغير المدروس كما فشلت قبله ثورة 48 الدستورية التي كانت منقطعة إلى حد كبير عن عامة الناس، مقتصرة على النخبة فقط. وجاءت حركة سعيد فارع عام 1960م، فبدأ صنم الإمامة يتهاوى، ليتطور الأمر بانتفاضة طلاب صنعاء الأكثر شجاعة وانطلاقا، بوعي جديد متشكل من ثقافة بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق التي كانت قد تسربت عبر الصحف والمجلات والكتب إلى صنعاء، وكان أكثرها تأثيرا ثورة يوليو المصرية بثقافتها الجديدة وأصواتها الصاخبة، إضافة إلى مظاهرات طلبة مدارس تعز.

هذا عن النبع الأولي الذي تدفقت منه الثورة، الثورة الثقافة قبل الثورة الحدث، باعتبار الثورة في الفكر وفي الذهن قبل أن تكون في الواقع، وباعتبار الثورة قلما وكتابا قبل أن تكون مدفعا وبندقية؛ إذ الوعي بالثورة يسبق الثورة نفسها. فما المسارب التي تمشت فيها؟ والمصبات التي انسربت إليها؟

لكل ثورة أو حدث حامله الأساسي وقائده الذي يرفع شارة النصر، وكان تنظيم الضباط الأحرار مسنودا بالشعب هو مفجرُ نبع الثورة في فصلها الأول، مدعومًا من جمهورية مصر العربية؛ لأن الجيش هو المؤسسة الوحيدة القائمة آنذاك، أو بالأصح شبه المؤسسة القائمة، وفي صورته البدائية، فلا أحزاب سياسية، ولا منظمات مجتمع مدني، ولا جامعات ولا اتحادات ثقافية أو سياسية، الدولة أشبه بسوق شعبي يتحكم فيه الإمام. يقود الجند ويوزع أصواع البر والشعير على حد سواء، يقابل سفراء الدول وقادتها ويشرف بنفسه على شراء لجام البغلة التي يركبها. يقضي بين الناس، ثم يكتب التمائم والتعاويذ للمرضى، كما أشار إلى ذلك الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه "مغامرات مصري في مجاهل اليمن".. كل شيء بيد الإمام.! ومن دعاه لفكرة عصرية أو للإصلاح فالرد جاهز: تريدوننا أن نتشبه بالنصارى؟ إلى حد أن شراء أي مواطن لجهاز الراديو في عهد الإمام يحيى كان لا يتم إلا بإذن منه شخصيا، كما ذكر ذلك القاضي الإرياني في مذكراته..!
هبت رياح الثورة، فكان كل مواطن ثورة بذاته، عدا الجهلة من الأتباع في بعض المناطق الذين شكلوا ــ بجهلهم ــ عقبة في طريق الثورة، تجاوزتها إرادة اليمنيين بعد ذلك؛ ولكن الثورة نجحت وعَبَرت بسلام، مسنودة بإرادة الجماهير ودعم الأشقاء من جمهورية مصر العربية بالدرجة الأولى.

هذا عن ثورة 26 سبتمبر. فما ذا عن ثورة 14 أكتوبر؟
في الواقع تُعتبر ثورة 14 أكتوبر 1963م امتدادًا طبيعيًا لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م؛ إذ لولا سبتمبر في الشمال لما كانت أكتوبر في الجنوب، كما تؤكد حقائق الأحداث آنذاك. نقول هذا ونحن نعرف أن بعضًا من رجالات الجنوب كانوا جزءًا من ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، كما كان بعضٌ من رجالاتِ الشمال جزءًا من ثورة أكتوبر. وهو ما يؤكد على واحدية الثورتين اللتين تُعتبران من صنيعةِ شعب واحد، بهوية واحدة، وإن كان بسلطتين اثنتين، ولا يزال بعضٌ من رجالات الثورتين أحياء إلى اليوم، ويحكون تفاصيل هذا المشترك النضالي الأصيل.

ووفقا للبردوني: عندما أحست الجماهير في الشطرين فرار الإمام المخلوع من صنعاء عام 62م تألبت الجماهير على ترسيخ العهد الجمهوري في الشمال، فأقبلت الجموع من عدن وتعز ومن يافع والبيضاء ومن لحج وخولان ومن دثينة والحديدة دون أن تحس من أين جاءت، وإنما تعرف إلى أين جاءت، فقد انخرطت كل الجماهير في سلك الحرس الوطني، فكونت جيش الثورة عام 63م، وازداد هذا الجيش أفواجًا إلى أفواج، فقاتل العدوان في شمال الشمال، وأشعل فتيل الثورة في جنوب الوطن.

ذكر اللواء علي عبدالله السلال، عضو مجلس الشورى، وهو نجل أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية ما نصه: "إنه بعد أن قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م هبّ إخواننا الجنوبيون لمناصرتنا من أول يوم، وقد قاتلوا تحت قيادتنا بخولان، حين كلفني الوالد بقيادة إحدى الجبهات هناك، لمواجهة الأمير الإمامي عبدالله بن الحسن، وحين اشتعلت ثورة 14 أكتوبر عام 63م كان بعضٌ من الأخوة الجنوبيين في جبال خولان معنا جنبا لجنب، فأرادوا الاستئذان والالتحاق بجبهاتهم في الجنوب مع أسلحتهم التي صُرفت لهم، ولم أوافق لهم، وحصلت مشادة قوية، فرفعنا الأمر على إثرها إلى قيادتنا السياسية ممثلة برئيس الجمهورية، فسمح لهم باصطحاب أسلحتهم وما يكفيهم من المؤنة لمواجهة المحتل في الجنوب. مضيفا: لا فرق بين شمال الوطن ولا جنوبه."

حين اندلعت شرارة ثورة الرابع عشر من أكتوبر 63م كانت عدن حينها من المدن المفتوحة لليمنيين وغير اليمنيين، ومنذ اللحظات الأولى هبّ اليمنيون بمختلف توجهاتهم ومناطقهم للدفاع عنها، وكان أبناء تعز بدرجة رئيسية هم أكثر أبناء الشمال تواجدًا في عدن؛ لكنهم لم يكونوا يرون أنفسهم إلا في مدينتهم ووطنهم الواحد.

كانت الثورتان المتقاربتان زمانا ومكانا، والمؤتلفتان أهدافا وغايات، والموحدتان بمعاناةٍ واحدةٍ نافذة الأمل الجديد، وكوة الضوء المشرق لعهد جديدٍ يخطه اليمنيون، بصرف النظر عما حصل من نظام عدن عقب أحداث 69م. أو ما حصل بين النظامين في 72م، ثم 79م. وكما كانت عدن ملجأ لمناضلي الشمال أيام الإمامة، فقد كانت صنعاء وتعز بدرجة أولى الملجأ الأول للفارين من بطش الاحتلال البريطاني في عدن؛ بل وحتى ملاذا للفارين جراء الخلافات المتفاقمة بين الرفاق المتشاكسين عقب ثورة أكتوبر وعقب الاستقلال.

وظلت الوحدة اليمنية حلم الجميع بلا استثناء في الشمال والجنوب، هزجت بها الأناشيد الوطنية والأغنيات الجماهيرية شمالا وجنوبا على حد سواء، وكان لها أكثر من محطة توقفت عندها حتى تكللت بوحدة عام 90م.

كانت ثورة سبتمبر في الشمال الثورة الأم لثورة أكتوبر في الجنوب، أتت الأخيرة منها متأثرة بها، وبدعم الزعيم العربي جمال عبدالناصر الذي كان السند الأول لثورة 26 سبتمبر، وخطابه التاريخي في تعز عام 64م شاهد على موقفه التاريخي، وموقف مصر تجاه الشطر الجنوبي من الوطن. وعلى أية حال، ومهما اعترى العلاقة من توتر فلا يعدو أن يكون شغب الأخوين داخل البيت الواحد، خاصة مع التوجه الجديد لبناء اليمن الاتحادي الذي يعمل قادته على تجاوز سلبيات الماضي ومآسيه بروح جديدة، بعد أن يتجاوز الشعب عنق الزجاجة التي يعيشها اليوم.
د. ثابت الأحمدي