آخر تحديث :الأحد-29 سبتمبر 2024-12:01ص

26 سبتمبر.. الحدث وتداعياته (20 ــ 30)

السبت - 28 سبتمبر 2024 - الساعة 11:54 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


لافتات سبتميرة

مع شروق شمس يوم السادس والعشرين من سبتمبر العظيم، 1962م كانت دباباتُ ومدافع الشّعب تدكُّ وكرَ الكهنوت الإمامي الأرعن المسمى "دار البشائر" بالعاصمة صنعاء، حيث يقيم الإمام الجديد: محمد البدر، الحالم بمواصلةِ كهانة آبائه وأجداده.

صبيحة ذلك اليوم المشرق كان الشعبُ اليمنيُّ قد قرّر قرارَه النهائي أن يستعيدَ هُويتَه المسلوبة، وذاته الجريحة، كشعبٍ ينتمي إلى واحدةٍ من أعرقِ حضارات التاريخ الإنساني قاطبة.
إن تلك اليدَ التي قدحت زناد البندقية لأول مرة هي يدُ الشعب، وإن تلك الطلائعَ العسكرية التي اتخذت القرار التاريخي في التخلص من الكهانة هي طلائع الشعب؛ بل هي الشّعبُ ذاتُه، مختزلةً روحه وكينونته، فالتفّ حولها نصيرًا ومساندًا. ولا تزالُ إلى اليوم محل إجلال وتقدير واحترام، رموزًا تاريخية في وجدانِ الشعبِ، وأيقونات نضالٍ في ذاكرةِ الأمة، تحتلُّ زخم المكان والزمان.

في صبيحة ذلك اليوم الأغر ــ وهو عيدُ كل الأعياد اليمنية ــ غادرَ "الكويهنُ" وكرَه الإمامي الخبيث، تطارده غضبةُ الشعب اليمني الذي صبرَ طويلا، حتى قال كلمته النهائيّة، معلنًا جمهوريته، ليعيشَ كما تعيشُ كلُّ شُعوبِ الأرض، عزيزًا كريمًا على أرضه، وقد تشردَ في مجاهل البحر وفجاج البَر، خائفًا يترقب جنود الإمام وبطش أتباعه الذين استخدموا سياسة التنكيل والبطش تجاه الشعب، بصورة لا تنم إلا عن انتقامٍ حاقدٍ، في أسوأ صورة من صور اللؤم، بعد أن آواهم وأكرمهم، وأنقذهم من عقاب الدول التي تمردوا عليها في عواصم الدول الإسلامية منذ وقتٍ طويل، فانقلبوا عليه، وتعمدوا إهانته.

كان الثوار قد كلفوا أحد زملائهم، وهو حسين السكري بقتل الإمام بالرصاص أولا داخل القصر، بعده تنطلق الدبابات لدك القصر؛ لكن العملية فشلت؛ لأن أحد الجنود من مرافقي الإمام ثنى يد السكري، فلم تصب الرصاصة ظهرَ الإمام كما أراد السكري، ويقال أنه كان يحمل بندقية، فضغط على الزناد؛ لكن الرصاصة لم تنطلق من بطن البندقية. وفشلت العملية رقم 1 من عمليات الثورة، وحين علم الثوار بذلك خافوا اكتشاف بقية المخطط، وبالتالي فلم يبق أمامهم إلا أن يغامروا باستكماله، فهاجموا القصرَ بالدبابات والمدافع.
في صبيحةِ ذلك اليوم المشهود، وفي مقر قيادةِ الثورة في الكلية الحربية، كان القادة الأبطال: جزيلان والسلال وعلي عبدالمغني ومئاتٌ من رفاقهم يرسمون خريطة اليمن الجديد، وينقشون عهد اليمن القادم بشجاعة واستبسال، حاملين رؤوسهم على أكفهم، فداءً للشعب، ولسان حالهم: إما النصر وإما الموت. وقد كان النصرُ حليفَهم، بعد أن آزرهم الشعب والتفَّ حولهم، يطاردُ "الكويهن" الصغير، وزمرته المرافقين له من الفلول. ولسان حالهم:
لم ترنح مصباحَنا أيُّ ريح
دمُنا الزيتُ في دم المصباح

وضعوا الخطة الثورية، لإعلان الجمهورية على النحو التالي:
1ــ محاصرة وقصف دار البشائر، واقتحامه بعد ذلك، وهو مقر البدر.
2ــ السيطرة على الإذاعة، وإعلان الجمهورية ومبادئ الثورة.
3ــ القبض على قادة الجيش.
4ــ محاصرة قصر السلاح، ومحاولة الاستيلاء عليه.
انطلق ماردُ الثورة، وللتو غادرَ البدرُ من بابٍ خلفي، مذعورًا متنكرًا، ولم يثبت بجانبه من حراسته غير خمسة أشخاص فقط، تسللوا إلى منزل إحدى الأرامل التي تعرفت عليهم، فآوتهم ليلة، بعدها غادروا باتجاه همدان، فحَجّة، متوهمًا أنّ مدينة حجّة ستعصمُه من طوفان الشعب، غير أن الأبطال كانوا قد سبقوه إليها، وبعضهم من أهلها، ومن نزلاء السجن الذي يشبه سجن الباستيل، وفي النهاية لا عاصم من طوفان الشعب؛ إذ قبضوا على نائب الإمام فيها، ومنعوا البدر من دخول المدينة، وأعلنوا "تنصيرة" الثورة، الأمر الذي ألجأه إلى وكرٍ جبليٍ في أحدِ الجبالِ النائية البعيدة عن مركز المدينة؛ متابعًا أخبار الجمهورية التي أشعلت السهل والجبل، وفيه يندبُ حظه الخائب مع رفاقه، وإن كان قد أعلن بعد ذلك عن حكومة إمامية في 17 أكتوبر، برئاسة عمه الحسن.

غادر الإمامُ الجديد دارَ البشائر، غرب ميدان التحرير، ولم يمض على حكمه أكثر من أسبوع، متسللا، يرافقه خمسة أشخاص فقط، وقد ترك نساء القصر بين الصراخ والعويل من هول قذائف الدبابات والمدافع والرشاشات، وكان هذا محل ازدراء له وسخرية، فأنكرَ ذلك في تصريح صحفي بعد شهور، إلا أنّ الرئيس السّلال قد كذَب كلام البدر، وسمح للصحفيين الأجانب من التأكد برؤية نساء القصر مُتحفَّظٌ عليهن لدى قيادة الثورة، لما يقارب سنة كاملة، وفقًا لرواية ديفيد سمايلي، وقد تم مبادلتهن بأسرى من الجمهوريين لاحقًا.

لقد فرّ الإمام بلباسه الذي غيره بلباس العكفة في منزل الأرملة التي آوتهم وأنقذتهم من ملاحقة جنود الثورة، قبل أن يغادروا العاصمة صنعاء. ووصل إلى همدان، وفيها استقبله أحدُ مشايخها وزوده بالمال والرجال الذين رافقوه إلى حجة.
وتشكل مجلس قيادة الثورة الذي تعين في أول يوم لها من: العميد عبدالله السلال، العميد حمود الجائفي، المقدم عبدالله جزيلا، النقيب عبداللطيف ضيف الله، النقيب محمد قائد سيف، النقيب محمد المأخذي، الملازم علي عبدالمغني، الملازم محمد مفرح. وفي نفس اليوم أيضا تم الإعلان عن تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس السلال نفسه.

في الأيام الأولى للثورة توافد آلافُ المواطنين من الأرياف نحو المدن، ملتحقين بمعسكراتِ التدريب العاجلة، وبعضهم توجه إلى الجبهات فورًا، لملاحقة فلولِ الإمامة، بأسلحتهم الشخصيّة، وبعضهم بلا سلاح، لخدمة أفراد الجيش ورجال الثورة، متطلعين لعهدٍ جمهوريٍ جديد، لا إمامة فيه أو كهانة، خاصة وقد أعلنت قيادة الثورة إطلاق سراح الرهائن الذين كانوا بحوزة الإمام من أبناء العائلات الكبيرة، والتي كانت إحدى أدوات الضغط التي مارستها الإمامة ضد الشعب. وفي 31 أكتوبر 62م، صدر الإعلان الدستوري الأول للجمهورية.

شائعة مقتل البدر.. الخطأ الذي أفاد
في الساعات الأولى للثورة، وعقب تلاوة بيان الثورة أعلن الثوار أنهم سيطروا على دار البشائر بعد استهدافه، وأنّ الإمام البدر "المخلوع" قد قُتل تحت الأنقاض، وانتهى أمره، ولعلهم في هذا وهِموا بعد أن تهدمت أجزاء من الدار، وسيطروا على البوابة الرئيسية التي لم يخرج منها، ناسين حراسة أحد الأبواب الخلفية الصغيرة، فأعلنوا أنهم قضوا على الإمام، وأن أمره انتهى، وعنهم تناقلت وكالات الأنباء الدولية هذا الخبر، وفرح الناس به في الداخل أيضا، الأمر الذي جعل الناس يتوافدون إلى المدن لتهنئة قيادة الثورة وإعلان الولاء لها، إضافة إلى محاصرة نواب الإمام وعماله في مختلف المدن والقَضَوات الذين انهارت معنوياتهم عقب سماعهم بخبر وفاة البدر تحت الأنقاض، فلم يقاوموا في الغالب، واستسلموا، أو تم اعتقالهم وإرسالهم إلى قيادة الثورة بصنعاء. فكانت روح الثورة ومعنوياتها في أوج قوتها؛ لكن بعد أيامٍ قليلة تبين عدم صحة الخبر الذي أفاد، وتبين أنّ البدر تمكن من التسلل بصحبة اثنين من الحرس المخلصين، وخادم، وعبدين زنجيين، وفقًا لرواية ديفيد سمايلي الذي ذكر أن الإمام البدر قد أوفد رسولا من جهته إلى السلال برسالة مفادها: أنه مستعدٌ لتنفيذ كل ما يطلبه الثوار، عدا التنازل عن العرش؛ لكن قيادة الثورة طلبوا منه أن يسلمَ نفسه، ففضل الفرار على ذلك.

وقد ذكر الضابط البريطاني المرتزق أنّ من بين هؤلاء المرافقين عمَّه أبو إحدى زوجتيه: يحيى الحرسي الذي التقاه في الكهف. وحين شاع خبر مقتل البدر تحت الأنقاض ادعى عمه الحسن الإمامة وكان حينها في أمريكا، لكن بعد تبين صحة الخبر أعلن تأييده لابن أخيه البدر. وسواء بقي على ادعائه الإمامة أم أيّدها، فالشعب قد قال كلمته وحسم قراره.
وقد ظل البدر مختفيًا عن أعين الناس، ولم يظهر إلا في يوم 10 نوفمبر، في مؤتمر صحفي في أحد جبال حجة، متمنطقًا حزاما جلديًا محشوًا بالرصاص. وتناقلت وكالات الأنباء العالمية خبر ظهوره ذلك باهتمام.
د. ثابت الأحمدي