آخر تحديث :الثلاثاء-01 أكتوبر 2024-01:57ص

غياب المؤسسات العلمية المستقلة سر تخلف العرب المستديم

الثلاثاء - 01 أكتوبر 2024 - الساعة 01:57 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


على مدى السنوات الماضية تم تطوير عدد من المنظورات النقدية الجديدة في سوسيولوجيا العلم المعاصر، بوصفها أدواتا منهجية فاعلة في دراسة وبحث ظاهرة المعرفة العلمية، ولما كان موضوع بحثنا هو تعيين (راهن العلوم الإنسانية والاجتماعية وتحدياتها المعاصرة) فمن الاولى بنا التعرف على أهم مداخل السوسيولوجيا النقدية في دراسته وفهمه، بالاستفادة من بعض النماذج المنجزة في سوسيولوجيا العلم المقارن، وذلك على النحو الآتي:
أولا. مدخل البارادايم أو نموذج الرؤية الكلية : وهذا هو المنظور الذي صاغه فيلسوف العلم المعاصر، توماس كون والذي أثبت من خلاله، أن مسألة نمو العلم وتقدمه وازدهاره ليست مسألة علمية، بل تتعين في تلك المجالات الواقعة خارج العلم؛ حيث يتأمل البشر طبيعة الكون والتاريخ والمجتمع والإنسان بأعمق معانيها وأشدها غموضا، وحيث يخلق الخيال الإنساني المؤسسات التي تسمح للأفراد بالاستمتاع على الدوام بالفضاءات المحايدة أو الأطر الميتافيزيقية والثقافية الأوسع التي تجري ضمنها أنماط العلاقات والممارسات والخطابات التي تتشكل في سياقها تصورات الإنسان عن ذاته وعن عالمه وعن الآخرين تشكيلاً عميقاً، وهذا هو معنى الثقافة بعدها منظومة كلية مركبة من كل ما نفكر فيه أو نقوم بعمله أو نتملكه أو نفضله كأعضاء في المجتمع، فالثقافة السائدة في حضارة ما بوصفها نموذجاً إرشادياً (باراديم) إما أنها تدعم قوى الإنسان العقلية والإبداعية أو تحد منها وتضيق فرص نموها وازدهارها ( توماس كون، 2007م ط1 , ص 75) و" كلمة ثقافة تطلق مجازاً على الجهد المبذول في سبيل تحسين العلوم والفنون وتنمية القدرات الفكرية ومواهب العقل والذكاء" (شاتلية,فرانسو،ا 1981) وهي بهذا المعنى تتميز بجملة من السمات منها: 1- التهيؤ: كما هو الحال في التربية البدنية التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم، بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للمارسة. والثقافة بوصفها استراتيجية للتنمية العقلانية المستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي تمنحهم (الذكاء العاطفي) إذ (هي ما يبقى بعد نسيان كل شيء) 2- الاستيعاب: بمعنى استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في حياته (لغته وذهنه وقيمه وخبراته) 3- الشمول بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية. 4- الحكم: بمعنى القدرة على التجريد واتساع الأفق الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم). وهذا هو (كل) ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار(اولفيه ربول، المرجع السابق ،ص6) على هذا النحو يمكن فهم أهمية ودور الثقافة في تخصيب وإنجاب وتنمية التفكير العلمي وتمكينه في المجتمع ، وربما كان ماكس فيبر يقصد هذا المعنى حينما اشار إلى " إن الاعتقاد بقيمة الحقيقة العلمية لا يستمد من طبيعة العلم ذاته ، بل هو نتاج سياقات ثقافية واجتماعية تاريخية متعينة"( نظرية الثقافة، 2014، ط1،ص11).
ثانيا. مدخل الدور الاجتماعي للعالِم: يرى بعض العلماء أن النقطة المركزية في دراسة نمو العلم تتصل بوجود دور العالِم المعترف به والمقدر تقديراً إيجابياً في ثقافة المجتمع المعني، وهذا معناه أن المشتغلين في العلم ليسوا أشخاصاً معزولين عن مجتمعهم، بل هم فاعلون ثقافيون يعتمد وجودهم واستمرار نشاطهم على شبكة واسعة من الدعم والإسناد المؤسسي على شكل فرص للتعليم والبحث العلمي وقنوات لمناقشة نتائج أبحاثهم ونشرها، والتقبل والاعتراف الاجتماعي الضمني بهم بصفتهم علماء يحظون بالقيمة والتقدير الايجابي في مجتمعهم. وأخيرا الجزاءات التي ينالونها مقابل القيام بأدوارهم المتعددة، دور المعلم أو الأستاذ ودور الباحث العلمي ودور العضو في القسم العلمي ودور المدير أو العميد الإداري, ودور المناقش أو المحكم العلمي في ريازة الأبحاث والأطاريح العلمية أو حارس البوابة. يعد مدخل الدور الاجتماعي للعالِم من أهم الانساق المفتاحية في سوسيولوجيا العلم المعاصر، انطلاقاً من الفكرة الأساسية التي تقول : بأن لا سلطة اجتماعية إلا بوظيفة ولا دور اجتماعي إلا بسلطة. إذ "أن استمرار نشاطا اجتماعيا ما على مدى فترات زمنية طويلة، بغض النظر عن تغيير ممارسي هذا النشاط، يعتمد على ظهور أدوار اجتماعية لتمكين استمرار وترسيخ ذلك النشاط وقيمه، وعلى فهم فئة اجتماعية لهذه ألأدوار وتقييم المجتمع الإيجابي لها؛ أي منحها مشروعية وقيمة مقدرة خير تقدير" (توبي أ. هف ، المرجع السابق، ص31). ومعنى الدور هو "ما يتوقع من شخص و عدة أشخاص بوصفهم ( جماعة منظمة) القيام به مؤسسيا بصفتهم أعضاء فاعلين داخل الأنساق المختلفة للمؤسسة المعنية ، وبهذا المعنى يختلف (الدور) عن (الوضع) كما ذهب جوزيف بن دافيد في كتابه (دور العالم في المجتمع)؛ إذ إن الوضع يشير إلى الجزاءات التي ينالها هؤلاء الفاعلون لقاء القيام بأدوارهم، وهكذا فإن مصطلح (دور) يحدد الوظيفة ومصطلح (وضع) يحدد الموقع التراتبي لوحدة ما في نسق اجتماعي"( ميشال دوبوا، المرجع السابق، ص93) ويرى زنانييكي أن الشخص الذي يقدر له إنتاج المعرفة يمارس أدوارًا متعددة ومتكاملة منها: "دور الباحث، ودور المدرس، ودور الإداري، ودور المشرف العلمي، أو حارس البوابة( قاسم المحبشي، في دور حارس البوابة، ومعايير التحكيم العلمي في الوطن العربي،2017، شبكة ضياء) ولكل دور من هذه الأدوار قيمه ومعاييره المحددة بشفافية" (ميشال دوبوا، المرجع السابق، ص127) وهكذا يصف الدور الاجتماعي للعالِم: مجموع الوظائف النسقية المعترف بها اجتماعياً بوصفها وظائفا وأدوارًا مشروعة ومقدرة اجتماعيا خوّل لفئة من أفراد المجتمع النهوض بها، والتي بفضلها منحوا اسمهم وصفتهم المهنية (علماء) لقاء ممارستهم نشاطاتهم وفق معاييرها وقيمها المهنية الخاصة بصفتهم جماعة أو مؤسسة علمية، والتي لا يكون المرء عالماً إلا بها. وربما كان غياب هذا الدور في الثقافة العربية الإسلامية سبباً من أسباب تخلف الإنسان والمجتمع ومن ثم تخلف العلم عامة والعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة، ومن منظور العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة، فمن المحتمل أن غياب دور العلماء وتهميش قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية في المجتمعات العربية الإسلامية التقليدية بالقياس إلى الحضور الطاغي لفئات اجتماعية أخرى أمثال: المشتغلين في مجالات الايديولوجيا السياسية والسلطة والفقهاء ووعاظ السلاطين والعسكريين وشيوخ القبائل وزعماء الطوائف وغيرهم من النخب التقليدية الذين مازالوا يشغلون ادوارا اجتماعية بالغة التأثير والنفوذ ويتمتعون بقيمة ومكانة اجتماعية عالية ومقدرة خير تقدير، في حين ان المشتغلين بالمعرفة العلمية والمؤسسات الأكاديمية مازالوا يعانون من عدم الاعتراف بدورهم الاجتماعي والمهني. وهذا يعبر عن تدني الوعي العام بقيمة الإنسان وحقوقه الأساسية بوصفه معياراً وهدفاً وغاية للتنمية المستدامة، كما أشار امارتيا صن "أن حرية الإنسان هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ممكنة، ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع"( امارتيا، صن، التنمية الحرية ، مجلة عالم المعرفة الكويتية، العدد312 ص45) وحينما يصبح العلم مؤسسة اجتماعية مستقلة كما كانت الجمعية الملكية للعلوم التي تأسست في لندن عام 1645م. وهي أول مؤسسة علمية رسمية وأكاديمية العلوم في باريس، عام 1662م، فضلا عن المؤسسات الجامعية فهذا معناه مرحلة حاسمة في نشوء وازدهار الدور الاجتماعي للنشاط العلمي.
ثالثا. مدخل مؤسسة العلم، مع مأسسة العلم ظهر مفهوم الجماعة العلمية بصفتها وحدة معيارية؛ إذ لا يكفي أن ندَعي أننا علماء حتى يتم الاعتراف بنا بصفتنا علماء. أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي ( الجماعة العلمية) بمعنى الانتماء إلى (نسق اجتماعي): مؤسسة محددة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية. ويعني ثانيا أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني أخيرا أنك موضوع لمراقبة اجتماعية، داخل المؤسسة، وأن عليك إتقان الدور الاجتماعي المقدر إيجابيا في الجماعة العل. وقد ترسخت المهنة الأكاديمية منذ أن تحولت إلى مؤسسة اعتبارية مستقلة فيما عرف بـ(الجامعة)؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities من الناحية القانونية جماعة لها شخصية قانونية تختلف عن أعضائها فرادى،إذ كانت الجامعات منذ نشأتها في العصر الوسيط تتمتع بقدر كبير من الحرية والاستقلالية القانونية والمالية والإدارية، وكانت الحرية الأكاديمية هي السمة المميزة للجامعات، وهذا ما جعلها تتمتع (بحرمة) شبه مقدسة من ألانتهاكات والح ويؤكد جينز بوست "أن العلماء في جامعة باريس كانوا مع حلول سنة 1215م على أبعد تقدير، قد تبلور وجودهم على شكل هيئة تدعى (هيئة الأساتذة والعلماء بوسعها أن تضع القوانين وأن تنفذ الالتزام بها)"( توبي أ. هف ، 2000ص 157) أن تكون عالمًا يعني أن تنتمي إلى إطار اجتماعي متشكل من مجموع الفاعلين المشتغلين في النشاط العلمي؛ أي ( الجماعة العلمية) بمعنى الانتماء إلى مؤسسة محددة، يمكن تمييزها عن بقية المؤسسات الاجتماعية هذا اولاً، ويعني ثانياً؛ أن يتم اختيارك وإدماجك في نسق يقيم فاعلوه علاقات ترابط وفق طرائق تتوافق مع مبادئ مهنية معيارية مخصوصة، وهو يعني ثالثاً؛ أنك موضوع لمراقبة مهنية اجتماعية داخل المؤسسة وأن عليك إتقان دورك الاجتماعي المهني المقدر إيجابيا في الجماعة العلمية(ميشال دوبوا، المرجع السابق ص113) ويعني اجمالاً؛ اعتراف المجتمع بالوظيفة الخاصة للنشاط العلمي وبقيمته الاجتماعية ، وموافقة المجتمع تشكيل مجال مهني لضبط أدوار الفاعلين فيه بما يحقق غايات ذلك النشاط ويصون استقلاليته. والأكاديمية تعني حرية التفكير والتعبير والاختلاف والتعليم وأن هيئة التدريس في الجامعة تتمتع بحق تدريس ما تعتبره صحيحاً وأنه ليس هناك قيود على ما يقوله الأستاذ أو يكتبه أو ينشره. ويرتكز هذا الحق على قدسية الحقيقة العلمية ،من ناحية، ومسؤولية المدرس في معرفة هذه الحقيقة وحقه في نقدها أو مناقشتها، دون إي قيود، من ناحية أخرى. ونعتبر حرية الجامعة واستغلالها من التقاليد التي ورثتها الجامعات الحديث والمعاصرة عن جامعات العصر الوسيط إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لنمو العلم والفكر العلمي، " وحاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية"( ماكس بيروتيز، ضرورة العلم 1999، ص7).
رابعا. معايير المجال العلمي أو (خليقة العلم) حسب بوتون، ويعني ذلك النسق المركب من القيم والمعايير التي يلتزم بها الفاعلون العلميون بعدها أمور محظورة أو مفضلة أو مسموح بها، فهي تكتسب مشروعيتها من القيم المؤسسية وتتعزز بتشجيع السلوك النموذجي والمثل العليا للتميز والجدارة والجودة . ويعود الفضل إلى عالم الاجتماع الأمريكي روبرت ميرتون بصياغة أربعة مقومات أساسية للمعرفة العلمية هي: 1- العالمية، بمعنى أن الاكتشافات والنظريات العلمية يجب أن يحكم عليها بمعايير إنسانية عالمية محايدة, بمعزل عن المرجعيات الهوياتية الشخصية والجمعية للعلماء الذين يجب أن يسمح لهم بممارسة الخطاب العلمي بحرية وشفافية تامتين دون أية إكراهات أو ضغوط واقعية أو رمزية، سياسية أو اجتماعية أو دينية ..الخ. 2- الجماعية، يجب أن تكون مكتشفات البحث العلمي ملكاً للإنسانية كلها، وأن يتم تأمين نشر المعلومات والنتائج وتبادلها بسلاسة وإنسيابية وشفافية كاملة .3- التجرد، بمعنى متابعة البحث عن الحقيقة العلمية لذاتها ومن أجل ذاتها دون التأثر بالأهواء الشخصية أو المواقف والاتجاهات و الغايات الإيديولوجية أو المصالح السياسية أو غيرها.4- الشك المنظم، بمعنى عدم التسليم بأية حقائق أو معتقدات مسبقة، وإخضاع كل شيء للنقد والتمحيص (ميشال دوبوا، المرجع السابق، ص 134) بما فيها تلك الدعاوى الخاصة التي تصدر عن مؤسسات تحظى بالاحترام والإجلال ، فالعلم عدو كل السلطات بما في ذلك سلطة المؤسسة العلمية ذاتها، "إذ لا حاجة لأن تكون مهذباً في العلم ، بل أن كل ما عليك فيه أن تكون على حق" ( ماكس بيروتي، المرجع السابق، ص 5).
بالنظر إلى تلك المداخل النقدية ، يمكننا تعيين واقع العلوم الإنسانية والاجتماعية في راهنتيها ومالاتها المستقبلية ولعله من المهم الإشارة إلى كتاب توني أ. هب, بعنوان: فجر العلم الجديد: الإسلام -الغرب والصين, بوصفه مثالاً معبراً عن الاتجاه النقدي الجديد في سوسيولوجيا العلم المعاصرة، فضلاً عن كونه يتصل بالمسألة التي تهمنا هنا أقصد مسألة العلم وسبل نموه وتقدمه، والسؤال الذي ناقشه، هب هو: لماذا ازدهر العلم الحديث في الغرب وأخفق في الإسلام والصين؟ مستلهما مداخل المنظور السوسيولوجيا الجديد في مقاربته إذ كتب تحت عنوان (مشكلة العلم العربي) ما يلي:" لمشكلة العلم العربي بعدان على الأقل ، يتصل أحدهما بعجزه عن إنجاب العلم الحديث، ويتصل الثاني باضمحلال الفكر والممارسة العلميين في الحضارة العربية الإسلامية بعد القرن الثالث عشر. وعلى الرغم من أن تراجع الحياة الفكرية بعد العصر الذهبي مسألة ذات أهمية كبيرة لسكان الشرق الأوسط في أيامنا هذه فإنها تقع خارج حدود هذه الدراسة التي تهتم بالعلم العربي من القرن الثامن حتى آخر القرن الرابع عشر الميلادي. ربما كان أرقى علم في العالم متفوقا بذلك على العلم في الغرب والصين. كان العرب في كل حقول العلم .. في طليعة التقدم العلمي ...إذ أن ما حققه العرب يثير الإعجاب إلى حد يدعو للتساؤل عن السبب الذي منعهم من اتخاذ الخطوة الأخيرة باتجاه الثورة العلمية الحديثة ؟ ويضيف " كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي) حسب تعبير(Koyre كويري). وبما أنهم عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بداية العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية لا تزال تتمسك بالتقاويم القمرية"( توبي أ. هب ، المرجع السابق، ص 65). وفي سياق تناوله للبُنى الثقافية والمؤسسية التي حالت دون مقدرة العلم العربي على اتخاذ تلك الوثبة الحاسمة من الباراديم التقليدي المغلق إلى الباراديم الحديث الجديد توصل هب إلى نتائج بالغة الخطورة والأهمية اليكم بعضها:
1- لم يكن لعلماء الطبيعة العرب دور معترف به اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يوازي دور الفقهاء من حيث السلطة والنفوذ، بل كانت بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام ذات طبيعة جعلت طلب العلوم الوضعية والعقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك ويجلب لأصحابها كثيراً من المتاعب والتهم الخطيرة على حياتهم( توبي أ .هب ،المرجع السابق ، ص73).
2- كانت سلطة الفقهاء وسطوتهم شاملة بحيث لم يتركوا شيئاً للعلماء والفلاسفة ليقولوه، بل إن الفلاسفة وعلماء الإنسانيات لم يكن لهم وظيفة ودور معترف بهما في المجتمع، ومن ثم لم تكن لهم حماية، إذا ما أردوا التعبير عن آرائهم بشأن القضايا الفكرية بحرية، كمسألة خلق العالم، والعلية الطبيعية، والحرية الإنسانية، وما إذا كان بإمكان الإنسان الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق الرؤية العقلية بعبارة توماس كون( توبي أ.هب، المرجع السابق، ص86).
-3 غياب البنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينية وغير الدينية، كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعا. ولا شك إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة المجتمع العربي الإسلامي قد عاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء الجامعة بوصفها مؤسسة حرة ومستقلة، يقول (هف): "إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً" (توبي .هب ، المرجع السابق، ص 129 ).
4- غياب فكرة العقل والعقلانية؛ إذ إن مصادر الشرع هي القرآن الكريم، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذا ما أفضى إلى التخلص من العقل بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، وقد أدى التضييق على العقل إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعية؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة ،كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. ويرى فضل الرحمن أن "اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان ،لكن العلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: "أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك"( ماكس بيرونتز، المرجع السابق، ص 57) ويخلص (هف) إلى القول: "لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند ألإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للإخلاف. أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة ولا بالتقليدية (قاسم لمحبشي, 2006م ط1, ص 76). وهكذا ينبغي أن نفهم أن أهمية العلم لا تمكن في جانبه المعرفي فحسب، بل وفيما يفعله من تغيرات جوهرية في حياة الناس الاجتماعية الثقافية ، وليس بمقدور أحد إنكار " أن العلم غير أنماط علاقاتنا ومعارفنا ومواقفنا من سلوك الإنسان وقيمه وأحل بالتدرج الرؤية والعقل محل القسوة والتحامل والخرافة، وقد نمى هذا التغيير نمواً بطيئاً جعله بحاجة إلى أن يعلّمه كل جيل للجيل الذي يليه بوصفه قيماً وتقاليداً ثقافية يجب أن تتوارث وتتهذب إنسانياً عبر تعاقب الأجيال ومن دون ذلك تكون أجسام الناس وحدها هي التي تنطلق بالطائرات والصواريخ أما عقولهم فترتد إلى العصور الوسطى(ماكس بيرونتز ، المرجع السابق، ص ١٥)

🥀مقتطف من كتابي دراسات
نقدية في فلسفة العلوم والتربية.