آخر تحديث :الخميس-10 أكتوبر 2024-03:08ص

حينما كان للعلم والتعليم معنى وقيمة وتكريم

الخميس - 10 أكتوبر 2024 - الساعة 01:46 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


رُب صورة ذكرى لها الف معنى ومعنى؛ كانت وكنا حنين🕊️


العلم نور والجهل ظلام! تلك الحكمة الاثيرة التي كنا نتمثلها في ذواتنا بوصفها حالة وجودية نعيشها لحظة بلحظة منذ اليوم الأول لدخولنا المدرسة النظامية الحديثة التي تأسست مع الجمهورية الجديدة. تلك الحكمة الخالدة ومثيلاتها من قبيل: العلم يبني بيوتا لا اساس لها والجهل يهدم بيوت العز والشرف، أو من جد وجد ومن زرع حصد أو تعلم العلم كن اميرا ولا تظل جاهلا ترعى الحمير، أو من طلب العلى سهر الليالي أو التعليم في الصغر كالنقش في الحجر! أو يوم الامتحان يُكرم المرء أو يُهان..الخ من تلك الحكم والأمثال الشعبية التي كنا ندونها على اغلقت دفاترنا وكان معلمونا يكلفونا بكتابتها عشرات المرات كواجب مدرسي لتعلم الخط والقراءة. كان الأهتمام بالتعليم وتكريم المتفوقين استرتيجية عامة للدولة والمجتمع وكان العاشر من سبتمبر من كل عام هو عيد العلم في الجمهورية الوليدة( جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي بعد نيل الاستقلال الوطني من الاستعمار البريطاني الذي مكث في عدن 130 عاما. إذ ترافق ذلك الاهتمام بالتعليم مع الثورة الراديكالية( ثورة 14 أكتوبر المجيدة ) التي قلبت المجتمع رأسًا على عقب وأعادت تصميمه وتشكليه وطنيًّا عربيًّا وأمميًّا يساريًّا، جعل من التعليم رافعته للتغيير الاجتماعي الشامل، إذ انفتحت المؤسسة التعليمية الوطنية على كل فئات وشرائح المجتمع الجنوبي، ذكورًا وإناثًا بلا استثناء، كما كان الحال في عدن المستعمرة. وتم إقرار التعليم إلزاميًّا ومجانيًّا لكل التلاميذ والتلميذات في المدن والأرياف، فضلًا عن مشروع التحرر من الأمية وتعليم الكبار، إذ في بضع سنوات انتشرت الثورة التعليمية انتشار النار بالهشيم في مناطق جنوب اليمن، وتم بناء المدارس الحديثة على نطاق واسع جدًّا، وفي عام 1985، أعلنت المنظمة الأممية للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أول دولة في شبه الجزيرة العربية تتحرر من الأمية، إذ تقلصت الأمية في الجنوب إلى 2% فقط من عدد السكان. [ينظر: ويكيبيديا – جوجل]. وحينما نتذكر اليوم نتائج الثورة التعليمية في جنوب اليمن منذ نيل الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، حتى الآن، وما أنجبته من آلاف الخريجين والخريجات من القضاة والمحامين والأطباء والمهندسين والأكاديميين والمعلمين والإعلاميين والأدباء والكتاب والدبلوماسيين والنخبة المتعلمة في مختلف التخصصات والمجالات، ندرك الأهمية الحيوية للتعليم والتحرر من الأمية فالتعليم هو مفتاح التقدم والتطور والنماء والارتقاء، ولولا السياسية التي خذلت الجميع لكانت نتائج التعليم غير ما هي عليه اليوم، وربما كانت عبارة الإنجليزي جرهماس هي لعنة عدن المستعصية، إذ قال حينها إن "عدن تمكنت من إنجاب أفضل المهندسين ورجال الأعمال، ولكنها عجزت عن إنجاب سياسيين أكْفَاء" وانا اتذكر تلك الأيام من الشرفات العالية لمنتصف العمر وقد أوشكنا على الستين وفي الذكرى الحادي والستين لانطلاق ثورة 14 أكتوبر المجيدة فما الذي بقي منها اليوم ؟ واحد وستون عاما تنقضي من عمرها وعمرنا، ربما رحل معظم أفراد الجيل الذين عاشوا احداثها وشاركوا في إنجاهزها إذ من المؤكد أن أنهم قد حلموا بعكس ماجرى! فما أجمل الحلم وما أصعب الواقع. كان الواقع الاجتماعي والثقافي شديد التخلف والقسوة في معظم بلاد اليمن شماله وجنوبه. وحدها عدن التي كانت أشبه بوردة في الصحراء ولكنها مستعمرة بريطانية للأسف الشديد إذ شهد ميناءها ازدهارًا ملاحيا وتجاريا بحيث غدا ثاني ميناء في العالم وفي سياقه ازهرت مظاهر الحياة المدنية الحديثة على مختلف الأصعدة ففيها تأسست أول وكالات التجارة فضلا عن خدمات البنية التحية الكهرباء والماء والمدارس والمستشفيات والمطارات والتخطيط العمراني الحديث والموصلات والاتصالات والبريد والبرق والهاتف والإذاعة والتلفزيون والصحافة وغير ذلك وهذا ما جعلها سيدة الأحلام عند أناس ذلك الزمان:

عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم

شاسير به ليلة مشرقد النوم.

ربما كانت حداثة ومدنيتها وبالا عليها إذ لم يشهد التاريخ حالة مماثلة لمدينة دفعت ثمن تقدمها وازدهارها من دمها ولحمها.وحينما رحل الاستعمار البريطاني منها في 30 نوفمبر 1967م تسلم أمرها ثوار الجبهة القومية وجبهة التحرير بهدف تحرير السيادة الوطنية وبناء دولة المواطنين الأحرار فكان الواقع التاريخ أصعب بكثير مما توقعه الثوار وهذا من طبيعة الثورات التي استلهمت نموذج الثورة الفرنسية والثورة الاشتراكية وصف زعيم الثورة الفرنسية روسبير :�هذا التيار المهيب للحمم البركانية التي تقذفها الثورة، والذي لا يوفر شيئاً، وما من أحد يمكنه إيقافه� وهكذا حملت الثورة بوصفها أحداثا نادرة الوقوع ـ نسبياً، ولكنها هامة من الناحية التاريخية، يتم خلالها قلب النظام السياسي والاجتماعي كلية. وذلك باستخدام وسائل عنيفة عادة، ثم يتم إعادة بناءه أسس جديدة بقيادة جديدة - حملت ثقافتها الايديولوجية العابرة للتاريخ ومن ذلك الطبقات والصراع الطبقي والعنف الثوري المنظم و �الحتمية التاريخية ومزبلة التاريخ وغير ذلك من ثمار شجرة الارمول التي تم غرسها بلا جذور في اراضي لم يتم تمهيدها للزرع والثمر . كان الحماس الثوري بما يشيعه من سحر رومانسي هو الغالب في لحظة التي كان يجب أن يختفي؛ لحظة تحويل الثورة إلى مؤسسة جامعة للكيان الوطني مؤسسة المؤسسات الحامية والضامنة للناس والسيادة. ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة ,اذ ان حضور الأولى يعني غياب الثانية وحتى لا نظلمها فمن الحق الاعتراف بأنها غيرت المجتمع تغييرا إجتماعيا وثقافيا جذريا لاسيما في الأرياف التي كانت تعيش في كيانات سياسية تقليدية منعزلة. مع الثورة وبعدها تغير كل شيء في الجنوب بعكس ما جرى في الشمال التي احتفظت بمؤسساتها التقليدية ولم تتحول إلى دولة نظام وقانون للمواطنين بوصفهم جمهورا أو شعبا. وربما كان الانجليزي بول دريش في دراسته (اليمن: الإئمة والقبائل.. كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) قد استطاع القبض على جذر مشكلة السلطة وعصبيتها التقليدية في اليمن الشمالية إذ كتب قائلاً: " أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبتا بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور الاجتماعي وهذا لا ينطبق على اليمن (الشمالي).. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله" ومن المؤسف أن القوى التقليدية اليمنية والحديثة تشاركت في تدمير مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة الوحيدة في جنوب الجزيرة العربية في عدن بوعي أو بدونه ولكنها بذلك مهدت السبيل لعودة المؤسسة التقليدية الطائفية في صنعاء.وهكذا هو التاريخ دائما يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدا.

نحمد الله على كل حال سلمنا من الموت مرات ومرات في أتون الحروب الكثيرة التي شهدناها منذ جمعتنا الأقدر ذات يوم في ملتقى طلابي لنشطاء طلاب كليات جامعة عدن أو ما كان يسمى بالمجلس المركز للطلاب اليمنيين منتصف عام ١٩٨٥م كان في مستوى أولى حقوق وكنت في مستوى ثانية تربية بالجامعة ذاتها . في ريعان الشباب والنشاط المتقد بالحلم والعلم والأمل. حينما سمعته يتحدث لأول مرة في الملتقى الطلابي المكرس للتحضير لأسبوع الطالب الجامعي صادفت أفكاره هوى في نفسي بما فيها من نظرة رشيدة ونزعة نقدية وتجرد ومسؤولية، إذ أشعرني حينها بانه صاحب رأي حر وشخص مستقل يصعب تأطيره في قوالب وإطارات ضيقة بحسب ما كانت الموضة الايديولوجية السائدة تلك الأيام. في نهاية الملتقى ذهبت اليه وعرفته بنفسي وعرفني بنفسه ومنذ تلك اللحظة صرنا صديقان واستمرت صداقتنا منذ ذلك اليوم حتى الآن. كنا حنش وأنا شديدا الحرص على التفوق العلمي إذ كان في مقدمة طلاب وطالبات دفعته في كلية الحقوق رغم صغر سنه، كان اصغر زملاءه وزميلاته سناً ولكنه أرجحهم عقلا.. حدثني عن دراسته الابتدائية وعن حرص والده المرحوم العم علي عبدالرحيم رحمة الله عليه على تعليمه ورغبته بان يراها طبيبا مشهورا وحصوله على نتيجة متقدمة في امتحانات الثانوية العامة تأهله للحصول على منحة في أرقى الجامعات حدثني عن الخدمة العسكرية وكيف ساعدته الظروف للتجنيد في الخدمات الطبية وحصوله على دورات تأهيلية مكنته من ممارسة التطبيب بكفاءة واقتدار في مستشفى باصهيب العسكري وحيث ما حل وكان ولازال هو طبيب العائلة وحكيمها العضوي والروحي. حدثني عن احلامه وآماله الصغيرة والكبيرة الخاصة والعامة وحدثته بدوري عن تفاصيل حياتي بعد التخرج من الجامعة كانت قد وقعت الكارثة السياسية في عدن- أقصد كارثة ١٣ يناير - التي قصمت ظهر البعير! فقدنا فيها افضل الكوادر والكفاءات المتعلمة في الجمهورية الوليدة من قمة الهرم حتى القاعة. كان الجرح غائرا جدا بالنسبة لبلد حديثة النهوض. ابو علا وانا رغم نشاطنا الطلابي وصعودنا إلى قيادة المجلس الطلابي في كليتي الحقوق والتربية إلا اننا كنا شديدي الحرص على التفوق العلمي بجهود ذاتية خالصة. لم نستثمر ابدا موقعنا السياسي في قيادة المجلس الطلاب للحصول على درجات علمية في الامتحانات ولم نكن نتخندق في خنادق قطعان اطراف الصراع المتقاتلة مع أو ضد ! ، كانت نزعتنا الأكاديمية الإنسانية هي الطاغية في رؤيتنا للأمور وفِي علاقاتنا مع الاشخاص الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم من الجنسين. كان الطالب المتفوق حنش علي عبدالرحيم مثل اسمه اوسم طلاب دفعته ومنحه التفوق العلمي منذ السنة الأولى مكان خاصة في نظر زملائه وزميلاته الجميلات. كنت اغتنم فرصة غياب المدرسين عن المحاضرة واذهب بسرعة إلى كلية الحقوق التي كان موقعها في مدينة. الشعب؛ ديوان حكومة اتحاد الجنوب العربي الفيدرالي. كانت كلية الحقوق مشهورة بالطالبات الجميلات جدا وكنا نحسد زملائنا على تلك النعمة الالهة كنا نذهب للمشاهدة بالعيون فقط😍 طبعا هذا لا يقلل من جمال زميلاتنا في كلية التربية العليا؛ أكبر كليات جامعة عدن التي كانت تعج بالألف من الطلبة والطالبات من مختلف المدى والقرى اليمنية جنوبا وشمالا. حينما نشبت أحدث 13 يناير 1986 كنا طلابا ولم نشترك في ذلك النزاع الدامي مع أي طرف من الأطراف. كنت أنا في سنة ثالثة تربية وكان حنش في سنة ثانية حقوق. ربما كان موقفنا المحايد من طرفي القتال نابعا من ميولنا الأكاديمية العقلانية ونزعتنا الليبرالية الانسانية في الحرية التي صعب تطويعها بالتعبئة الايديولوجية البليدة، ولعل من الأمور الجدير بالأشارة هنا انني وجدت من هذه التجربة القاسية بان الاشخاص الذين كانوا يمتلكون ثقافة عالية والطلاب المتفوقين في دراستهم هم أقل الناس انخراطا في معمعان الصراعات الايديولوجية التي عصفت بالجنوب منذ الاستقلال! وقفنا على الحياد ولم نتعصب لأي طرف تعصبا غبيا حد العداوة والانتقام كما شاهدناه من بعض زملائنا الذين لم يكونوا مهتمين بالتعليم لذاته ولذاته وهذا ما جعلنا بعد التخرج من الجامعة في هامش المشهد واستحقاقاته، إذ رغم أننا الأوائل على دفعتنا بامتياز الا اننا حرمنا من الحصول على التعيين المستحق بالجامعة وفاز بذلك زملاءنا المزايدين الذين لم يكن لبعضهم لا زيت ولا زيتون! ومع ذلك ظلوا يبيعون الزيت والزيتون في بلد لا تزرعه.

البارحة بعث لي صديقي العزيز المستشار القانوني حنش علي عبدالرحيم اليزيدي صورة ذكرى عزيزة على قلبي وقلبه لا اعرف كيف وجدها بعد أن احترق بيته بكل ما فيه من اثاث وذكريات في حرب صيف 1994 الغاشمة. نعم صار رمادا لانها منزلا خشبيا. بعث لي صورتنا في يوم حصوله على ميدالية التفوق العلمي وتكريمه من رئيس الجمهورية؛ اقصد- جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، علي سالم البيض ووزير التعليم العالي حينها. كان ذلك في عيد العلم العاشر من سبتمبر 1988م .كان ذلك اليوم بالنسبة للزميل حنش بمثابة عرسا أكاديميا بهيجا وقد حرصت على حضوره بكامل الشياكة المتاحة في تلك الأيام. تأملوا صورة حنش وهو يمد يده لمصافحة رئيس الجمهورية (علي سالم البيض) وهو منتصب القامة ومرفوع الرأس دلالة على الاعتزاز بالذات وبالاستحقاق للتكريم بينما صورته وهو يصافح عميد كليته، الأستاذ الدكتور خالد عمر باجنيد، عميد كلية الحقوق حينما؛ صافحه وهو منحني الظهر، خفيض الرأس بحركة مقصودة منه كما اخبرني وذلك توقيرا للمعلم وللمؤسسة الأكاديمية التي تعد أهم مؤسسات الحضارة الحديثة بلا منازع. إذ تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المستقلة والإدارة البيروقراطية الرشيدة ، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة وإدارة فنية عالية الجودة وقيم ومعايير مهنية أكاديمية علمية شاملة ومجردة ، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل والتام الأتم والمثال الأمثل. فهي نزوع دائماً نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر صوابا والأكثر نفعا مهما كلف الأمر ، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. بما يؤمن بلوغ أعلى مراتب الجودة والاعتماد الأكاديمي الشامل. نعم كنا ومازلنا نرى في العلم والتعليم ومؤسساته أهم مقومات الدول العصرية وركيزة من ركائز تطور المجتمعات وتنميتها المستدامة فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع ومركزاً لحفظ وتداول ونقد وتجديد وتطوير وإنتاج المعرفة وتطبيقها ومنارة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير وهي أهم مؤسسة إستراتيجية في تاريخ الحضارة الحديثة وذلك لإسهامها الفعال في نهضة وازدهار الحياة الإنسانية الحديثة والمعاصرة في العالم اجمع ، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: وظيفة التدريسية، المتمثلة في حفظ وتعليم ونقل وتداول المعرفة. ووظيفة البحث العلمي: المتمثلة في نقد وتجديد وإنتاج وتطوير المعرفة ووظيفة خدمة المجتمع وتنميته : في استعمال وتطبيق المعرفة العلمية وبحث ودراسة وحل المشكلات الاجتماعية. كان صديقي يحلم بعد التخرج من كلية الحقوق عام ١٩٨٨م بتقدير ممتاز ومرتبة الشرف بالالتحاق في عضوية التدريس المساعدة بكليته وكذلك حلمت أنا بعد حصولي على شهادة وميدالية التفوق العلمي ولكن جرت الرياح بما لم تشتهي السفن! بعد التخرج آخذت احلامنا تتبدد بسرعة مذهلة إذ تسارعت الاحداث بطريقة دراماتيكية منذ عام ١٩٩٠ لنجد انفسنا في عام ١٩٩٤م بعد غزوة التكفير والتدمير الغاشمة مع معظم الجنوبين في عدد المهزومين بلا عمل ولا طن ولا دولة ولا هوية نعض على أصابع الندم ونضرب الأمر أخماسا في أسداس! كان الوضع حينها شديد القساوة والاختناق ولا يُطاق ابدا، وكانت هزيمتنا موجعة حد العمق، واتذكر أن الكثيرين ممن اعرفهم سحقتهم تلك الحرب والهزيمة وعجزوا عن استيعابها فماتوا قهرا أو انتحروا وبعضهم فقدوا عقولهم للأسف الشديد، حينذاك بلغنا اللحظة الحدية في الصراع مع الموت والانقراض، وكان كل شخص يواجه الموقف بمفرده، في تلك الأيام الموحشة كان الأول على دفعته ابو علا اليزيدي قد فقد منزله الخشبي بضربة مدفعية غبية واحترق في ذلك البيت كل شقاء العمر وذكرياته الجميلة وهو حديث الزواج إذ لم يمر على زواجة من شريكة حياته السيدة الرائعة أم علا وفتحي ومحمد وسارة غير عامين فقط. ولم يكن معه من خيار غير التفكير بالرحيل من بلاد الحرب والدمار فكان له ما أراد مكرها أخاك لا بطل! في عام ١٩٩٦ رحل حنش بعد سقوط دولته واحتراق منزله وشهاداته؛ رحل من عدن الى قطر التي وجد فيها وطنا بديلا وعملا يؤمن له ولعائلته الكربمة لقمة عيشه، وهناك بدأ حياته من أول وجديد في مجال المحاماة والاستشارات القانونية ورغم مرارة الماء والخبز في بلاد الآخرين الا أن ظروف العيش في الوطن الخراب قاسية جدا ولم يعد بمستطاع الأذكياء أمثال ابو علاء تحملها. اتذكر بانني حينما ودعته احسست بمشاعر مؤلمة إذ كان ولايزال أعز صديقا لي واخا وفيا لم تنجبه أمي! كان وجوده في عدني يشعرني بالمواسأة وكنا نحاول نداري خيبات حياتنا بكثير من الحيل والتقنيات الساخرة ومنها التفكير بالمقاومة المدنية وتأسيس جمعية السلام الوطني والاجتماعي والكتابة والزيارات المتبادلة والرحلات والرياضة ومضق القات والنقاش الجاد في معنى الدين والتدين والجنة والنار والأفكار الفلسفية التي تعلمنها لاسيما تلك المتصلة بالنظرية الماركسية. كان البعد النظري والمعرفي في الماركسية هو الذي يجذبنا وليس بعدها الثوري الايديولوجي.

لهذا لم يحدث لنا ما حدث للكثر من زملائنا من أزمة وجدانية بعد سقوط معاقل الماركسية الرسمية في موسكو وأوروبا الشرقية وفي بلادنا. جن جنون بعضهم وانتحر الاخر وتحول الكثيرين من اليسار المتطرف إلى اليمين المتطرف إذ اتذكر أن اشد الزملاء غلوا في الزمن الماركسي تحولوا بعد الاجتياح الوحشي عام 1994 إلى التدين المتطرف واسدلوا لحاهم والتزموا المساجد وبعضهم صاروا شيوخا ودعاة ووعاظ بعد أن كانوا مسؤولي التوجيه المعنوي الايديولوجي في مرافق عملهم واعرف بعضهم لا داعي لذكر اسماءهم. واتذكر أنني كتبت بعد يوم من سفره مقال في صحيفة الأيام بعنوان (شعب يبحث عن هوية) نشر بالصفحة الأخيرة. وهكذا تفرقت بنا السبل وجرت بنا السنين والأيام صديقي أثبت وجوده الرائع في دولة قطر اعتمادا على نفسه وقدراته وكفاءته العلمية القانونية وجهوده وعلاقاته الشخصية حتى صار اليوم من أهم االنخب الاجتماعية والثقافية المهاجرة في قطر بعلاقاته الاجتماعية والثقافية الانسانية الواسعة والمتوازنة فضلا عن وظيفته المحترمة مستشارا قانونيا في وزارة الداخلية القطرية والتي جعلته يحظى بتقدير واحترام كل من عرفه وتعامل معه من الاخوة القطريين واليمنيين والعرب عامة. على مدى أكثر من ربع قرن في دوحة قطر في مجال الشؤون القانونية تمكن الزميل العزيز، حنش علي عبدالرحيم اليزيدي من تطوير ذاته منهيا وفكرا بحيث غدا اليوم خبيرا قانونيا دوليا فضلا عن كونه مثقفا مستنيرا من العيار الرفيع. كان حنش المثل الأعلى للطالب الجامعي الذي تفخر به أي جامعة محترمة؛ شكلا ومضمونا إذ تمكن بفضل ذكاءه الخاص من تحول المعرفة النظرية الأكاديمية التي تحصل عليها في سنوات دراسته الجامعية إلى ثقافة شخصية ومقدره مهنية عالية الجودة والأهمية. فقد صار اليوم مرجعنا قانونيا وخبيرا لكل من يعرفونه. وانّا بقيت في عدن أتدبر أمري بجهود مضنية حاولت تجاوز تلك الظروف العصيبة. وكان مواصلة التعليم العالي هو خياري الممكن الوحيد . إذ حضرت الماجستير على نفقتي الخاصة وتمكنت بعد احدعشر عاما من المتابعات المرهقة بالحصول على وظيفة معيدا في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة عدن.والحكاية طويلة لا يتسع المجال لذكرها هنا.

تداعت تلك الخواطر إلى ذهني وانا اتأمل في الصور التي وصلتني البارحة من المستشار القانوني حنش علي عبدالرحيم وما أثارته في نفسي من ذكريات جميلة ممزوجة بمشاعر الحنين والحزن والاسى والحمد والشكر على كل حال وليس باليد حيلة. وبين الغفلة والانتباه، شعرة شفافة. إذ يمكن للمرء أن يكون على درجة عالية من التحصيل العلمي، لكنه بحكم التكوين الايديولوجي الذي نمّط ذهنه يظل غافلا عن فهم المعنى؛ إذا من المعلوم أن ذهن الإنسان لو تشكّل على أي نحو من أنحاء الاعتقاد الدوجمي بات من الصعب تغييره؛ وبهذا المعنى كانت الايديولوجيات ومازلت تسحر وتعمي وتخفي المعنى الحقيقي للعالم والواقع وتجعله بعيدا عن الفهم- اقصد. الفهم الذي هو اشبه بقدح زناد الروح في ذات الكائن لا يتأتى الا لمن تحلى بحساسية نقدية ذاتية وتواضع معرفي وسعة أفق وضمير نقي وشغف الاطلاع. فالكتب لا تحيي الموتى ولا تجعل الأغبياء اذكياء ولا الحمقاء حكما. فإذا لم يكون لدى المرء عقلًا يقظًا وحسًا مرهفًا وضميرا نقيًا وقلبًا طائشًا واهتمامًا فعالًا وذهنا حاضرًا فلن يفهم حتى لو سكبت له المعرفة إلى رأسه سكبا. ولا يثمر التعليم إذ لم يكن في ذات المتعلم قابلية للتعلم تتمثل بقدرة أنتباه واعتراف بالجهل وذهن متقد وحماسة صادقة للفهم وحساسية مرهفة بالحلم والحكمة. وحينما يتم تنميط الأذهان على نحو من أنحاء الاعتقاد يصبح من الصعب تغييرها. فكم هم اولئك الذين امضوا اعمارهم في طلب المعرفة وإنتاجها ليكتشفوا بعد فوات الأوان أنهم على الضفة الأخرى من العلم الذكي الجدير بالقيمة والاهمية والاعتبار. والفهم هو غاية كل تعليم وتربية جيدة إذ أن تعلم العلوم الطبيعية والإنسانية مثله مثل تعلم الحروف الأبجدية والأرقام الحسابية فإذا تمكن التلميذ من فهم الحروف الأبجدية والأرقام الحسابية نطقا وكتابة واستخدمها بذاته فقد تمكن من الخطوة الأولى في طريق التعليم والتعلم الطويلة. وإذا تمكن طالب الجامعة والدراسات العليا من فهم وامتلاك المفاهيم الأساسية في تخصصه الأكاديمي واستخدمها بذاته بعد تخرجه فقد وضع قدمه على طريق البحث والتفكير والنقد والكتابة في مجال تخصصه العلمي. وبدون ذلك التأسيس المنهجي التكويني للتلميذ والطالب والباحث سيظل التعليم والتعلم عقيما ولا ينتج ثقافة جديدة. فالمثل الأعلى للتعليم الاساسي لا يكمن في تعليم التلاميذ الأخلاق والدين والأدب بل في إكسابهم القدرة على أمتلاك الحروف والأرقام -مفتاحي كل تعليم وتربية ممكنة- نطقا ورسما . وكذلك هو الحال في التعليم الجامعي إذ أن المثل الأعلى للمؤسسة الأكاديمية لا يتمثل فيما تزود به طلابها من دروس ومعارف كثيرة في مختلف التخصصات العلمية ، بقدر ما يتمثل في اكسابهم المقدرة على فهم ما تعلموه وبذلك تتمثل وظيفة المؤسسة الأكاديمية في مقدرتها على تحويل معرفة الأولاد والبنات إلى قدرة الرجال والنساء. وبذلك كان ولازال الرهان على التعليم بعده أهم المؤسسات الحيوية المخولة بإعادة إنتاج المجتمعات وتمكينها وتطويرها بما تقوم به من وظيفة تكوّن الأجيال الجديدة بتربية وتنمية العقول ونقل الخبرة وحفظ المعرفة وتداولها، وذلك بحسب رؤية فلسفية مدركة أو مضمرة عند النخبة المعنية بأمر تسويس المجتمع وتدبيره. والمؤسسة التربوية التعليمة هي تكوينية بالأساس، إذ تنهض بمهمة تصميم وتشكيل وتمكين النمط الثقافي المرغوب في مجتمعٍ من المجتمعات. كتب الأستاذ فتحي الغنيمي في الفرق بين التعليم السليم والتعليم العقيم ما يلي ( فى التعليم السليم أن تترك الطالب يتعلم بسعة استيعابه ال Capacity دون التدخل الجبرى بالدروس الخصوصية ، فيأخذ وضعه المناسب فى وظيفة الحياة ، وينجح ، ويصبح ماهرا ، صانعا ماهرا أو أستاذا مبتكرا أو مفكرا حصيفا أو دكتورا أو مهندسا أو فيلسوفا .الخ بينما في التعليم التقليدي يكون التلميذ أو الطالب مرغما على الحفظ بلا فهم ، وينسى سريعا ، وينجح بالغش ، ويدخل الجامعه مهزوز ، ويتخرج و يرسب فى اى مقابلة لاى عمل يتقدم له ، فيلعن حظه ، وربما بعد التخرج يضطر الطالب إلى عمل صنايعى نجار أو حداد أو خراط.. الخ ثم يعلق لماذا كل هذا التعب كان من الأول" ( صفحة فتحي الغنيمي في الفيسبوك) ومن خلال دراستي لنظام التربية والتعليم التقليدي بمناهجه وأدواته وقيمه البالية هو من يعمل على هزيمة الأهتمام والفضول والدهشة والرغبة في المعرفة والانتباه وإحباط؛ فطرة الإنسان في حب الاستطلاع والتساؤل والحلم والخيال والتخييل ومثل هذا النمط من التعليم التقليدي الذي يقوم على الحفظ والتلقين لا ينتج إلا أناسا ممتثلين أو متمردين أو منحرفين خطرين على ذواتهم وعلى أسرهم وعلى مجتمعاتهم وعلى التعليم ذاته ويعمق الغربة والاغتراب بين الافراد وحياتهم وعصرهم وزمانهم . وحين نضغط على الأطفال التلاميذ والطلاب والطالبات أو نثقفهم بثقافة الطاعة والسكون والأدب يبقوا صامتين منفذين للتعليمات بروح سلبية لا مبالية بدلا من تشجيعهم على طرح الأسئلة وتنمية قدراتهم ومواهبهم بحرية وهنا يتحول الفضول الطبيعي إلى سلبية ورغبة في تجنب الآخرين، كما يتعود الأطفال على تخطي واهمال أسئلتهم وأجوبتهم النابعة من ذواتهم الحرة وبدلا من ذلك يسعون إلى توجيه الاسئلة والاجابات التي يعتقدون إن الآباء والامهات وكبار السن والأساتذة يودون سماعها منهم، وما أن يصلوا مرحلة الجامعة حتى يكون الطفل الموجه داخليا قد أصبح الراشد الموجه خارجيا وهكذا يحل الحذر والسلبية محل الفضول والاهتمام والرغبة في التساؤل، كما يحل تدوين ملاحظات افكار الآخرين محل التفكير النابع من الذات، كما يحل التقين محل التفكير. وحين نرهق الولد بمتاع لا يجيب عن أي سؤال يعنيه ويهمه، وحين نتخمه بغذاء لا يسد أي رمق أو لا يشبع جوع، أو يبل عطش، وحين نخنق تلك الحاجة العجيبة لدى التلاميذ إلى المعرفة والفهم والاستكشاف والنشاط واللعب، أي بكلمة حين نخنق الحاجة إلى أن ينمو، أي يصير انسانا، لا طفلا كبيرا- والشرير هو طفل كبير أسيئت تربيته- وقد أكدت الدراسات العلمية إن كبت الحاجات الفطرية للفضول والتساؤل والفهم والاكتشاف عند الأطفال والمراهقين حد اختفاءها الظاهر لا يعني محوها واختفاء أثرها من حياتهم الراشدة بل يعمد الاوعي الى تأجيلها أو إزاحتها واستبدالها وتمظهرها على نحو لا إرادي تتجلى في جملة من مظاهر السلوك الشاذ أو غير السوي كحلم اليقظة والشرود الذهني، والانحرافات الشاذة، والمشاغبة واللامبالة والكسل والتسيب والتسرب والخوف والاتكال والكذب والنفاق والجبن والتهور واللا انضباط والعنف والغش والجنوح والإدمان والتطرف والسطحية والابتذال وازدواج الشخصية واضطربها وغير ذلك من الأفعال وردود الأفعال غير السوية الضارة بالحياة الاجتماعية. وهكذا يجب أن نعي ونفهم إن سيكولوجية التلميذ المكبوت تثأر لنفسها بطرق ووسائل سلبية وخطيرة، كما تفعل دينامية الاقتصاد المكبوت في الدول الشمولية بازدهار السوق السوداء ومنافذ التهريب والرشوة والفساد.يقول عالم النفس كارل ساغان" أن كل فرد يولد مزود بحب الاستطلاع والدهشة مما حوله، غير أن المجتمع يتولى هزيمة ذلك في نفسه، فالأطفال الصغار الذين سيكتشفون العالم المحيط بهم ببطئ ويوجهون التساؤلات البريئة، حول، مثل لماذا لون العشب أخضر؟ أو اين الله ومن هو الله؟ ومن اين ولدت؟ وكيف ولدت؟ يواجهون بردة فعل غاضبة وصارمة وزاجرة كأن يقال لهم لا توجهوا أسئلة غبية؟ أو أستغفر الله العظيم! أو تسخر منه أو تحملق في وجهه أو تضربه .. الخ. وهذا ما يعيق تفتح فطرته الطبيعية ونموها وتنميتها عقلانيا وإنسانيا. ومعلوم إن الكائنات البشرية تولد بغريزة فطرية بالفضول وحب الاستطلاع والتعجب والدهشة والتساؤل المؤدي إلى الاستكشاف والمعرفة والفهم وتقوم التربية السليمة على تنمية هذه القدرة الفطرية وتهذيبها. يقول جون هوليت:"ليس علينا أن نجعل البشر أذكياء، فهم يخلقون كذلك بالفطرة وكل ما علينا أن نفعله هو التوقف عن تربيتهم وتعليمهم الغباء الذي نحمله"ورغم أهمية التعليم والتعلم ودورهما في إكساب الطالب المعرفة والفهم ، تبقى التربية هي أهم أدوات ووسائل التنمية المستدامة وهي بذلك أوسع نطاق من التعلم والتعليم ذلك لأنها "تتناول الفرد في عمقه وفي سائر طبقات شخصيته وعاداته وانفعالاته وعواطفه وغرائزه الفطرية، إذ تتجه التربية إلى أعماق الذات الإنسانية وهي بذلك سابقة على كل تعلم ومرافقة لكل تعليم ومتصلة في عملية تنمية الإنسان وتثقيفه باستمرار من المهد إلى اللحد، ومن ثم فان التربية هي مهمة أستراتيجية وشاملة ومسئولية عامة تضطلع بها، الأسرة والدولة والمدرسة والمجتمع. وغاية التربية هي تنشئة الإنسان، أما بواسطة الأسرة: مدرسة المشاعر الأولى. وأما بالتعليم. وليس التعليم سوى ذلك الفرع من التعلم الذي يهدف إلى تثقيف الإنسان وإكسابه القدرة على تكوين الأحكام الصحيحة في المجتمع والقدرة على السلوك والتصرف في مواجهة المواقف والممارسات اليومية في خضم الحياة الاجتماعية بأفعال وانفعالات ومواقف حكيمة وحليمة وذكية وأكثر إنسانية.


تلك الصورة في ساحة كلية الطب قبل التكريم. الرفيق حنش عبدالرحيم كان فرحا بالتكريم وأنا كنت مشغولا بالنظر إلى وش جميل، بينما كان زميلا لنا يصورنا