آخر تحديث :الجمعة-11 أكتوبر 2024-02:41ص

واقع العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية وممكناتها

الجمعة - 11 أكتوبر 2024 - الساعة 02:10 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


من وحي ندوة المعهد العالمي للتجديد العربي البارحة


حضرت البارحة، مساء الاربعاء، الموافق 9 أكتوبر 2024م الندوة التي عقدتها وحدة الدراسات الاجتماعية والأنثربولوجية في المعهد العالي للتجديد العربي المكرسة لمناقشة، استراتيجية الوحدة في بناء منظمة نظرية ومنهجية سوسيولوجية انثروبولوجية عربية حديثة ومستقبلية. ادارة الندوة بكفاءة واقتدار الاستاذة الدكتورة، زهية جويرو استاذة الفكر العربي المعاصر في جامعة منوبة التونسية ورئيس وحدة الدراسات الحضارية في المعهد وقدمت ورقة الندوة الرئيسة الدكتورة أريج البدراوي زهران، رئيس وحدة الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية في المعهد العالمي للتجديد العربي وكان الأستاذ الدكتور، أسامة عبدالباري، رئيس قسم الاجتماع في جامعة الزقازيق الأسبق معقبا اولاً والدكتور رمزي فارح، استاذ الأنثروبولوجيا في جامعة بسكرة الجزائرية معقبا ثانيا. حضر الندوة عبر الفضاء الإلكتروني نخبة من علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا العرب وعالماته من مختلف جهات الأرض الأربع. طبعا أنا حرصت على حضور الندوة لانها تهمني إذ سبق وأن فكرت وكتبت دراسات في أزمة العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية وما الذي بمقدوره عمله؟! وذلك من منظور فلسفة العلوم وسوسيولوجيا العلم المعاصر. وقد سنحت لي الفرصة بتقديم مداخلتي في الندوة باختصار شديد واليكم خلاصتها :

واجهت العلوم الإنسانية والاجتماعية ومازالت، تحديات وأسئلة لم تشهد مثيلاً لها في تاريخها الطويل، وهذا ما يشف عنه القلق المتزايد الذي أخذ ينتاب علماء الإنسانيات والاجتماع في المجتمعات الغربية، بعد أن أحسوا بعجزهم إزاء ما يشهدونه من تحولات وظواهر جديدة لا عهد لهم بها، وليس بمقدور نماذجهم المعرفية التقليدية الإحاطة بها وفهم دلالاتها.

هناك جملة واسعة ومعقدة من المشكلات الاجتماعية والإنسانية الحيوية, التي تواجه العلوم الاجتماعية والانسانية العربية على مختلف الأصعدة النظرية والمنهجية والتطبيقية؛ مشكلات ابستمولوجية عامة تتصل بأزمة العلم ذاته ومشكلات عملية تتصل بحياة المجتمعات العربية بنسب متفاوتة فضلا عن القضايا الإنسانية العالمية كمشكلة سباق التسلح والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة الأرضية والأوزون، وصدام وحوار الحضارات، ومشاكل الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال العابرة للقارات. ومشاكل الفقر والصحة والمرض، ومشكلة التطرف والإرهاب والعنف، ومشاكل الهويات الطائفية والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية والاندماج، والمخدرات ومشكل الفساد والبطالة و والحركات الاجتماعية والثورات، وقضايا حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بالحقوق المدنية، ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي، ومشاكل السياسة والنظم السياسية والعدالة والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني والعدالة الانتقالية. والمشكلات الأخلاقية للعلم؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل الفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية الجديدة والآثار الاجتماعية والاقتصادية والنفسية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا 19 فضلا عن المشكلات المستعصية التي تفتك بالمجتمعات العربية والإسلامية منذ زمن طويل ومنها: مشكلة الهوية والحروب الطائقية إذ تعيش مجتمعاتنا العربية اليوم حروب طائفية مستعرة في كل مكان (شيعية, سنيه مسيحية، عربية كردية, في العراق وسوريا. ومسيحية, شيعية, سنية, درزية, في لبنان. وزيديه, حوثية, اثنا عشرية, سنية, سلفية, عشائرية, وجنوب, شمال, في اليمن) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف رمزي, وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار(روافض, نواصب خوارج, مجوسية, صفوية, قاعدة, أنصار الشريعة، حزب الله, أنصار الله، داعش والنصرة ..إلخ ) وغير ذلك من المشكلات الحيوية الأخرى. والسؤال هو: ماذا بوسع العلوم الاجتماعية والإنسانية عمله بإزاء تلك القضايا الراهنة فضلا عن التحديات المستقبلية إذ أن إن استشراف المستقبل والبحث فيه لم يعد اليوم من باب الرجم بالغيب أو التنجيم أو التنبؤ أو التخمين و الظن و الشطح الصوفي، بل غدا اليوم ضرورة حيوية وجودية وإستراتيجية للبقاء والعيش في عالم تعصف به الأحداث و المتغيرات بخطى سريعة الايقاع )فلا مستقبل لمن فقد موقده و ضيع بوصلة اتجاهه( ويرى توفلر أن الأمم التي تجعل ماضيها هو مستقبلها تشبه ذلك الذي راح يبحث عن روح أجداده في رفات الرماد، فأيهما يحكم الآخر عندنا الماضي أم المستقبل ؟!، وبدون تحرير المستقبل من الماضي لا يمكن لنا أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام بينما نتراجع خطوات كثيرة إلى الخلف، لقد أصبحنا اليوم نهرب إلى الماضي ونقرأ فيه مستقبلنا، فأضعنا الحاضر والماضي والمستقبل ولفظنا التاريخ في زوايا الهامش المنسي.. هكذا يجب أن تكون مقاربتا لمشروع التجديد العربي على الصعيد النظري والمنهجي ذي طبيعة مزدوجة؛ إذ هي من جهة دراسة لوضع العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية الراهنة وطبيعة تلك التحديات والمشكلات التي تواجهها ووضعها الراهن في العالم العربي ومن جهة أخرى بحث في الآفاق المستقبلية لها في عالم باتت المعرفة العلمية هي مفتاح تقدمه وفي ظل الحضور المتزايد لخطاب العلوم الإنسانية والاجتماعية على الصعيد العالمي واتساع نطاق انتشارها وتمكينها وتوطينها أكاديميا وثقافيا وإعلاميا في مختلف المجتمعات والبلدان وتخصيبها بـ(الخطابات البديلة) التي أخذت تنتشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، عبر فتح المزيد من المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة الرسمية والمدنية هذا فضلاً عن قيام الهيئة العامة للأمم المتحدة (اليونسكو) بإصدار العديد من القرارات والتوصيات والتقارير التي شددت على ضرورة نشر العلوم الإنسانية والاجتماعية وتنميتها في جميع الدول الأعضاء لأهميتها الحيوية في التصدي للمشكلات النوعية المتزايدة. "لا يزال للعلوم الاجتماعية الغربية أكبر تأثير على المستوى العالمي. لكن نطاق هذا المجال يتسع بسرعة في آسيا وأمريكا اللاتينية، لاسيما في الصين والبرازيل. وفي إطار أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ينتج العلماء الاجتماعيون في جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا 75% من المنشورات الأكاديمية. ويحتل مجال العلوم الاجتماعية ككل مرتبة متدنية في سلم الأولويات في جنوب آسيا، باستثناء عدد من مراكز الامتياز في الهند"( غودموند هيرنز وآخرون، الفجوات المعرفية: تقرير اليونسكو العالمي للعلوم الاجتماعية لعام 2010، النت, جوجل، موقع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة)


كتب الفرنسي جوفاني بوسينو: "إذا كان من الواجب تمييز علم الاجتماع في الأربعين سنة الأخيرة بكلمة واحدة فإن )كلمة) انقلاب هي التي تفرض نفسها بالتأكيد، فمنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين بدأت الوظيفية ومعتقدات وتأكيدات أخرى تتمزق، وبدت كل التحليلات والتنبؤات المتعلقة بالواقع التاريخي الاجتماعي التي غذت تفكيرنا ووجهت بحوثنا حينذاك حشوية وخادعة، وأدى عجزنا عن تفهم وتفسير انبثاق الجديد والمختلف والمغاير والآخر... وبات وجودنا ونشاطنا من الآن فصاعد باطلاً وغير مفيد .. وبدون جدوى؛ إذ تحطمت فكرة الجماعة التي كانت تمنحنا هويتنا المهنية، ودورنا ومقاييسنا العلمية وآمالنا ومشاريعنا ... وأدركنا أن مجرى التحولات الجديدة والتغيرات السريعة قد جردتنا من كل أدواتنا وأطرنا المرجعية التقليدية. ويخلص بوسينو إلى التساؤل؛ هل هو إفلاس العلوم الاجتماعية وموت علم الاجتماع وبطلان كل نماذج معرفتنا للشأن الاجتماعي؟) مجيباً: إني لا أعرف الإجابة وكل ما أعرفه أن العقل الغربي هزته أزمة عميقة، يصعب تحديد طبيعتها وعمقها ومداها ونتائجها"

وفي السياق ذاته جاءت صرخة بول فيين؛ إذ كتب تحت عنوان فرعي،) توعك السوسيولوجيا) قائلاً " ليس سراً على أحد أن السوسيولوجيا تعيش اليوم متوعكة، وأن أفضل رجالها بل ومعظمهم لا يأخذون على محمل الجد إلا العمل الامبريقي التجريبي… وبإيجاز فالسوسيولوجيا ليست ككلمة إلا جناساً (اتفاق الحروف واختلاف المعنى (وأن كتابة تاريخ السوسيولوجيا من كونت ودوركايم إلى فيبر وبارسونز ولازار سفلد، ليست بمثابة كتابة تاريخ فرع متخصص من العلوم ، بل تاريخ كلمة، فلا وجود بين أحد هؤلاء المؤلفين والآخر أي استمرار في الأسس والمنطلقات والموضوعات والمقاصد أو المناهج ، فليست السوسيولوجيا بالتعريف فرعاً علمياً متخصصاً، فرعاً متطوراً ، ولا وجود لاستمراريتها إلا بواسطة اسمها الذي يقيم صلة لفظية بحتة بين أنشطة عقلية لا صلة بينها"

في الواقع لقد طالت الأزمة أنساق العلوم الإنسانية الغربية كلها، وانتشرت كالنار في الهشيم في مختلف الدوائر الفكرية والأكاديمية الأورأمريكية، فعلى صعيد الدراسات التاريخية كتب المؤرخ الإنجليزي جفري باراكلاف من جامعة أكسفورد تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة: "إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة، بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وإن أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد - إن لم يكن قد فقد - سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم".

وقد بلغ هذا الموقف المتشكك بلا جدوى التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي دافيد رونالد، من جامعة هارفارد، حد الاستفزاز والتحدي في كتابه ،تاريخنا بلا أهمية، أعلن فيه "أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا في مواجهة الحاضر وأننا لا نتعلم من أخطاء الماضي، وما أقل تأثيرنا في ما ينزل بنا من أحداث، وما أشد عجزنا في قبضة قوى أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني"

ويمكننا تتبع هذا الإحساس القلق بحالة الأزمة عند عدد واسع من علماء الإنسانيات من مختلف الأنساق المعرفية، فهذا عالِم الاجتماع التربوي مالكهولم تويلز يقر بذلك حيث يقول: "إننا نعيش في زمن تتسارع فيه التحولات الاجتماعية وتتغير فيه المعارف بسرعة مضطردة، بحيث غالبا ما تصبح فيه الكتب قديمة قبل خروجها من المطبعة، وبات من الضروري إعادة النظر في استراتيجيات التربية والتعليم وأهدافها بما يتواكب مع تلك المعطيات الجديدة".

تكشف تلك النصوص طبيعة الأزمة وقوة أثرها الصادم عند علماء الإنسانيات الغربيين وكيفية تعاملهم وفهمهم لها؛ إذ رغم إقرارهم بوجودها فإنهم يختلفون في تأويلها، فهذا أولفين توفلر يقر بوجود الأزمة إلا أنه يرى فيها بشارة ميلاد جديد لحضارة جديدة، إذ كتب: "إن التغيرات السريعة التي نلاحظها في عالم اليوم ليست بهذه الدرجة من الفوضوية والعرضية، التي يهيؤننا لتصديقها، بل إن وراء الأحداث المعروضة بعناوين كبيرة، جملة من البنى ليست ملحوظة وحسب، بل هناك قوى يمكن تحديدها وهي التي تتحكم في تلك البنى وتهبها صورتها،... اليوم تواجه البشرية قفزة هائلة إلى الأمام، تواجه أعمق فورانا اجتماعيا، وأشمل عملية إعادة بناء في التاريخ، ونحن اليوم مندمجون في بناء حضارة جديدة متميزة بدءاً من البداية، وإن كنا غير واعين تماماً لهذه الحقيقة وهذا ما نعنيه بـحضارة الموجة الثالثة"

بغض النظر عن تأويلات الأزمة، يهمنا التأكيد أن ثمة اتفاقًا بين معظم الفلاسفة والعلماء على أن المجتمع الإنساني الراهن يعيش لحظة تحول سريعة ومضطربة تصيب الإنسان بالذهول وتتحدى قدراته على الفهم والحكم والتمييز "إذ سرعان ما تأتكل الكلمات في محاولة التعبير عن هذا العالم المنبثق حيث الحركة هي القانون والرجوع إلى الماضي لا يسعف كثيراً في فهم هذا الزمان، فهناك كثير من المستجدات التي توهن العزم على الاستعانة بالمماثلة وأن المشكلات التي تراكمت في أواخر القرن العشرين جعلت العالم يبدو للإنسان وكأنه تيه ".

وسط هذه الأزمة العاصفة وقف علماء الإنسانيات أمام خيارين لا ثالث لهما: إما التشاؤم والقنوط واليأس والعجز, وإما التفاؤل والتفكير والمبادرة باتخاذ موقف نقدي جذري من كل شيء؛ نقد الذات ونقد التصورات ونقد التاريخ والتراث والمجتمع والحياة ونقد نظرياتهم ومناهجهم وأدواتهم وتصحيحها في ضوء المتغيرات وما تحمله من معطيات وممكنات سوسيولوجية وإبستيمولوجية جديدة. وهذا ما تم فعلاً؛ إذ مثلّت سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي لحظة تحول حرجة للعلوم الإنسانية والاجتماعية في مواجهة السؤال الجوهري: "كيف يمكن جعل مرحلتنا المفصلية بين مجتمع الأمس الآخذ بالزوال وبين المجتمع الآخذ في الانبثاق قابلة للتعقل والإدراك؟

وإذا ما حاولنا رصد ابرز ملامح أزمة العلوم الإنسانية ومخاضات تحولاتها في الإبستيمولوجيا المعاصرة فيمكنا اجمالها بالنقاط الآتية:

أولا: شهدت الإبستيمولوجيا الإنسانية أكبر ثورة نقدية في تاريخها؛ إذ لأول مرة في تاريخها ينبسط الإنسان ومشكلاته الاجتماعية موضوعاً كلياً ومحورياً للفلسفة والعلوم الإنسانية؛ إذ شكل الإنسان سؤالاً رئيساً لمعظم المدارس والاتجاهات الفلسفية المعاصرة (الفينومولوجية والوجودية والشخصانية والحيوية والماركسية الجديدة والتحليل النفسي والهرمنطيقيا، والأنثربولوجيا والتفكيكية، والسمولوجيا وفلسفة اللغة وفلسفة الجسد ..إلخ.

ثانيا: شهدت المعرفة الإنسانية والاجتماعية فيضاً غنياً من الرؤى والأفكار النقدية في سلسلة مضطردة من البحوث والدراسات النظرية النقدية ،فضلاً عن اتساعها الأفقي في ارتياد مجالات وحقول وموضوعات جديدة لم تألفها في ماضيها الكلاسكي من ذلك : الدراسات الثقافية والنقد الثقافي التي تنضوي على طيف واسع وشديد التنوع من المواضيع والمشكلات( دراسات المرأة والهيمنة وما بعد الكونيالية وسوسولوجيا الصحة والمرض، وسوسيولوجيا الإعلام والتواصل والاتصال وأخلاقيات العلم والتكنولوجيا، والانثربولوجيا الثقافية والتعددية والهوية، و قضايا حقوق الإنسان وغير ذلك.

ثالثا: الحضور المتزايد لخطاب العلوم الإنسانية والاجتماعية على الصعيد العالمي واتساع نطاق انتشارها وتمكينها وتوطينها أكاديميا وثقافيا وإعلاميا في مختلف المجتمعات والبلدان وتخصيبها بـ(الخطابات البديلة) التي أخذت تنتشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، عبر فتح المزيد من المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث والدراسات المتخصصة الرسمية والمدنية. فضلاً عن قيام الهيئة العامة للأمم المتحدة (اليونسكو) بإصدار العديد من القرارات والتوصيات والتقارير التي شددت على ضرورة نشر العلوم الإنسانية والاجتماعية وتنميتها في جميع الدول الأعضاء لأهميتها الحيوية في التصدي للمشكلات النوعية المتزايدة. "لا يزال للعلوم الاجتماعية الغربية أكبر تأثير على المستوى العالمي. لكن نطاق هذا المجال يتسع بسرعة في آسيا وأمريكا اللاتينية، لاسيما في الصين والبرازيل. وفي إطار أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ينتج العلماء الاجتماعيون في جنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا 75% من المنشورات الأكاديمية. ويحتل مجال العلوم الاجتماعية ككل مرتبة متدنية في سلم الأولويات في جنوب آسيا، باستثناء عدد من مراكز الامتياز في الهند".

رابعاً: إعادة تعريف وتصنيف العلوم الإنسانية تعريفاً نقدياً جديداً في ضوء المداخل السوسيولوجية المعاصرة بما فتحته من آفاق منهجية واستبصارات نقدية بالغة الأهمية في دراسة وفهم العلم عامة والعلوم الإنسانية تحديداً، إذ شهد التاريخ الداخلي (الابستمولوجي) في العلوم الإنسانية والاجتماعية أعمق ثورة نقدية في تاريخها، وهذا ما أفضى إلى إعادة تنظيمها، بنيوياً ووظيفياً افقياً وعمودياً، إذ لم بات العلم الإنساني يتفرع إلى عدد لايحصى من الانساق التخصصية،ولم يعد من الممكن اليوم الحديث عن علم النفس بوصفه فرعاً علمياً واحداً، بل تفرع إلى مئات التخصصات النفسية الدقيقة، وهذا هو الحال في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الثقافة وعلم الفلسفة...الخ. كتب ايان سبورك قائلاً:" من أجل فهم التعددية السوسيولوجية المعاصرة يتم التمييز بين أربعة نماذج لعلماء الاجتماع : المتذّهن أو المنظر, والأكاديمي الرسمي، وعالمِ الاجتماع الاستعراضي الإعلامي وأخيراً الخبير" مع التشديد المتزايد على ضرورة ردم الهوة بينها وبين العلوم الطبيعية.

تجدر الإشارة إلى كتاب توني أ. هب,بعنوان: فجر العلم الجديد: الإسلام -الغرب والصين, بوصفه مثالاً معبراً عن الاتجاه النقدي الجديد في سوسيولوجيا العلم المعاصرة، فضلاً عن كونه يتصل بالمسألة التي تهمنا هنا أقصد مسألة العلم وسبل نموه وتقدمه، والسؤال الذي ناقشه، هب هو: لماذا ازدهر العلم الحديث في الغرب وأخفق في الإسلام والصين؟ مستلهما مداخل المنظور السوسيولوجيا الجديد في مقاربته الإجابة. كتب هب، تحت عنوان (مشكلة العلم العربي) مايلي:" لمشكلة العلم العربي بعدان على الأقل ، يتصل أحدهما بعجزه عن إنجاب العلم الحديث، ويتصل الثاني باضمحلال الفكر والممارسة العلميين في الحضارة العربية الإسلامية بعد القرن الثالث عشر. وعلى الرغم من أن تراجع الحياة الفكرية بعد العصر الذهبي مسألة ذات أهمية كبيرة لسكان الشرق الأوسط في أيامنا هذه فإنها تقع خارج حدود هذه الدراسة التي تهتم بالعلم العربي من القرن الثامن حتى آخرالقرن الرابع عشر الميلادي. ربما كان أرقى علم في العالم متفوقا بذلك على العلم في الغرب والصين. كان العرب في كل حقول العلم .. في طليعة التقدم العلمي ...إذ أن ما حققه العرب يثير الإعجاب إلى حد يدعو للتساؤل عن السبب الذي منعهم من اتخاذ الخطوة الأخيرة باتجاه الثورة العلمية الحديثة ؟ ويضيف " كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي) حسب تعبير(Koyre كويري). وبما أنهم عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بداية العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية لا تزال تتمسك بالتقاويم القمرية" وفي سياق تناوله للبُنى الثقافية والمؤسسية التي حالت دون مقدرة العلم العربي على اتخاذ تلك الوثبة الحاسمة من الباراديم التقليدي المغلق إلى الباراديم الحديث الجديد توصل هب إلى نتائج بالغة الخطورة والأهمية اليكم بعضها:

1- لم يكن لعلماء الطبيعة العرب دور معترف به اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يوازي دور الفقهاء من حيث السلطة والنفوذ، بل كانت بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام ذات طبيعة جعلت طلب العلوم الوضعية والعقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك ويجلب لأصحابها كثيراً من المتاعب والتهم الخطيرة على حياتهم.

2- كانت سلطة الفقهاء وسطوتهم شاملة بحيث لم يتركوا شيئاً للعلماء والفلاسفة ليقولوه، بل إن الفلاسفة وعلماء الإنسانيات لم يكن لهم وظيفة ودور معترف بهما في المجتمع، ومن ثم لم تكن لهم حماية، إذا ما أردوا التعبير عن آرائهم بشأن القضايا الفكرية بحرية، كمسألة خلق العالم، والعلية الطبيعية، والحرية الإنسانية، وما إذا كان بإمكان الإنسان الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق الرؤية العقلية بعبارة توماس كون.

-3 غياب البنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينية وغير الدينية، كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعاً .

إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة المجتمع العربي الإسلامي قد عاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء الجامعة بوصفها مؤسسة حرة ومستقلة، يقول (هف): "إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً"()

4- غياب فكرة العقل والعقلانية؛ إذ إن مصادر الشرع هي القرآن الكريم، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذا ما أفضى إلى التخلص من العقل بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، وقد أدى التضييق على العقل إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعية؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة ،كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. ويرى فضل الرحمن أن "اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان ،لكن العلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: "أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك"ويخلص (هف) إلى القول: "لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند ألإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للآخلاف. أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة ولا بالتقليدية.

وهكذا ينبغي أن نفهم أن أهمية العلم لا تمكن في جانبه المعرفي فحسب، بل وفيما يفعله من تغيرات جوهرية في حياة الناس الاجتماعية الثقافية ، وليس بمقدور أحد إنكار " أن العلم غير أنماط علاقاتنا ومعارفنا ومواقفنا من سلوك الإنسان وأحل بالتدريج الرؤية والعقل محل القسوة والتحامل والخرافة، وقد نما هذا التغيير نمواً بطيئاً جعله بحاجة إلى أن يعلّمه كل جيل للجيل الذي يليه بوصفه قيماً وتقاليداً ثقافية يجب أن تتوارث وتتهذب إنسانياً عبر تعاقب الأجيال ومن دون ذلك تكون أجسام الناس وحدها هي التي تنطلق بالطائرات والصواريخ أما عقولهم فترتد إلى العصور الوسطى. إن إشارتنا إلى قراءة توني هب وتأويله لمشكلة العلم والتفكير العلمي في الحضارة العربية الإسلامية لا تعني بإي حال من الأحوال أننا نتفق معه، بل تهدف إلى تفعيل النقاش والنظر في ما ذهب إليه الرجل في إطار محاولاتنا المضنية لفهم الأسباب العميقة التي حالت وماتزال دون نمو وتقدم الإبستمولوجيا العلمية في المجتمعات العربية ، إذ رغم وجود أكثر من (300) جامعة عربية اليوم فضلا عن (600) كلية للدراسات الجامعية ومراكز الأبحاث والدراسات التخصصية, إلا أن أثرها في تغيير ثقافة المجتمع وتنميته وتنويره ثقافياً يكاد يكون غائباً، لا سيما في ظل ما تواجهه المؤسسات الأكاديمية من تحديات حاسمة ورهانات عسيرة, إذ لأول مرة أصبح تقييم الجامعات وتصنيفها أكاديميا على المستوى العالمي من حيث جودة المدخلات والمخرجات والعمليات والبحث العلمي مضمارا للتنافس المحتدم بين الدول والجامعات المصنفة عالميا والبالغ عددها قرابة ( 10000) حسب اليونسكو منها (1460) جامعة إسلامية اشتمل عليها (مركز أنقرة) في تركيا، بما فيها بعض مؤسسات التعليم العالي العربية من دول أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي عام 2006م. يختار منها ( 2000) مؤسسة أكاديمية للمنافسة, وقد أظهرت نتائج قياسات الجودة العالمية للجامعات في السنوات الماضية غياب أسماء الجامعات العربية في مصنف أفضل (500) جامعة عالمية تمكنت من الفوز باختبار معهد التعليم العالي في جامعة (شانغهاي جياوتونغ) المستقل. بينما سجلت إسرائيل ( 7 ) جامعات, لم تتمكن الدول العربية مجتمعة من تسجيل الحضور عدا جامعة القاهرة بدرجة ( 509) لحصول بعض خريجيها على جائزة نوبل . وفي تصنيف مختبر القياس الافتراضي التابع للمركز الأعلى للبحث العلمي في اسبانيا لعام 2007م حصلت (15) جامعة عربية على مراتب في تصنيف الحضور العلمي ولكنها مراتب متواضعة. ونزعم أنه يصعب الحديث عن معايير الجودة والتمييز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السوسيو ثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، فالجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية العربية التقليدية مابرحت عرضة لشتى أنواع الاختراقات والانتهاكات من مجالات الحياة الأخرى وقواها الاجتماعية الفاعلة في نسق العلاقات والممارسات والعادات والمعتقدات الاجتماعية المادية والمعنوية بطابعها التقليدي في مجتمعنا العربي الإسلامي الراهن, إذ "إن الالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرز نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية" فالقوى التقليدية بمؤسساتها الراسخة لم تمهد السبيل المفترض لنمو وتقدم العلم والمؤسسة الأكاديمية الحديثة, بل ما زالت تكبلها وتعيق حرية حركتها بدون وعي أو بوعي أحياناً, وهذه هي سنة الحياة الاجتماعية؛ أنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي شكلتنا والعادات التي نريد أن نشكلها, إذ إننا (نشكل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكيلنا) حسب تشرشل, والأفراد يأتون ويذهبون ، أما المؤسسات فهي وحدها التي قد تدوم دواماً نسبياً إذ ما تم الحفاظ على قيمها وتقاليدها ومعاييرها عبر الممارسسات اليومية لمنتسبيها الذين يحملون هويتها المهنية، فكيف ما كانت مؤسساتنا نكون.


د. قاسم المحبشي؛ أكاديمي عربي