آخر تحديث :الأحد-20 أكتوبر 2024-01:48ص

في التذكير بندوة حرية التفكير وصناعة المستقبل

الأحد - 20 أكتوبر 2024 - الساعة 01:13 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


حينما تواصل معي الدكتور مصطفى بهران عالم الفيزياء النووية اليمني ورئيس اللجنة الوطنية للطاقة الذرية بشأن عقد ندوة فكرية عن حرية التفكير وصناعة المستقبل فكرت في ماذا يمكنني الحديث بموضوع كهذا فاخترت المؤسسة الأكاديمية بوصفها حقلا لتنمية الفكر المستنير. واقصد بالمؤسسة الأكاديمية الجامعات وكل ما شابهها من مؤسسات التعليم العالي. إذ تعد الجامعة مقوماً أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع، ومركزاً لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة واستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: المتمثلة في نقل المعرفة عبر وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة عبر وظيفة البحث العلمي أو في استخدام وتطبيق المعرفة عبر وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل..وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. ولما كانت المؤسسة الأكاديمية بالنسبة لنا هي فكرة حديثة وجديدة في سياق يفتقد الى تراث سابق لتأسيسها فمن الأولى بناء الاستفادة من التجارب والخبرات السابقة التي ازدهرت فيها المؤسسة الأكاديمية وحافظت على كيانها المؤسسي المستقل منذ قرابة سبعة قرون من الزمن.فكيف يمكن أن تقوم المؤسسة الأكاديمية بوظائفها المفترضة؟


ارتبط نمو العلم وازدهاره بالحرية كمعطى إنساني وحق فطري للكائن الاجتماعي، إذ أن الحرية الشيء الوحيد الذي يستحيل إنكاره، وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في القرون الوسطى تمتع بقدر كبير من الحرية والاستغلال الأكاديمي، والحرية هي من التقاليد الراسخة التي ورثتها الجامعات الحديثة المعاصرة ونعني بالاستقلال الأكاديمي حرية الجامعات في اختيار نظامها التعليمي وبرامجها ومناهجها وطرائق التدريس واختيار هيئة التدريس فيها، وعدم وضع قيود على ما تدرسه الجامعة وما يقوله أو ينشره أو يعبر عنه أساتذتها من الأفكار والآراء العلمية وغير العلمية. ويعني الاستقلالية الأكاديمية للجامعة حيادها الفكري وتجردها وعدم انحيازها.والحرية الأكاديمية هي حصيلة وثمرت الاستقلال المالي والإداري للمؤسسة الجامعية. وتجدر الإشارة إلى اننا لا نزال نستخدم كلمة (أكاديمي) و(الأكاديمية) بدون أن نمتلك فهماً واضحاً ودقيقاً لمعناها، بل جرت العادة على عدم التفريق بين الأكاديمي والجامعي، أو بين النقابة والمهنة أو بين التعليم العام والتعليم الأكاديمي.

في حين أن المفهوم قد تطور وتحور منذ أفلاطون ليكتسب اليوم معنى واضح ومحدد. هو معنى التمييز المهني للمشتغلين في حقل المعرفة والعلم والتفكير المنهجي النظامي ، فالأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة وإنتاجها بإتباع مناهج وأدوات علمية محددة، بهدف الكشف عن الحقائق وبحث الأشياء والمشكلات بموضوعية وتجرد وحيادية تامة.

والأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية،دور الأستاذ الجامعي دور الباحث العلمي، دور المثقف المتخصص، دور المشرف العلمي(أو حارس البوابة)بما تشتمل عليه تلك الأدوار من قيم مهنية أكاديمية وأخلاقية منها: الرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد …الخ. وقد كانت جامعة باريس في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على سبيل المثال،هي التي تضع قواعد وتعليمات تنظم قبول الطلبة وطردهم وقواعد وتعليمات تحدد سلوك أعضاء هيئة التدريس؛حقوقهم وواجباتهم وتحدد المواد التدريسية وتسلسلها، وبكلمة كانت الجامعة مؤسسة للتعليم العالي تحكم نفسها بنفسها ولا تخضع لأي ضغوط أو قوى من خارجها.

إن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة. وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف � بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها. ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره. وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله”أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع .وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار.هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها. لكن كيف يمكن للجامعة أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة؟

والخلاصة هي أن المجتمعات التي تضيق فيها حدود الحرية ( حرية الضمير والفكر والتعبير والاعتقاد ) يندر أن تجد فيها أشخاص طبيعيين يتصرفون على طبيعتهم ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجايهم الحقيقية ، بل تسود ثقافة وقيم ازدواجية الشخصية بين الظاهر والباطن وتزدهر قيم التكلف والتزلف والنفاق والمرآءة واللف والدوران والكذب والاحقاد والضغائن والخيانات والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم والتفاهم والفصام والخصام والتطرف والعنف والابتذال وسرعة التقلب من حال الى حال و الجمع بين المتناقضات دون الشعور بالتناقض وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم، واختلاط المعايير وغياب الحدود بين الغث والسمين بين الجيد والردئ ويمكنكم تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياتكم وتجاربكم الشخصية . اليكم الرابط:

https://youtu.be/JQPVNkRn9pM?si=kQ6dgctZ1ZRQxtHL