الاسماء والوجوه من أهم مكونات سيرتنا الشخصية.
في طفولك ماقبل المدرسة، لا أحد مثل "أخوالي حميد وفائد" فتحا عيوني على المختلف من انماط الحياة في القرى.
خالي الاول، عائلي حتى مع غير أهله، دافئ في اتصاله بالناس، يحب مشاركة اللحظات مع الناس، وبالطبع اولها عائلته.
اغترب مبكرا، وعاد هذا الأنيق بأول سيارة "مازدا اتوماتيك"، ماكانت قريتنا تعرف كثيرا عن السيارات أصلا، ولان سيارته هذه لن تصل القرية بسبب طرقها الجبلية، وبطريقة لم أعد تذكرها، نقل كثير من أهله وأصحابه الى المدينة ليريهم سيارته الجديدة.
ومعه ومع سياراته تاليا عرفت تعز المدينة طفلا، ثم كبرت معه ومع سياراته أيضا.
حفظك الله وامد في عمرك ياخال، كان اول اخوانه مسئولية، تحمل مع أمي، اخته الكبيرة مسئولية العائلة بعد وفاة جدي "حسن"، المتصوف الأنيق الذي اتخايل ملامحه من حديث أمي عنه، لأنه توفى قبل أن يتزوج أبي وأمي.
لطالما رأيت وجهه نسخة من وجه "عبدالله" جدي الاخر، شقيقه، الذي علمني طفلا.. ومعه حفظت "سفينة النجا" وتعرفت على "متن الزبد" و "الاجرومية" في لحظة من الزمن لم يكن لنا في القرى وسائل اتصال.. بالكاد وصلت الراديو.
وذات يوم، وصلت القرية سيارة جديدة أخرى، وبيومها كان الجديد جديدا بقراطيسه كما نقول، لكن هذه المرة تويوتا شاص موديل مطلع الثمانينات.
لايشعر بمعاني هذه اللحظات، من ولد محاطا بشوارع مزدحمة سيارات من كل نوع، لايعرف ابنائنا أن السيارات كانت اول وسائل التحديث في حياتنا بعد سنوات من اغلاق الامامة لليمن من كل منتج حديث.
واليكم حكاية الشاص:
رتب "حميد وفائد" زيارة لشقيقهما الاكبر "عبدالقوي" الى السعودية حيث يعملا، زار عبدالقوي المملكة حاجا ومعتمرا وعاد بتلك السيارة.
اوقفها في مكان ظاهر، حيث لايمكن للناس الا ان تسأل: سيارة من هذه؟
وكان اعلانا بان سواقا للمنطقة بدأ مشواره، الذي لم ينافسه بعد ذلك أحد.
على النقيض من "حميد" الحريص والمتأمل والهادئ والذي يتعامل مع سيارته كما لو كانت قطعة ذهبية لو بيده لصنع لها مكانا داخل بيته، كان "عبدالقوي" مغامرا جريئا يتعامل مع سيارته كما لو أنها "بندقية صياد"..
والاثنان معا، لم يسجلا في تاريخ سواقتهما حادثا، لكأنما سواقتهما رسم في جدار.
لايمكن لحميد ان يغامر بسيارته لا سرعة عالية ولا يسير في طرقات عسيرة، فيما كأنك تسمع سيارة "عبدالقوي" منتشية وهو يغامر بها في كل طريق، دون أن يسمح بان يمسها سوء.
ومع كل طريق جديد يتم شقه في جبال "صبر" كان "عبدالقوي" هو اول من يغامر فيه بسيارته او بسيارات النقل الكبيرة.
اتمنى لحظتي هذه ان اكتب سير السيارات في قرانا، لاستحضر "عبدالله هزاع وجميل عبدالحميد، واحمد ثابت، ومحمد عبدالكريم، وعبدالله ناجي عمر".. وغيرهم عدد قليل من الذين نقلوا قرانا الى الحياة المعاصرة على متن سياراتهم.. حيث ضبطنا يومياتنا هلى ايقاع دورة مفاتيح سياراتهم كل صباح.
لكن سيطول الحديث، وماكان قصدي هنا الا تذكر "عبدالقوي" خالي الاكبر.. الشجاع الكريم الذي فرض حضوره بعد يتم وفقر وحاجة.
يالجمال ضحكتك ياخال، كانت وحدها تحكي اختلافه عن شقيقيه: حميد وفائد، له ضحكة تملئ المكان بلا ضجيج.
يمد رجليه متكئا، ويغزل "تخزينته" منتقدا من يسارع في شرب الماء مع القات، قال: ليش تخزن اذا ماتخلي جسمك يمتص ماء القات.
ومع "القات" حكايته الاكبر، كريما ان قالوا عنه "سيمنحك عينه ان كنت بحاجة لها حتى لو كنت عدوه" ماكذبوا بأي حرف، لكنه لن يعطيك حتى ملعقة بالعناد والعجرفة، سيقف مع كل من يلجأ اليه ايا كان وضعه وقضيته.
وكم كان أبي يقول: عبدالقوي هذا جبل، حين يشتبك مع أهل القرى كان أبي يقف معه اولا، لكن "علي عبده" ماعمره وقف مجملا مع احد، يقف معك ضد الاخرين في تجنيهم ثم وسط موقفه يقول لك: لكن انت غلطان في هذه وهذه وهذه.
رحمهم الله جميعا..
حين توفى، لم استطع نعيه.. وكل مرة احلم بضحكته في المنام، يكرر لي جملته الدائمة: تشتي شي يانسب كما لاتظن ظروف الزمن أكبر من خالك".
مرات كثيرة كان يقولها لي، وفي بلادنا "النسب" هو ابن الاخت وليس الصهير كما في مناطق أخرى.
الان تتقافز الكلمات والافكار بين قلبي وقلمي حولك ياخال.
سأتوقف هنا، وان بقي في العمر بقية سأكتب عنك مجددا، والا فآمالي كبيرة ان تكون اخرتنا حياة اكمل وأفضل مع من نحب.