آخر تحديث :الثلاثاء-01 أبريل 2025-09:42م

‏فرحةُ الجاهلِ… حينَ كانَ العيدُ وطنًا كبيرًا

الإثنين - 31 مارس 2025 - الساعة 02:54 ص

سمير اليوسفي
بقلم: سمير اليوسفي
- ارشيف الكاتب


كانَ العيدُ، يومًا ما، أكبرَ من مجردِ مناسبةٍ.

كانَ موعدًا مقدّسًا للفرحِ، طقسًا شعبيًّا تتوضأُ به الأرواحُ، وتغتسلُ فيه القلوبُ.


كنّا نلبسُ الجديدَ، لكننا لم نكنْ نحتاجُه لنفرحَ.

كنّا نضحكُ من القلبِ، دون بهرجاتٍ مستوردة، أو مهرجاناتٍ مصنوعة، أو لقطاتٍ دعائيةٍ.

كنّا ننتظرُ الفجرَ لا لنُفطرَ فحسبَ، بل لنُولدَ من جديدٍ،

وكانت الطفولةُ تُدقُّ على أبوابِ القريةِ بطبلِ الخادمِ،

فتنهضُ البيوتُ على وقعِ البهجةِ،

وتُضيءُ وجوهُ الأطفالِ، كأنّ الشمسَ سكنت أعينَهم.


تلكَ كانت أيامًا لا تُشبهُنا الآنَ، ولا نحنُ نُشبهُها.

أتذكّرُ “الشجورَ” الذي كانت تُعدّه أمهاتُنا،

والخبزَ، المُشبَعَ بالسمنِ البلديِّ.

كان كلُّ شيءٍ بسيطًا، لكنه مُمتلئٌ بالحياةِ —

بالرِّضا، بالدِّفءِ، بالانتماءِ.


وكانت لَمّةُ الأهلِ جزءًا لا يتجزّأُ من معنى العيدِ،

لا تُنسِّقُها المجموعاتُ الافتراضيّةُ، ولا تباركُها “الإيموجيّاتُ”،

بل تُنظِّمُها قلوبٌ تعرفُ طريقَها لبعضِها،

وأيدٍ تُصافِحُ لا تُرسِلُ، وأصواتٌ تُنادي لا تُكتبُ.

كنّا نأكلُ من صحنٍ واحدٍ، ونضحكُ بقلوبٍ واحدةٍ،

ولا نحتاجُ شبكةً ذكيّةً لنشعرَ أنَّ الدنيا بخيرٍ،

كنّا نعيشُ العيدَ حيًّا، لا افتراضيًّا بارداً.


في ذلكَ الزمنِ، كان العيدُ يُشبهُ الوطنَ:

فقيرًا، لكنه نبيلٌ؛ متواضعًا، لكنه حقيقيٌّ.

وكنّا نحنُ، برغمِ الجهلِ بمعنى السياسةِ،

أكثرَ نقاءً من كلِّ الذينَ يتحدثونَ باسمِ الوطنِ اليومَ.


وكانت حفلاتُ الأعراسِ تعقدُ موعدَها مع الأعيادِ،

كأنَّ العيدَ يُضيفُ للفرحِ عيدًا آخر.

فتُقرَعُ الطبولُ، وتُوزَّعُ الحلوى، وتُعلَنُ الزفّاتُ من قريةٍ لأخرى.

لا دعواتُ إلكترونيّةٌ، ولا صالاتُ فخمةٌ؛

فقط فِناءُ البيتِ، وبنادقُ تزغردُ فرحًا، وقلوبٌ تعرفُ كيفَ تحتفلُ.

العيدُ كان مسرحًا للفرحِ العامِّ، لا مناسبةً فرديّةً تُستهلَكُ على عَجَلٍ.


ثم تغيّرَ كلُّ شيءٍ.

تحوّلت رقصةُ البرعِ من بهجةٍ إلى شعارٍ،

والألعابُ من الخشبِ والطينِ، إلى البلاستيكِ والإعلاناتِ،

ثم… إلى ألغامٍ.


نعم، في بعضِ مدنِ اليمنِ، العيدُ يأتي محمولًا على جثّةٍ.

هناك، حيثُ يحكمُ الموتُ باسمِ اللهِ،

تُزرعُ الألغامُ على هيئةِ ألعابٍ، وتُقدَّمُ الهدايا للأطفالِ ملفوفةً بفتيلٍ.

هكذا، يُصبحُ العيدُ فخًّا، والطفولةُ ميدانًا للتجريبِ،

وتنقلبُ المناسبةُ من عيدٍ للبهجةِ إلى موسمٍ للحِدادِ.


أيُّ لعنةٍ هذهِ التي تُهدى فيها الدُّمى لتخفي الموتَ في جوفِها؟

ويُطفَأُ في الأطفالِ نورُ البراءةِ، بدلًا من أن يُحتضَنَ؟

أيُّ وطنٍ هذا الذي يصمتُ حينَ تنفجرُ الألعابُ في أيدي أطفالِهِ؟

أيُّ تاريخٍ سنكتبه حينَ يكبرُ هؤلاء؟

وماذا سنقولُ لهم… إن سألونا عن العيدِ؟


ربما لم تتغيّرِ الأعيادُ،

ربما نحنُ من كبُرنا، وابتلعنا مرارةَ الحياةِ بصمتٍ،

حتى فقدنا القدرةَ على الفرحِ،

وصارت وجوهُنا كالمرايا المغبّرة، لا تعكسُ إلا الهمَّ والتعبَ.


في بلادِنا، نُطلقُ على الطفلِ لقبَ “الجاهلِ”،

لا لأنه لا يعلمُ، بل لأنه لم يتلوّثْ بعدُ بمعرفةِ الألمِ.

الجهّالُ، في ثقافتِنا، هم من لا يعرفونَ الحقدَ، ولا الخوفَ، ولا السياسةَ.

ولذا… كانوا هم الوحيدينَ الذينَ يعرفونَ كيفَ يفرحونَ.


ولعلَّ الغزاليَّ كان يرى هذا حينَ قالَ في آخرِ الطريقِ:

“اللهم ارزقني إيمانًا كإيمانِ العجائزِ.”

وإنِّي لأزيدُ:

اللهم ارزقنا فرحًا كفرحِ الجُهّال، قبلَ أن نعرفَ الخرائطَ، والفتاوى، ونقاطَ التفتيشِ.


فيا كلَّ أبٍ وأمٍّ،

انظروا في عيونِ أطفالِكم صباحَ العيدِ،

فإن وجدتم فيها بقايا بهجةٍ، فعضُّوا عليها بالنواجذِ؛

وإن لم تجدوها… فابكوا على جيلٍ تُصادَرُ فرحتُه،

وعلى وطنٍ يُحاكِمُ أطفالَهُ بتهمةِ الحياةِ.