"الذكريات صدى السنين الحاكي، قد تغسلها أمواج الأحداث، ولكنها تظل في صدفات ساحل الحياة كامنة في الوجدان، معرضة للمد التاريخي، ليست هي بتاريخ، ولكنها تكشف بين سطورها عن الكثير من خبايا النفس ومن حقائق التاريخ".
هكذا يفتتح المستشار حسين الحبيشي فصول تذكراته، في سيرته الذاتية التي خطه قلمه، بشيء من رزانة الحكيم، وتأملات المجرب. مذكراته التي جمعت بين الفكر والتاريخ والسياسة والفلسفة على نحو نادر من بين كل المذكرات.
المستشار حسين علي مهدي الحبيشي من مواليد حي الفيحاء بالشيخ عثمان، محافظة عدن في العام 1928م، انتقل جده "مهدي" من العدين في إب إلى عدن، بعد أن انتقل الأجداد الأوائل من خولان إلى إب. وهذه هي حياة اليمني في الواقع، هجرة وترحال، بحثا عن الرزق والاستقرار.
ورث والدُه مهنة التجارة عن والده مع الأتراك العثمانيين فيما بين عدن ولحج وتعز وإب، تاجرا للمواشي والدواجن والبيض، ثم تاجر جملة في مجال الأسماك، وقد ساعد والده صغيرا في عمله هذا، مع تشبثه بالتعليم، رغم محاولة الوالد استمالته للعمل، أما والدته فقد شجعته على التعليم كثيرا، وساعدته بما تيسر لها من المبالغ الزهيدة لشراء ما يحتاجه من دفاتر وأقلام. وكما يشير في مذكراته فقد كان يعتقد في طفولته بأن التعليم هو الذي سينقذه من الفقر والحاجة.
نشأ في هذا الحي كأي طفل في تلك الفترة حياة بسيطة بما تيسر من متطلبات الحياة الشحيحة. عشق منظر البحر من طفولته الأولى صغيرا، فعشق معالم البحار وعلومَها، وحضر مؤتمراتها بعد ذلك كبيرًا، حتى أصبح خبيرا بشؤون البحار، وفيه ألف موسوعته العلمية عن البحر الأحمر، والتي تعتبر مرجعية أكاديمية للباحثين اليوم.
في عدن تفتح وعيه صغيرا أيضا على تلك الفسيفساء المتنوعة من مختلف الأعراق والأجناس والأمم المتواجدة من بريطانيين وهنود وأتراك وأوروبيين وعرب، وغيرهم، وعلى مختلف الديانات أيضا، مسلمين، مسيحيين، يهود، هندوس، فرس، بمعابدهم وكنائسهم ومساجدهم، وعلى مختلف المكتبات الخاصة والعامة المتنوعة داخل عدن، أكسبه هذا التنوع ثقافة واسعة وتقبلا بالآخر أي كان.
التحق صغيرا بـ"المعلامة" الكتاب الملحق بجامع العيدروس في الشيخ عثمان، وكانت الكتابة على ألواح الخشب، بأقلام اليراع الخشبية.
في هذه المعلامة شارفَ على حفظ المصحف كاملا، إلا أن أباه أخرجه منها قبل أن يكمل الحفظ، لكونه غير قادر على تحمل نفقات حفلة التخرج التي كانت سائدة آنذاك، والمتمثلة في زفة كزفة العريس في بعض أنحاء المدينة، مرفقة بوليمة غداء، ويا للفرحة التي لم تتم، فألحقه بالمدرسة الابتدائية ذي التعليم الحديث، لينتقل إلى المدرسة الإعدادية الإرسالية، وهي مدرسة مسيحية تبشيريّة لم يتمسيح فيها غير طالب واحد فقط..!
كانت مجانية، وتؤهل الطلبة للتعليم الثانوي، وفيها تعلم اللغة الإنجليزية وأجادها، ليكمل تعليمه الثانوي في ثانوية كريتر الحديثة، على يد معلمين من جنسياتٍ متعددة، عربية وغير عربية، وأغلب مناهجها باللغة الإنجليزية؛ أما مادة التاريخ المقررة فهي تاريخ الإمبراطورية البريطانية، الأمر الذي استفزه لأن يقرأ في التاريخ العربي والإسلامي، كما توسعت مداركه على قراءة الأدب الإنجليزي من رواية ومسرح وقصة، إضافة إلى ما أفاده من ثقافة النوادي الثقافية والأدبية العدنية التي تأسست خلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات وثقافة الصحف والمجلات التي تكاثرت وانتشرت آنذاك.
غادر اليمن إلى مصر مطلع العام 1948م، مع أربعة من زملائه تم ضمهم لاحقا إلى بعثة الأربعين الشهيرة، وفي مدرسة طنطا أكمل الثانوية العامة بعد سنة وبضعة أشهر، تعلم فيها الموسيقى، وعشق الرياضة، ثم انتقل إلى مدينة حلوان، والتقى الكثير من النخبة اليمنية والمصرية هناك، ثم إلى القاهرة، للدراسة الجامعية في كلية الحقوق، وكان أول يمني من شمال الوطن يتخرج من هذه الكلية، وفي القاهرة التقى أيضا وجوها يمنية جديدة، أبرزهم الزبيري ونعمان، وفي هذه الفترة بدأ يقرأ لعمالقة الفكر والثقافة والأدب الكبار آنذاك: زكي نجيب محمود ومحمد مندور وعبدالرحمن بدوي وسلامة موسى وطه حسين والعقاد وبنت الشاطئ، وغيرهم، هذا إضافة إلى انفتاحه على صحف ومجلات القاهرة ودور السينما والمسارح التي أضافت له الكثير.
وبحسب قوله: "كانت مصر حينذاك مدرسة لنا في شتى أنحاء الحياة الفكرية".
في منتصف الخمسينيات غادر القاهرة إلى لندن لمواصلة الدراسات العليا، في الكلية الملكية، في مجال القانون الدولي، وفيها حصل على الدبلوم العالي، وهناك اتسع فضاء عقله، بإضافة الثقافة الأوروبية إلى ما رآه في القاهرة، حيث يقول: "الكتب والمجلات والمطبوعات في بريطانيا لا حصر لها، ربما حسب تقديرنا عشرة أضعاف ما في عدن، وثلاثة أضعاف ما في مصر، وتلك كانت فرصتي الثقافية لأعبّ منها حتى الثمالة".
بعد حصوله على الدبلوم العالي، وبعد خلاف جرى بينه وبين زميله حسن الترابي من جهة، وأحد أساتذة الكلية من جهة أخرى اضطر إلى سحب ملفه إلى كلية الاقتصاد والعلوم الإنسانية، مواصلا دراسة القانون الدولي الاقتصادي، وفي تلك الكلية كان يقضي معظم وقته في مكتبتها العامرة، وعلى هامش الدراسة والنشاط الثقافي اضطر للعمل في المفوضية اليمنية في لندن، براتب زهيد، لتغطية متطلبات نفقاته.
وكما قرأ في مصر لطه حسين والعقاد وخالد محمد خالد وسلامة موسى قرأ في لندن لعمالة الفكر الأوروبي: برناردشو، بريخت، لامارتاين، زولا، مكسيم جوركي، وغيرهم.
خلال هذه الفترة في بريطانيا تزوج من فتاةٍ بريطانية اسمها مارجريت، الطالبة في المعهد العالي للدراما، والمحاسبة المالية، المسيحية التي أسلمت عقب كتابة عقد الزواج. عُرفت لاحقا: بأم طارق، وكانت شغوفة بالقراءة مثله، وقد قال عن ذلك: "كانت متعتنا الكبرى شراء الكتب، أنا أقرأها وهي تلتهمها".
في العام 1961م عاد ذلك الشاب من لندن مع زوجته وطفلة طارق، وكان أول عمل يقوم به هو عمادته لكلية بلقيس، باقتراح من الأستاذ أحمد محمد نعمان، وافتتحت الكلية عامها الدراسي الأول في 16 أكتوبر 1961م، ضمت كوكبة من خيرة المدرسين من جنسيات يمنية وغير يمنية، بعد أن تم اعتماد المنهج المصري لها، مع لمسة يمنية محلية.
وكان من المعلمين في تلك المدرسة أسماء كبيرة، مثل: عبدالعزيز عبدالغني، وعبدالله باذيب، وأحمد المروني، وقاسم غالب، وعبدالفتاح إسماعيل وسلطان عمر، ومحمد مسواط، وغيرهم.
تردد على صنعاء أكثر من مرة، وساهم في صياغة الدساتير اليمنية المتعددة منذ الستينيات، كما عمل مستشارا قانونيا لرئيس الجمهورية، ونائب رئيس الوزراء للشئون الخارجية والاقتصادية، وعضو مجلس النواب، ورئيس المكتب الفني للمجلس، ورئيس لجنة الحدود البحرية.
رحم الله المناضل المثقف الكبير المستشار حسين الحبيشي الذي انتقل إلى ربه في العاصمة البريطانية لندن في أكتوبر من العام 2011م، وقد حفر اسمه خالدا في سفر التاريخ.
د.ثابت الأحمدي