انتهت القمة العربية والإسلامية “غير العادية” ببيانٍ ختاميٍّ عكس مجموعة من القضايا والإشكالات المعتادة، وأظهر كالعادة الافتقار إلى التخطيط الإستراتيجي لعمل جماعيٍّ يتلوى بين كُثبانٍ عاليةٍ من المتناقضات.
فعلى مستوى الشكل/الصياغة، وقع البيان في تكرارٍ مفرطٍ للعبارات، وبصورةٍ قل أن تجد لها نظيراً في مخرجات على هذا المستوى من القمم. قد يرى المُراقب أن المواقف المتباينة للمشاركين ورهاناتهم المختلفة -بجانب التنديد بالجرائم الإسرائيلية والتأكيد على حق الفلسطينيين بدولة مستقلة ذات سيادة- جعلت من إدرار البيان لفقرات مكررة أمراً لا مفر منه، فكل مشارك له فقرته التي لا ينبغي التنازل عن حرفٍ منها. من وجهة نظر واقعٍ تتقاسم خطوط طوله وعرضه مشاريعٌ فاعلةٌ ومتوثبةٌ، ومُخططات لا تنام، يبدو التكرار عبارة عن محاولة جريئة بفعلٍ خجولٍ لا يبدو أنه سيتجاوز ناصية الكلام.
على مستوى المضمون، لم يأت البيان بجديدٍ أو بتوجهٍ / بإستراتيجية عملية للتعامل مع واقٍع شديد التعقيد والانحدار باستثناء التأكيد على مواقفٍ يجري التأكيد عليها على مدار اليوم. والسؤال الذي يطرح نفسه، وفي سياق التحديات الكبيرة التي فرضت نفسها بعد 7 أكتوبر: هل كان الأمر بحاجةٍ إلى قمةٍ لتتمخض في النهاية عن مثل هذه المخرجات؟
لقد فرضت عملية 7 أكتوبر معادلات جديدة تماماً، وغيّرت كل الشروط والصيغ التي كانت القضية الفلسطينية تَجِد فيها مرتكزات قوية وغير قابلة للجدل للضغط على المجتمع الدولي بضرورة وقف سياسات الاحتلال الإسرائيلي والاعتراف بالحق الفلسطيني، والتي ساهمت في الماضي بانسحابه من غزة وجنوب لبنان. حوّلت حماس وحزب الله -المُصنّفان حركتين إرهابيتين- فلسطين ولبنان إلى أطراف معتدية، وفي ظل سياق دولي صُمِمت منظوماته الشاملة (السياسية والقانونية والاقتصادية) على حماية مكتسبات المنتصرين في الحرب العالمية الثانية في المقام الأول، كان لإسرائيل الحق الكامل في الدفاع عن نفسها ضد “العمليات الإرهابية”، بكل السُبل، وبكل السُبل يتم دعمها. إزاء هذه المعطيات الجديدة، وفي سياق الوضع الدولي الخانق من جهة، ومن جهة أخرى الاحتقانات والتحشيد الشعبوي عالي الوتيرة، بذلت الرباعية العربية (الإمارات ومصر والأردن والسعودية) جهوداً كبيرة للحفاظ على مرتكزات القضية الفلسطينية: عدم تشريع الاعتداءات بقرارات دولية، التنديد باستهداف المدنيين، حشد دول العالم للاعتراف بدولة فلسطين، منع تهجير أهالي غزة عن طريق تقديم جسور من المساعدات لم تنقطع للحظة.
لم تؤد كل الجهود والمبادرات إلى وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، ومنها القمة العربية الإسلامية الطارئة التي عُقِدت في العام الماضي، بل على العكس، توسَّعت هذه العمليات باتجاه لبنان. من زاوية الواقعية السياسية البحتة، تبدو الإمكانية الوحيدة المتوفرة لدى هذه القمة هي إقناع الدول المشاركة فيها والتي لها تأثير على حماس وحزب الله (كإيران وقطر وتركيا) بالضغط الجاد للوصول إلى اتفاق يقضي بحل هذه الحركات، وتفكيك منظوماتها العسكرية، وتسليم سلاحها للسلطة/الجيش الوطني، وبسط سلطة الدولة على كامل المناطق وفي أسرع وقتٍ ممكن، لسد الذريعة التي تتكئ عليها إسرائيل، ولوقف الدمار والخراب حتى لا يصلا إلى درجة يصبُح فيها من العسير التعامل معهما، علّ ذلك يُوفر فرصة مواتية قريبة لاستعادة مسار الجهود في سبيل الانتصار للحق الفلسطيني المشروع. وما هو غير مُتوقع، وعكس ما يجب أن يكون، كان حضور هذه الدول -الداعمة لما يُسمّى بـ“محور المقاومة”- بصورة احتفالية/احتفائية، وكأن أمراً من ذلك لا يعنيها باستثناء الاستمرار في المزايدة بخطابات شعبوية غير مسؤولة. في نهاية المطاف، وعندما لن تكون هناك نتائج ملموسة على أرض الواقع، وفي ظل تفاقم الأحداث، ستكون لمثل هذه التجمعات نتائج عكسية تماما، خصوصاً على دول الرباعية، فقد باتت في فوهة مدفع غليانٍ شعبوي وشعبي راكم تجارب سلبية للغاية عن جدوى مثل هذه القمم الرنانة، وهي المسؤولة الوحيدة -من وجهة نظر الشارع، ولاعتبارات كثيرة- عن إحداث اختراق إيجابي، فالآخرون لا يُنتظر منهم سوى الشجب والتنديد.
احتضنت السعودية التي تُحضِّر نفسها للتعامل مع الحقبة الترامبية الجديدة وبصورة تختلف كلياً عن تلك التي سادت في الحقبة الأولى بعدما جرت مياه كثيرة خلال هذه القمة، ويرى البعض أن القمة بحد ذاتها، وبغض النظر عن المخرجات/النتائج، ستبعث برسالة ما عن الثِقل الذي يمكن أن تُشكِّله التجمعات العربية والإسلامية في الدفاع عن دولها/قضاياها. في واقعٍ تَحُوطُه صراعات على هذا النحو من الحدة والتكالب، وفي ظل سياق دولي شديد التموّج، ومنطقة تسبح على بُحيرة من ميليشيات الخراب، والافتقار في نفس الوقت إلى رؤية إستراتيجية شاملة، ومشاريع ذكيّة وواقعية تَحَرُس سلامة الأهداف المشتركة المأمولة، يبدو الرهان على اجتراح تحالفات متينة ووازنة من خلال مبادرات يجري سلقها على هذا النحو المستعجل واهنا للغاية، ولن يتجاوز تأثيره قاعة الاجتماع.
إن المسؤولية الأولى على الدول العربية والإسلامية تتطلب العمل الجاد والمثمر لابتكار آلية عملية وجريئة تُساعد الدول المُستباحة على استعادة سلطة الدولة الوطنية، واقتلاع كل أنواع وأشكال ميليشيات الخراب، وتجفيف منابع دعمها، وهو ما يتطلب فهما عميقاً، وجهوداً خارقة على المستويين الفكري والعملي. وهذا لن يتم إلا من خلال إحداث قطيعة تامة مع الآليات والوسائل القديمة التي تكتفي بالجانب (القممي) الاستعراضي. إن محاولة احتضان التيارات والحركات التي عملت على تقويض أوطانها، وإدماجها لم تفد قط. فبعد أن تنفذ الهبات والعطايا على حضور وتوقيع الاتفاقيات والتعهدات، إما أن تتصارع فيما بينها أو تبحث عن داعم آخر له يوظفها في سبيل تحقيق أهدافه. إن عملية 7 أكتوبر التي فتحت باب الخراب الكبير على المنطقة يجب ألا تمرّ مرور الكرام، إذ أن التاريخ يُعلمنا، أنه عندما يُكرر نفسه، سنكون بصدد دوامة عسيرة من المهالك والمهازل.
نقلا عن صحيفة العرب اللندنية