(كلما ضاقت فرص العيش الكريم كلما اتسعت فرص الموت الذميم) ق.م
وآنا أتأمل في علاقة السلوك بالاعتقاد لفت نظر مواقف الشعوب من ثيمة الموت بوصفه الحقيقة المطلقة التي يستحيل إنكارها إذ لاحظت اختلاف الثقافات والحضارات في تأويل الموت والتعامل معه في السياقات المختلفة. ورغم إن الحياة هي اثمن ما يمتلكه الكائن الحي بما في ذلك الإنسان ذاته إلا التضحية بها تعد من المواقف والقيم المقدرة تقديرا عاليا عند معظم الشعوب منذ اقدم العصور وهي تتطلب ارادة قوية وشجاعة ذاتية وإقدام نبيل كما أنشد المتنبي:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وتـأتـي على قدر الكرام المكارم
وتكبر في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
لكن هناك فرق بين شجاعة التضحية بالحياة من أجل الحياة الكريمة ذاتها في هذه الدنيا وبين شجاعة التضحية بالحياة من أجل الفوز بالمكانة الرفيعة والملذات المادية الوسيعة في عالم الغيب والشهادة بالآخرة حيث الجنة الفسيحة.
نعم الناس في كل زمان ومكان بحاجة إلى من يتصدى للدفاع عن حياتهم ودينهم وحماهم وسلامهم وامنهم ومالهم وعوضهم وكل شيء يخصهم إلى حد التضحية بالحياة ذاتها وبعد المعنى جاء الحديث النبوي ( من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون أرضه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد..) وذلك كان هو حال الناس قبل نشوء الدولة الحديثة واجهزة عدالتها العامة التي تحمي الناس من بعضهم وتأخذ بحقهم وتمنحهم الفرصة الكاملة لتنمية حياتهم الشخصية والعيش بحرية بحسب إسبينوزا الذي أكد" ليس الغرض الأقصى من الدولة أن تسيطر على الأفراد، ولا أن تكمِّمهم بالمخاوف، ولكن الغاية منها أن تُحرِّر كلَّ إنسانٍ من الخوف، حتى يستطيع أن يعيش ويعمل في أمنٍ تامٍ دون أن يضر نفسه أو يؤذي جاره.
إنّي أكرِّر القول بأنّ غاية الدولة ليست أن تحوِّل الكائنات العاقلة إلى حيواناتٍ متوحشةٍ أو آلاتٍ، بل إنّ الغرض منها هو أن تُمكِّن أجسامهم وعقولهم من العمل في أمنٍ، غايتها أن تهيِّئ للنّاس عيشًا يستمتعون فيه بعقولٍ حرةٍ، حتى لا يُنفقوا جهدهم في الكراهية والغضب والكيد والإساءة لبعضهم البعض. إنّ غاية الدولة الحقيقية هي أن تكفل الحريّة" وهذا هو ما يسمى التضامن الفطري التضامن ليس فكرة ولا قيمة أخلاقية ولا ثقافة مدنية فحسب بل هو جوهر وأصل كل حياة اجتماعية مجتمعية من مجتمع النمل والنحل والقرود الى مجتمع الانسان العاقل ، ولا وجود لأي مجتمع بدون قيم تضامنية من أي نوع من الأنواع، وليس هناك أي فرق في حقيقته الحاجة التضامنية الفعلية سوى كان ذلك في مملكة الحيوان أو عالم الانسان؛ فقط الفروق تكون بنوعية التضامن؛ أما أن يكون تضامنا فطريا غريزيا كما هو الحال في مملكة النحل والنمل والقرود والغربان ما شابهها وأما يكون تضامنا تقليديا ميكانيكيا بداعي العصبية والحمية وروابط الدم والقرابة والعشيرة والقبيلة والمذهب والطائفة والحزبية وما شابها في من صيغ التضامن التقليدية في حياة الجماعات البدائية التي يكون الانتماء اليها بلا إرادة حرة ولا اختيار وهذا هو نمط التضامن الميكانيكي العمودي حسب دور كهايم ، وأما يكون تضامنا مدنيا عضويا كما هو حال تضامن المجتمعات الحديثية المؤطرة في كيانات وهيئات مؤسسية رسمية ومدنية قانونية، إذ يكون التضامن فيها ذات طبيعة أفقية يعتمد على الحرية الفردية والاختيار الفردي النابع من الذات لا على المرجعيات والهويات السابقة لها ، وباختصار يظل التضامن ضرورة حياتية وصيغة ممكنة لديمومة الحياة المشتركة للكائنات الحية والناس في كل زمان ومكان وهكذا ظل النمل مجتمعا تضامنيا بينما الصراصير لا تتضامن لان كل صرصور يعيش وحده. والسؤال هنا هو كيف جرى تحوير وتأمل تلك الفطرة التضامنية الطبيعية والمدنية إلى قوة تدميرية وسلوك خطر ضد الحياة ذاتها؟ حدثت تلك النقلة النوعية في هندسة الحياة والموت مع نشوء الحضارة بوصفها قوة التاريخ التنظيمية( سياسة وتشريعا وأخلاقا) حيث عمدت السلطات الحاكمة في كل مكان وزمان على رفع مكانة التضحية بالحياة إلى مرتبة الشهادة والاستشهاد وذلك بطرق وصيغ مختلفة ومتعددة بحسب السياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة إذ هناك من يرى " إن الاحتفاء بالموت لا يشمل الثقافة العربية وحدها، لكن هناك بعض الطقوس والكرنفالات في ثقافات شتى تشير إلى تقديس الوفاة، لكن تظل المنطقة العربية الأكثر زخراً بمواقف ومعتقدات تعتبر الموت انتصاراً وغاية كبرى، سواء لأسباب دينية أو حتى مجتمعية بحتة، بينما تنهزم الحياة بتفاصيلها وبهجتها أمام أي نقاش يشكك في هذا المعتقد .. حين كان من المفترض ذرف الدموع بغزارة كان الجميع في الواقع يرقصون وهم يرفعون النعش ويهللون ويغنون، وبعضهم يصفق ويطلق الزغاريد في مشهد شديد التناقض بين مفرداته" ( ينظر، حميدة أبو هيلمة، حين تتحرر الخطوات في النور... سيرة ولع بالموت، 16 يونيو 2023)
لقد شهدت بنفسي احتفاء الشباب بالموت بدوافع ايديولوجية مختلفة جدا( دينية وعلمانية وعشائرية ووطنية وقومية ..الخ ) فكيف جرى تصوير الشهادة والاستشهاد في الثقافة العربية الإسلامية المعاصر؟ تنطلق فرضيتنا من إن مصادر أرزاق الأفراد والجماعات هي منابع أيديولوجياتهم في الحياة والموت من العشيرة إلى العقيدة والأيديولوجية تعني أن الناس يفكرون من أقدامهم ، فإن أردت أن تفهم أيديولوجية جماعة من الجماعات ، فانظر الى الأرض حيث يضع افراد هذه الجماعة أقدامهم ، وكل جماعة قوى ومصالح تتلفح بالسماء وتستدعي المقدس لتأكيد مشروعيتها وتبرير ذاتها ، وحيثما تختلج ( نحن) و (هم) تكون أيديولوجيا ، وحينما توجد أيديولوجيا توجد مصالح وغايات ومنافع يمكن رؤيتها وتعيينها بوضوح ، في عالم الممارسة الاجتماعية الحية حتى وأن أدعت هذه الجماعة أو تلك بانها أنصار الله أو حزب الله أوانصار الشريعة أو أخوان الله... الخ وأكدت أن كل ما تفعله هو خالص مخلص لوجه الله العلي القدير الرحمن الرحيم ، وما أسهل التأويل وما أسرع التبرير ، وكل يرفع المصحف راية حرب وعقيدة شرع و شعار احتشاد ، وحينما يكون الداعي باسم الله الواحد الحق فاعلم أن الشرخ قد اتسع وأن الفأس وقعت بالرأس فمن هو ذلك الذي يستطيع إقناع انصار الله في صنعاء أنهم لفيف من قبائل اليمن الأعلى تحركهم مصالح وأهداف وشهوات أرضية ، وليسوا الشعب بالف ولام التعريف الكبيرين ، ومن يستطيع إقناع الاخوان المتأسلمين أنهم لفيف من المصالح والأهوى والشهوات يستخدمون الدين والقرآن الكريم لتحقيق مصالح سياسية بشرية ، في مجتمع معظم سكانه أميين وجهله وفقراء ومساكين. والناس لا يضحون بحياتهم الا في سبيل القضايا التي يجهلونها !لقد شاهدنا كيف تحولت جدران مدارس التلاميذ والطلاب وربما الجامعات في صنعاء المسيرة القرآنية إلى حوائط مبكى على ضحايا الحرب الدائرة في اليمن برفعها صور القتلى في كل جدار وزاوية تكريما لهم وتذكيرا بمكانتهم العالية وحث الاجيال الجديدة من الشباب الصاعد على الاقتداء بهم في تفضيل الموت على الحياة. وهكذا تتم الأمور في حياة المجتمعات العربية منذ الجاهلية فكلما تكرر السلوك صار عادة وكلما ترسخت العادة صارت ثقافة! والثقافة التي لا تكف عن تذكير الإنسان بعجزه وقلة شأنه وعدم كفاية عقله وخيبة مسعاه في هذه الدنيا الفانية التي يكرس فيها الاعتقاد بإنها لا تساوي جناح بعوضة لا يمكنها أن تكون دافعا وحافزا للنمو والتنمية والازدهار بل ستفضي مع مرور الزمان الى نتائج كارثية لم تكن بالحسبان وسيدفع جميع الناس أثمانها الباهظة، افرادا وشعوبا ودولا من دمهم ولحمهم وكرامتهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم كما يتنضد المشهد الآن أمام البصر والأبصار في مشهد تراجيدي سوريالي لم يشهد مثيلا في تاريخ الانسان كتب أحدهم في احتقار الحياة الدنيا معنها من دنى، الداني التافه الحقير بعكس الشرف النبيل " عجبًا لهذه الدنيا الفانية، هذه الدنيا الزائلة، هذه الدنيا المنتهية، متاعها قليل، وشأنها حقير، وأمرها يسير، ما من أحد يخلد فيها أبدا، إلا ذلك الملعون المطرود إبليس، لا أحد يستحق البقاء في هذه الدنيا، دنيا فانية، كلما كثرت وكبرت وعلت وارتفع المرء فيها وسما وعلى، جاءه الموت، وانتهى به المطاف إلى البيت الحقيقي، والدار المعمور في حياته الدنيا، لا أحد يستحق الخلود فيها أبدا، ولو كان من أحد يعيش دائماً لكان أحق به الأنبياء" وهذا هو ما يفسر الإقبال على الموت والتعجيل بالرحيل منها باي طريقة من الطرق وهنا يمكن فهم معنى المذابح المروعة التي يرتكبها الشباب العرب وغير العرب باسم (الإسلام ) هذه الأيام وفي الماضي القريب في الجزائر والصومال وافغانستان وفي سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان وفي كل مكان وليس هناك ما هو افضع من مؤمن لتعذيب مؤمن آخر من ذات الدين، إذ إن كلا منهم يعتبر ذاته ملاكا والأخر شيطانا ! وحينما تحضر الملائكة والشياطين يختفي آدم وحواء الانسان أبن أديم الأرض والنفحة الربانية وقيمه الإنسانية الدنيوية المتواضعة الشفوقة القنوعة النسبية المتغيرة المرنة الواقعية الممكنة العقلانية، إلا تكفي هذه النتائج الفاجعة كل من يدعي الأنتماء الى دين الإسلام الحنيف الذي أنزله الله رحمة بالعالمين لإعادة التفكير الحصيف بالنتائج والأسباب؟! والفكرة الآتية من خارج الحياة لا تستطيع أن تنتج حتى فكرة موتها وفي هذه الحلقة الجهنمية تكمن خطورتها !
بسبب صورة الآخرة الشديد الجاذبية وما تثيره من خيال وتخيل لعوالم الفردوس والنعيم امضيت طفولتي المبكرة وأنا أمني بفسي بالشهادة والفوز بالجنة الخالصة حتى سمعت تلك الآية التي غيرت حياتي من محب للآخرة الخالدة وكاره للدنيا العابرة اليكم ايها:
( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) الرعد17 منذ أن سمعت المقرىء الأزهري عبدالباسط عبدالصمد يقرأ هذه الفقرة من صورة الرعد بصوته الشجي عبر راديو صوت العرب من القاهرة وأنا في سن المراهقة حينها ربما منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ منذ ذلك الحين تغيرت وجهة من دين الفقهاء ووعاظ السلاطين الذين يكرّسوا الجهل والخرافات والأوهام والأكاذيب في احتقار الحياة والعقل والإنسان. فهمت المعنى الحقيقي للدين بوصفه جاء من أجل نفع الإنسان هكذا قال سبحانه وتعالى ( ما ينفع الناس ) ولم يقل ما ينفع الله أو ملائكته 😳 كلام واضح وصريح لك ذي عقل سليم. النفع ، من النفاعة بمعنى ما يسهل حياة الناس ويجعلها أحسن وأيسر وأطيب واريح واجود وأقدر واقوى وارفع وليس هناك ما هو اعظم من العلوم الطبيعية والإنسانية نفعا للناس القاطنين هنا على كوكب الأرض المذكورة في الآية الكريمة( ما ينفع الناس يمكث في الأرض) خلاصة كل معنى وتفسير وتأويل عقلاني سليم . فحيثما ترى شيء نفع الناس في حياتهم هنا في هذه الدنيا الأرضية فاعلم أنه طيب ( الكهرباء والماء والسيارات والطائرات والسفن والإدارية والجسور والتلفون والإنترنت وكل شئ استفاد منه الناس بما في ذلك المطر والعسل والماء والبحر الذي فيه السمك وفيها فوائد للناس بحسب كلام عبدالملك الحوثي الذي نصب نفسه وليا على اليمن بما لم ينزل الله به من سلطان😳 تلك الآية بالنسبة لي هي معيار كل شيء؛ ما ينفع الناس وما لا ينفعهم ، ما يفيد الناس وما لايفيدهم ما يمكث في الأرض وما يصير هباءً منثورا. قال الناس ولم يقل الذات الفردية والخير يخص والشر يعم. الحاجات التي تنفع الفرد ومنها ؛ الإيمان والاعتقاد والعبادات والشعائر هي خاص وذاتية ولا دخل لأحد فهيا أبدا تتصل بالعلاقة بين الذات الفردية وما تأمن به اقصد ربها وتلك أشياء لا احد يراها ولا تمكث في الأرض بعد وفاة صاحبها. أما ما ينفع الناس جميعهم وفيه مصلحتهم ونفعهم فهو الأهم والأجدى والدائم والجدير بالسعي والعمل والاهتمام وكل ما عدا ذلك خزعبلات وتخريف وبيع للأوهام. ما الذي ينفع الناس في ولاية الفقيه الحوثية الطائفية في اليمن الراهن؟! وما الذي ينفع الناس في جهاز مكافحة الإرهابي في عدن الشرنقالية؟! والكلام الفاضي ما في له داعي. افتهم لكم . وسلامتكم.