آخر تحديث :الإثنين-16 ديسمبر 2024-12:17ص

المخا هيبة التاريخ عظمة المكان وإرادة القائد

الإثنين - 16 ديسمبر 2024 - الساعة 12:03 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


في مطار الرياض الدولي، صبيحة يوم الثلاثاء 3 ديسمبر 2024م، والوجهة: أرض الأقيال وموطن الأحرار ومعقل حراس الجمهورية: السّاحل الغربي، والأخ العزيز الأستاذ محمد أنعم يتابعني خطوة خطوة وساعة ساعة، باهتمام من مقر إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ الدعوة الأولى التي وجهها لي الأخ العزيز عبدالناصر المملوح رئيس تحرير وكالة 2 ديسمبر الإخباربة مدير الإعلام العسكري للمقاومة الوطنية حتى الوصول إلى عدن. تقريبًا فعلَ ذلك مع زملاء آخرين أيضًا، موجهًا فريقه الإعلامي بتسهيل كل الصّعاب للضيوف الوافدين من أكثر من دولة، ومن أكثر من مدينة يمنية.


في صالة المطار الخارجية، لمحتُ الأستاذ عبدالرزاق الهجري، مستشار رئيس الجمهورية- عضو مجلس النواب، وإلى جانبه نجله محمد، والشيخ حسين بن حسين السوداي، عضو مجلس النواب، فقلت: حتمًا، هؤلاء رفاق الرحلة. نعم، المخا.. هكذا رد الأستاذ الهجري بعد تأكدي من وجهته. "الأصح في المخا: مخا، بدون ألف ولام".

من الطبيعي أن تتأخر "اليمنية" ساعة كاملة عن الموعد المحدد. هذا تقليد أصيل لا يمكن مخالفته، ونحن محافظون على عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة..!


الساعة السابعة والنصف تحط الطائرة في مطار عدن، ولأول مرة أشم هواء اليمن منذ تسع سنوات تقريبًا، منذ مغادرتي لها في أغسطس 2015م. خلال هذه الفترة زرت أكثر من دولة، لكني لم أستطع أن أزور بلادي، في واحدة من كوارث الإمامة التي لا تنتهي.

في كونتر الجوازات بعدن كان الاستقبال حميميًا، ومرتبًا، وسلسًا للغاية، عكس ما يُشاع في بعض وسائل الإعلام. مبارك النسي يأخذ الجوازات، والحقائب ويستكمل إجراءات الدخول، مرحبا بـ"ضيوف القائد" وكلمة القائد تكررت على مسامعنا كثيرًا.


نفسيًا.. ترديد أي اسم على لسانٍ ما دليلُ محبة شديدة أو كراهية شديدة، وهو هنا دليل محبة وتقدير بطبيعة الحال.

في فندق آرتو فيو، تناولنا الإفطار، وعلى متن السيارات المصفحة اتجهنا نحو المخا، وقد انضم معنا أيضًا الشيخ الدكتور محمد بن موسى العامري، مستشار رئيس الجمهورية- رئيس اتحاد الرشاد السلفي، ونجله الخلوق عبدالرحمن الذي أهداني "خاتم التسبيح"، هذه بضاعته كشاب متدين وكلٌ ينفق مما عنده. وشخصيات أخرى كذلك انضمت إلينا، أو انضممنا إليها، كانت قادمة من بعض المدن اليمنية الجنوبية.

في الخط الساحلي الرابط بين عدن والمخا، الذي تتقاسمه نقاط الانتقالي العسكرية ونقاط المقاومة الوطنية، ثمة مناظر بحرية بهيجة من هبة السماء، كان من الممكن توظيفها إيجابيًا للصالح العام لو كانت لنا دولة. مناظر في غاية من السحر، وخاصة رأس العارة والكروب، لا يعكر صفو الاستمتاع بها إلا الحُفر التي يحيط بها قليل من الإسفلت، عددها أكثر من النقاط العسكرية وأقل من نجوم السماء. 26 نقطة عسكرية أحصيتُها من داخل عدن حتى داخل المخا..! وعلى ذكر النقاط العسكرية يقتضي الإنصاف الإشارة إلى تعاملهم الإيجابي والرائع معنا على امتداد الخط، لم نلحظ شيئًا من إشاعات بعض المواقع الإعلامية. وثمة حديث آخر يتعلق بالنقاط الواقعة على أطراف قبائل الصبيحة..!


الساعة الواحدة ظهرًا، هنا المخا، المدينة الناهضة بقوة، مستندة في نهضتها إلى زمن عتيق مشبع بكثير من مفردات التاريخ: التجارة البحرية، البانيان، أولى الحملات الأوروبية والشركات التجارية العالمية، البُن (وبه سُميت المدينة)، الولي الصوفي الشاذلي، محمد علي باشا.. وأخيرًا القائد. وفي المخا حين تسمع كلمة القائد، وكثيرًا ما تسمعها فهو القائد طارق صالح، القادم من قصور الحكم بخلفيته العسكرية وصرامته الضباطية وخبرة سياسية مكثفة في إدارة الدولة نقلها معه. يا للمكان المحظوظ!!

حقًا بعض الأماكن تسعد بالرجال، كما يسعد بعض الرجال بالأماكن، والمخا من الأماكن التي سعدت بقائد أعاد لها اعتبارها بعد طول بؤس وشقاء.


ثمة ملمحان اثنان للمخا: ماضٍ عتيق متشح بشقاء أحدب نوتردام، وبؤس جان فالجان..! وحاضر يبدو أنه يطير بجناحين لا يسير بقدمين. حاضر صاعد بقوة نحو المستقبل، تلمحه في المدارس الفخمة، المستشفيات الجديدة، المدن السكنية الحديثة، المطار الدولي، الميناء الدولي، الأهم من ذلك: روح جمهورية عتيدة، مشبعة بثقافة وطنية عالية، وعقيدة قتالية راسخة تلمحها في وجه العميد خالد مصلح، قائد اللواء 12 حراس جمهورية. العميد خالد استثناء من استثناء في روحه العسكرية، ووعيه الوطني، وولائه لقائده. كان ضمن ستة ضباط أسسوا طلائع الجيش الوطني في مأرب منهم اللواء الشهيد عبدالرب الشدادي، وهو اليوم واحد من أبرز الضباط المناضلين في الساحل الغربي.

يهبُّ كنسر سبئي من عرينه نحو جبهة القتال إذا ما تم إبلاغه عن أدنى تحرشات حوثية، متقدمًا أفراد لوائه الذي يقوده، لا عجب، صلابته القتالية من صلابة جبال ريمة التي نشأ في قممها صغيرًا.


مثل خالد في ضُباطيته رفيق دربه المقاتل الجمهوري الأصيل الشيخ عمار الزرنوقي، الذي سمعت ثناء عاطرًا عنه من الأخ خالد، من مؤسسي المقاومة الوطنية التهامية، ومن أوائل من رفع البندقية في وجه الحوثي في الحديدة، ومثلهما معًا المثقف الرائع عبدالله سالم عسيلو "المجيدي" في أقياليته، وروحه الجمهورية، المتشبثة بعروق التاريخ السبئي الحميري الأصيل، واقرأوا ماذا قال الهمداني عن بني مجيد.

لقد نسب المخا إلى بني مجيد، وهو مجيد بن عمرو بن حيدان بن عمرو بن إلحاف. ومن أولاده: يحنن وحبيب وعندل ووداعة والأقارع.


ومن قرى بني مجيد: بني مسيح منها أول قرية، الواقدية لرؤسائهم وسادتهم، ثم المنارة من علو البلد، ومن أسفلها العارة والعميرة والجروبة والممحاط والشقاق وموزع وقرية حنة. وللمجيديين انتشارٌ كبيرٌ في أبين أيضًا. وكذلك في غربي عدن، في منطقة السّحل. كما ذكر الهمداني في "الصّفة" أنّ لبني مجيد ما كان يُعرف بالجِمال المُعنبرة، كما لمهرة أيضًا، وذلك لأنّ مَسائمها على السّاحل، فإذا اشتمّ الجَملُ العنبريّة برَكَ، فلم يثر حتى يفقده صاحبه، فيجده بالقرب منها فيلقطها، فإن أبطأ عليه لم يبرح حتى تفتر قواه من الجَوى، وربما نَفَقَ، فذلك خيفة عليها.


ويذكر المقحفي في "معجم البلدان والقبائل اليمنية" أنّ المخا من بلدان قبيلة حكم من بني مجيد المذحجيّة، وأشهر العلائلات فيها: آل عسيلي، آل القرشي، آل مدهش، آل مكي، آل باخلقي، آل القحيط، آل الزغروري. ومن أشهر علمائها الصُّوفي الكبير علي بن عمر بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد بن دعسين القرشي الشاذلي. وللرحالة ابن المجاور حديث مطول في تاريخه عن بني مجيد.


تذكرت هذه المعلومات من مقروءاتي القديمة حين عرّفني العميد خالد على الأخ عبدالله سالم عسيلو، ونحن على تلك المأدبة الباذخة التي أقامها لنا في منزله أول يوم لوصولنا، مأدبة نصفها لحم وعسل، والنصف الآخر أيضًا لحم وعسل؛ على الرغم من اعتراض الأخ الدكتور عبدالله أبو حورية على تناولنا أي وجبة خارج الفندق الذي ننزل فيه، كما سمعت؛ معللًا ذلك بقوله: هؤلاء ضيوف القائد، لولا إصرار العميد خالد مصلح..


أبو حورية ركنٌ عتيدٌ من أركان الساحل الغربي لا تراه إلا مبتسمًا رغم الإعياء والإرهاق المتواصل، مُقدرًا الكبار بصورة لافتة، وهذه أخلاق الكبار. لا أدري لماذا أحسستُ أنّ هذا الرجل كان يعمل خلال أيام الاحتفال 25 ساعة في اليوم والليلة..!

ليس أبو حورية فقط، بلمحة عابرة رأيتُ صادق دويد يتعامل مع "ضيوف القائد" كما لو أنهم ضيوفه الشخصيين في ديوانه الخاص. كذلك الشأن مع النائب البرلماني الأستاذ القدير إبراهيم المزلم، رئيس دائرة الشباب بالمجلس الذي حرص على التواصل مع كثير من الشخصيات والرموز من الضيوف القادمين، وفي كل حديثه لم ينسَ الإشارة إلى جهود "القائد". إبراهيم المزلم شخصية شبابية بعقلية رزينة، هادئة، وحصيفة، ويفضل العمل بصمت.


كذلك الشأن مع ابن حضرموت السياسي المحنك الأستاذ وضاح بن بريك رئيس الدائرة التنظيمية في المكتب السياسي.


في الجانب الإعلامي والثقافي تبدت قناديل أخرى، وإن شئت قل: هامات وقامات من رفاقنا الأعزاء: كامل الخوداني، عبدالناصر المملوح، محمد الردمي، حسين السكاب، جميل السبئي، أحمد داود، من قناة الجمهورية، زملاء آخرون أيضًا لم يسعفني الوقت لتذكر أسمائهم غمرونا بأخلاقهم وحسن تعاملهم. جميعهم كانوا يتسابقون بتفانٍ لخدمة ضيوف "القائد".


في الرابع من ديسمبر، كان الحفل البهيج في باحة مجمع الإمارات التربوي النموذجي، والذي يُنبئ عن جهود مكثفة بُذلت سلفًا من القائمين عليه، وجميعُها نضاحة بروح الجمهورية والوطنية. لوحات غنائية وفنية رسمها شباب وشابات في مقتبل العمر، هم قناديل اليمن الجديد، وما أجمل هذه التنشئة! زادتها القصائد الشعرية حلاوة وطراوة، ولن أنسى هنا كلمة الأستاذ عبدالرزاق الهجري التي ألقاها باسم التجمع اليمني للإصلاح، والتي بلسمت الروح، وضمدت الجراح، جراح التفرقة داخل الصف الوطني الواحد. كلمة اعتبرها العقلاء خارطة طريق مستقبلي بين الفرقاء. كما لا أنسى ذلك التألق البديع لمقدمَي الحفل، الرائعين: محمد الردمي وعبدالله إسماعيل. وعبدالله رفيقي في السكن والسفر وفي الهم الثقافي المشترك. عبدالله إسماعيل محطة إعلامية وثقافية باذخة العطاء، أينما اتجهنا فثمة ثناء عاطر لهذا المناضل الأصيل.


في اليوم التالي (5 ديسمبر) كانت لنا جولة داخل المدينة، تفقدنا فيها مطار المخا الدولي، مدرسة الشهيد عارف الزوكا، المحطة الكهربائية، المدينة السكنية. مركز عبدالعزيز عبدالغني الصحي، المستشفى السعودي، مستشفى 2 ديسمبر، وفي هذه المرافق الصحية يتلقى الناس العلاج مجانًا.


في الحقيقة وجدنا إنجازاتٍ تتحدث عن نفسها على أرض الواقع بلغة الأرقام، وجدنا الدولة، وجدنا رجالًا يعملون كخلية النحل بروح الفريق الواحد. وجدنا الرجل الخلوق والمهذب الأستاذ عبدالله الحبيشي، المسؤول الأول عن نشاط الخلية الإنسانية التي حققت من الإنجازات ما يفوق الوصف. باختصار: وجدنا القائد، وكفى. وإذا وُجد القائد في أي مكان وُجد معه كل شيء. أتكلم عن القائد المحترم، القائد الناجح، القائد: طارق صالح.


الجمعة، السادس من ديسمبر، التاسعة صباحًا غادرنا المخا نحو عدن عبر الخط الساحلي، عبدالله إسماعيل، والأخوان: أحمد الضباب، مستشار محافظ شبوة، وعمار الحنشي، ويا للمقيل الرائع عصر هذا اليوم في ديوان آرت فيو، في عدن، بصحبة أقيال اليمن الكبار: عبدالوهاب معوضة، عبدالرزاق الهجري، عبدالرحمن معزب، عبدالله إسماعيل، أحمد قبوع، محمد مهدي الكويتي، أمين القدمي، خالد جمعان، وآخرين. وكم سعدنا بكلمة رائعة عن الإمامة وتنظيمها السري للقاضي حمود الهتار، حفظه الله.


السبت (السابع من ديسمبر) كان من المفترض أن نغادر المطار الساعة 12 ظهرًا، لولا ذلك الغراب التعيس الذي حط داخل محرك الطائرة، وأخرنا أكثر من ثلاث ساعات، حتى تم إخراجه من داخل المحرك عبر فريق هندسي. في الحقيقة لو لم يؤخرنا الغراب لما عدمت اليمنية عذرًا آخر.

في هذا الوقت المفترض فيه الإقلاع كانت طائرة خاصة بالأمم المتحدة تقلع من مطار عدن نحو صنعاء، وكان البعض منا قد هرع إليها، لولا تنبيه الأخ الأستاذ صلاح الصيادي، ويا لهول الكارثة لو لم نتنبه لذلك!


في رحلة عدن القاهرة كنت محظوظًا بالجلوس إلى جانب النائب البرلماني الدكتور عبدالكريم الأسلمي، رجل الفكر والثقافة والسياسة، وحديث مطول لم نشعر معه بملل الرحلة. ويا لأجمل المصادفات بعد طول انقطاع.

د. ثابت الأحمدي