( لا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح ) الماوردي
السياسة بوصفها فن إدارة الشأن العام هي (فارماكون Pharmakon ) حسب أفلاطون بمعنى ( السم والترياق ) فإذا خربت خرب كل شيء في هذا العالم وإذا صلحت صلح كل شيء في هذه الدنيا ، وليس هناك شيء آخر يؤثر في حياة الناس بإشد مما تفعله السياسة؛ حتى الكوارث الطبيعية وتقلبات المناخ؛ ك البراكين والزلازل والفيضانات والعواصف والجفاف والجدب والخصب والبرد والحر والأوبئة والجوائح ةة هي أخف وطئة على حياة الناس في كل المجتمعات من أثر الشرور السياسة ومداراتها الفاجعة. فما حدث في فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن والصومال وافغانستان منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن ولازال يتنضد الآن أمام الأبصار من عذابات وجرائم يشيب لهولها الولدان وما أنجبته من أزمات وتصدعات سياسية وحروب وخرابات في السنوات الماضية لا يمكن مقارنة أثرة الفاجع في حياة المجتمعات مع ما يمكن أن تفعله أي كوارث طبيعية واقعية أو محتملة. وهكذا صار العرب اليوم دولا وشعوبا وافرادا في مهب العواصف السياسية الجائحة! والسياسة هي الزمن الذي لا يمر ! بمعنى إنها دائمة الحضور والفعل والتأثير في حياة الناس في كل مكان وزمان ، فأما أن يتمكن الناس من ترويضها والسيطرة عليها وتقنينها وتقعيدها في نظم مؤسسية دستورية عادلة ومستقرة وأما أن تسحقهم بعنفها ووحشيتها التي لا حدود لها. وبهذا نفهم قول دوبرية في كتابه المهم (نقد العقل السياسي) : "الساسة في كل الأزمان جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أو بكلمة فاقدي العقل" ) إنها هي فحوى التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولم يتكسر رأسها أبدا! فمتى يدرك العرب أهمية وضرورة تقعيد السياسة في مجالها الخاص على أسس مؤسسية قانونية عادلة ومستقرة، ويشيدون بيتهم السياسي الخاص مثل سائر شعوب العالم المستقرة في دولها المزدهرة اليوم ؟ومتى يدركون ويفهم الأسباب العميق لمأساتهم الفاجعة، ويقبضون على مفتاح السر في كونهم كذلك منذ أقدم العصور في حروب دائمة ومستمرة بدلا من الأوهام الزائفة التي لازالوا يستجرونها من ماضيهم السحيق عن ذاتهم وعن الآخرين، وحينما نتقبل أنفسنا كما نحن في الواقع لا كما نتوهم حينئذ فقط يمكن لنا أن نتقدم. ولا قيمة ولا أهمية للشعوب والمجتمعات بدون دول ومؤسسات مهما كانوا عليه من دين وأخلاق. واليّ مش مصدق يقرأ هذا الكتاب ؛ نقد العقل السياسي ل روجيس دوبرية . ولا أعتقد أن أحد من السياسين العرب قد سمعه به أو بكتاب الامير لميكافللي والنتائج هي الشاهد والدليل . ولطالما وقد حيرتني تلك الزعامات ( السياسية) التي تمكنت من الوصول إلى هرم (السلطة السياسية) في غير دولة عربية واليمن أصلها؛ زعامات صعدت من قاع المجتمع وهوامشه دون إن تمتلك إي ميزة أو مؤهل أو قدرة ذاتية تبرر استحقاقها للقيادة السياسية وهي أخطر أنماط القيادات وأكثرها حساسية ومسؤولية- إلى الحد الذي جعل الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتاب الجمهورية وهو عمدة مراجع الفلسفة السياسية- جعله يشترط على من يريد أن يكون سياسيا إن يخضع لعملية تربية وتعليمية وتنمية وتأهيل لمدة خمسن عاما فيما سماه الملك الفيلسوف. داعك من أفلاطون ومعاييره العسيرة وتعالى نشوف مصادر السلطة عند عالم الاجتماع السياسي الشهير؛ ماكس فيبر الذي حددها بثلاثة مصادر أساسية هي: مصدر السلطة التقليدية بحكم الغلبة والقوة؛ قوة السيف والساعد( قوة القبيلة أو الجماعة) أو بالاعتقاد الديني أو بالوراثة البيولوجية وقانونية عبر الديمقراطية ومؤسساتها العامة المعروفة ( أحزاب وقوى وبرامج ومنافسات وشعارات وانتخابات ومجالس نيابية .الخ) أو كاريزمية وهي السلطة التي يقودها شخص غير عادي "خارق" يملك صفات وكارزمية مثل حقيقية أو وهمية مثل الرسل والأنبياء الذين تمكنوا من جعل الناس ينصتون إليهم ويؤمنون بما يقولونه لهم. وحينما نلاحظة معظم من صعدوا إلى هرم السلطة في الجمهوريات العربية لم يأتوا عبر هذه المسالك المعروفة بل صعدوا باسم الشعب والجماهير الشعبية معظمهم من صادم إلى الاسد وما بينهما مثل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح أو الرئيس الليبي معمر القذافي الذي أسسا وهما في السلطة أحزاب باسم الشعب أو الجمهور ( المؤتمر الشعبي العام) أو حزب الجماهيرية العربية العظمى وهناك نماذج كثيرة استخدمت الشعب والجماهير العريضة ولازالت تستخدمها لغرض الصعود إلى السلطة وأول ما تتمكن من تسحق الشعب وتذيقه ما لم يخطر على باله من التنكيل والعذاب.وربما هذا ما ما دفعني للبحث في علاقة العنف بالسلطة أو زوال السياسة.
وبين العنف والسلطة علاقة جدلية تفاعلية تبادلية ؛ فهما منفصلان ومتصلان في آن واحد بحيث تتأسس الثانية على توقف الاول والعنف هو اولاً قبل- سياسي لأنه يشير الى الوضعية التي تسبق ظهور سلطة سياسية ما, تلك هي المشكلة التي استقطبت اهتمام كل من هوبز وروسو وكلاستر، وهو _ العنف_ ثانياً ضد - سياسي لأنه ينذر بدون توقف بانهيار النظام السياسي وهو اخيراً ما بعد - سياسي لأنه يبعد السياسية عن السلطة وينقل مركز القوة والنفوذ الى دوائر اخرى خارج المجال السياسي وقواعد لعبته اذ تأخذ صور شتى ؛ اقتصادية وتقنوية وبربرية وفوضوية تجعل تحقق المواطن والمواطنة في المجتمع امراً مستخيلاً. ورغم هذا التعارض بين السلطة السياسية والعنف من حيث الماهية، فإن العنف يجد نفسه تجريبياً مقترناً دائماً بالسلطة ومتداخلاً معها اذ يشغل مكانة داخلها، وداخل السياسة بما هي علاقات قوى تنافسية واستراتيجات مصالح متصارعة وهذا ما يظهر بقوة في مقدمة ابن خلدون وفي اعمال نيقولا ميكافيللي، الذي كان اول من حدد تقديرهما اي «العنف والسلطة» باكبر قدر ممكن من الدقة لا سيما في كتابه الشهير الأمير انجيل السياسية الحديثة إذ أن تقدير كمية العنف والسلطة هو ما يؤسس في نظره السياسة والمجال السياسي المستقل بقوانينه الخاصة ويتعلق الامر هنا بمقدار ما تحتاجه السلطة السياسية من العنف للحفاظ على السياسية، دون الخطأ في تقديره لأن الافراط في مقدار العنف يلغي السلطة فعلاً ويهدد السياسة والنظام السياسي بالتفكك والاضمحلال وبالزوال , وهذا هو معنى قول ابو الحسن الماوردي ( لا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح ) الاحكام السلطانية وبالنسبة للسلطة الساسية يأخذ العنف ثلاث صور اساسية : فهو اولاً تهدد استيهامي دائم يلازمها _ السلطة _ حتى خلال لحظاتها الاكثر هدوء وصفاء اذ ان العنف يسكن السلطة بصورة خيالية او واقعية كتهديد متعدد الاشكال وككابوس مقيت ومفزع منذ البداية وان لم يتطابق مع اي شيء في الواقع وهكذا يمكن القول بأن العنف يقيم منذ البداية داخل السلطة على شكل تهديد غير واضح قل غامض ومخيف.. ويمثل العنف ثانياً، هذا القصور الذي يجب على السلطة ان تتعايش معه، وان تصارع ضده لأنه بما يمكنها من جعله تحت السيطرة لان انفلاته منها معناه انحلال تدريجي وانهيار محتوم بحيث تكون الاسباب المعجلة بزوالها هي داخلية بالاساس كما يشهد بذلك تاريخ النظم السياسية منذ القدم , ولا نروح بعيد ولدينا شواهد كثيرة من واقاعنا الراهن , دول المعسكر الاشتراكي الشمولية التي نخرها العنف والعنف المضاد حتى النخاع , الدكتاتوريات العربية في العراق صدام وليبيا القذافي ومصر مبارك وسوريا الاسد وصنعاء سنحان والصومال وافغانستان ... الخ وقانون السياسة هو من لم يستطع حكم نفسه حكمه الاخر ومن دعى الجن اتوه كما يقول المثل العامي , ولا سلطة بدون سيادة كاملة وهذا هو حال المجتمعات العربية اليوم مع قوى الهيمنة العالمية القابضة ، وفي هذا السياق يمكن الاشارة الى ما كتبه كل من افلاطون وارسطو ومونتسيكو حول الاعراض المرضية للانظمة السياسية وحول ميلها الذي لا يقاوم نحو الانهيار والهلاك، اذ ان السياسة مثل الحياة عبارة عن صراع ضد الفساد والمرض والفوضى والعجز والتدهور والانحلال. ثالثا: واخيراً يأخذ العنف بالنسبة للسلطة صورة التهديد الخارجي كالحروب الداخلية والخارجية بمختف انواعها والثورات العنيفة والشعبية العارمة وحالات فقدان السيادة وكل حوادث العنف الفعلية والرمزية التي تصيب الكيانات السياسية المختلفة التي بامكانها ان تفت في عضدها وتضعفها وتقوضرتها كما هو حال كيانات السلطات العربية الهشة التي تطايرت شذر مذر مع هبوب رياح التغيير العاصفة التي اخذت تعصف بالمنطقة العربية منذ ثلاث سنوات فقط وهكذا كما يرى- (روبير رديكو)- تجد السلطةالسياسية نفسها امام الرهان الآتي:
الرد على كل انواع العنف مع الاحتفاظ لنفسها بوضعية التعالي على كل هذه الانواع بقية عدم الدخول بتاتاً في منافستها لأن من شأن هذه المنافسة ان تعري السلطة وتظهر ان الحق الشرعي الذي تستند عليه هو حق الاقوى لا قوة الحق ، ان السلطة يجب الا تظهر بمظهر من يستخدم العنف العاري بل بمظهر القوة القائمة بدقة على الحق وهذا هو ما قصده ماكس فيبر, بالشرعية العقلانية للسلطة السياسية او «بالعنف المشروع» حتى في الحالات الصعبة لا تستطيع السلطة في أية حالة ان تستسلم للعنف العاري _بل لا يجوز لها ذلك ابدا حتى لو امتلكة القدرة والاستطاعة على استخدام العنف المفرط الاعتباطي وغير المبرر وإلا فإنها ستنفي ذاتها كسلطة سياسية وتفقد مشروعيتها العقلانية العامة , لهذا فالعنف ترياق مسموم بالنسبة للسياسة - حسب افلاطون- «فارموكان» فيه الداء والدواء، اذ ان كل عنف باعتباره ملجأ للضعيف وليس للقوي يكشف عن ضعف (عن مرض ما) عن خلل خطير في الجسم السياسي. كما ان اللجوء غير الملائم الى العنف يدخل السلطة مرة اخرى في وضعية (حرب الجميع ضد الجميع السابقة على اقامة السلطة السياسية) حسب هوبز تلك الحالة التي تتساوى فيها كل الكيانات بالقوة والاهلية وتضيع فيها الشرعية والحق الشرعي وهكذا يحول العنف جهاز السلطة المبني على اساس الحق الى جهاز للعنف والقوة والقمع والقهر , جهازا يدخل في حرب مع اجهزة اخرى للعنف ويلغي وضع تعاليه السياسي بوصفه سلطة على كل ما يقف في وجهها ومن ثم تقويض مشروعية قوتها وشرعية وجودها.. ان العنف الذي تلجأ اليه السلطة يظل دوماً محفوفاً بالمخاطر مثلما هو الشأن بالنسبة للعنف الذي يهاجمها. وترى كل من الامريكية حنة ارندت وكلود لوفور بأن العنف يفضي الى اختفاء السياسة في الانظمة الشمولية , واحلال العنف قوة تسلطية وحيدة محل السلطة السياسية يسيران بنفس الوتيرة ويتلازمان بحيث ان حضور احدهما يعني غياب الآخر لأن حلول العنف محل السلطة جعل هذه الاخيرة ضائعة المعالم وغير متعرف عليها وعلى شرعيتها السياسية , وبذلك كان الطغيان والاستبداد الذان يستندان على قوة العنف والقهر والاجبار هو تسلطية وليس سلطة حقيقية اذ لا تكون المبادئ (المداخل والمخارج) مستبطنة من طرف اولئك الذين يخضعون له اي المحكومين به فضلاً عن ذلك فهو لا يتوفر على دعامة ايديولوجية سوى ارادة المستبد الحسنة او السيئة ومثلما اكد افلاطون بأن المستبد بوصفه سجين عالم باطني لا يستطيع السيطرة عليه يعيش مفتوناً باضطراب رغباته واهوائه الخاصة به، اذ ان الاستبداد شكل سياسي يوجه فيه العنف الباطني للمستبد السلطة ويحيلها الى تسلط , وهكذا نتعرف في هذا التحليل على أحد اوجه الـ«بدون- اساس» الذي اشار اليه هيدجر في كتابه (مبدأ العلة) فالقوى الاستبدادية لا تعرف لماذا ولا بواسطة ماذا هي جائرة انها هي نفسها تسقط اولاً ضحية هذا الجور قبل ان تصير استبدادية، انها لا تعلم بتاتاً بأن العنف «بدون لماذا» «بدون علة» «بدون- اساس» يستحيل تبريره بل ينكشف بعده باطل وجور لايجب السكوت عليه. ان السلطة التي تتخذ من العنف الخيار الوحيد في حل مشكلاتها وأزماتها تعمل على تقويض ذاتها وتهديد حياة مجتمعها، اذ يستحيل تبرير مشروعية العنف في كل الحالات، فاذا لم يكن العنف استثناء تستدعيه ضرورة قاهرة وفي لحظة مباغتة للحفاظ على حياة الناس ومصالحهم وتأمين سعادتهم ومستقبلهم ضد اي تهديد خارجي مؤكد، فإن السياسة والتسلطة السياسية تضع نفسها على شفير الهاوية و«حينما يكون الحصان على شفأ الهاوية، فلا يجدي شد اللجام لا يقافه»