آخر تحديث :الإثنين-31 مارس 2025-04:15ص

عبدالفتاح إسماعيل والانتخابات البرلمانية الألمانية

الثلاثاء - 18 فبراير 2025 - الساعة 01:18 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


لأول مرة استمع لشاب يمني في عمر ابني يتحدث في السياسة بدراية مثقفة ومعلومات وأدلة تفصيلية دقيقة شديدة الوضوح والإقناع . انها عبدالفتاح إسماعيل كما قرأت اسمه باللغة الإنجليزية في تطبيق Google Meet الناقل للندوة تحدث عبدالفتاح إسماعيل عن اكثر الثيمات تعقيدا في النظم السياسة الديمقراطية ؛ آلية الانتخابات البرلمانية وانا استمع واشاهد- تلك المحاضرة البالغة الاهمية التي أدارها الدكتور سامي مقبل بكفاءة واقتدار - تداعت إلى ذهني افكار وذكريات كثيرة جدا منها : ما يثير أسمه (عبدالفتاح إسماعيل) من ذكريات حزينة من زمن مضى . كنت طفلا حينما ازدهر السياسي الشهيد عبدالفتاح إسماعيل رحمة الله عليه . محاضرة البارحة نجشت الذاكرة عن ذكريات عالقة من سنوات الابتدائية في سبعينيات القرن الماضي حيث كانت الايديولوجيا الثورية هي الصوت العالي ( عبدالفتاح إسماعيل دق أمريكا وإسرائيل !) يا فتاح سير سير نحن بعدك بالمسير ! يا علي ناصر ويا بن ربيع يا أمين اللجنة المركزية انتم القادة ونحن معاكم في يديكم طلقة المدفعية! الخ من تلك الزوامل الثورية الراديكالية التي عشناها بكل تفاصيلها وماسيها.كانت الأحلام كبيرة جدا والممكنات شحيحة جداجدا. ربما كان عبدالفتاح إسماعيل الالماني الجنسية اكثر حظا ونضجا سياسيا من سميه الذي دفع حياته ثمنا لأحلامه. الشاب عبدالفتاح إسماعيل اليمني المولود الألماني الجنسيةادهشني البارحة بحديثه عن التجربة الديمقراطية البرلمانية الالمانية وآليتها التقنية الشديدة التعقيد. وعلمت أنه متفوق في دراسته الثانوية إذ جاء ترتيبه الخامس في الجمهورية اليمنية عام ٢٠٠٦م وهو الطالب اليمني الوحيد المقبول في جامعة همبلولت التي تعد من أهم الجامعات الالمانية في العلوم الطبيعية حيث تخصص في تخصص الفيزياء الحيوية وهو من اصعب التخصصات العلمية الجديدة وحصل على الماجستير بتقدير ممتاز جدا وقد كاد ينجز أطروحته في الدكتوراه في ذات الجامعة لولا اضطراره لتأجل الدراسة للبحث عن عمل يعيل منه عائلته. كنت افتكره متخصص في العلوم السياسية حينما سمعته يتحدث عن التجربة الديمقراطية الألمانية وآليتها الانتخابية الشديدة التعقيد ؛ تحدث عنها بثقة عالية وكأنه متخصصا فيها وحينما سألت عن تخصصه العلمي؟ علمت أنه متخصص بالفيزياء الحيوية وربما الطالب اليمني الوحيد الذي تمكن من اجتياز شروط القبول في برنامج الدراسات العليا بجامعة همبلولت الشهيرة وعلمت ايضا انه شاعرا مبدعا فضلا عن ثقافته الواسعة في الأدب العربي القديم والفلسفة الغربية. عبدالفتاح أسماعيل كفاءة علمية وثقافية قل نظيرها في الحالة اليمنية الراهنة ولكنه للأسف الشديد لا ينتمي لأي طرف من الأطراف المتصارعة على جثة اليمن السعيد بجهله وظلامه☠️ عبدالفتاح إسماعيل أورد معلومات تفصيلية دقيقة جدا عن التجربة الديمقراطية الألمانية ومبتدأها وتاريخها وشروطها وإخفاقها ومحاذيرها وأحزابها وكل شيء يتصل بالانتخابات الوشيكة بلغة عربية والمانية فصيحة قل نظيرها. ولا اعتقد إن هناك يمني أخر غير عبدالفتاح إسماعيل يفهم بالانتخابات الالمانية بهذه العمق الثقافي والذكاء السياسي لا في السلطة ولا في المعارضة.

وانا اسمع اليه تذكرت ما قاله الفيلسوف الفرنسي ادغار موران عن أهمية تعليم وتربية (التعقيد) إذ أكد على أهمية أن يأخذ بعين الاعتبار تعقيد الواقع والناس، وانفتاحهما على عناصر المفاجأة واللايقين: إن قرارا مُتَّخَذًا في البداية قد يُخلف ردود فعل غير متوقعة قد تُؤثر على القرار نفسه وسعى إلى صياغة فكرة التعقيد التي تتناسب مع حقيقة الحياة في العالم الجديد ؛ فكر مُعقد يقوم مقام الفكر المُبَسَّط السائد في الغرب منذ أكثر من أربعة قرون. تجدر الإشارة إلى أن مفهوم «التعقيد»، لا يجب أن يؤخذ بمعناه القدحي، أي «التَّعَقُّد» رغم تعقيدها الشديد إلا أن عبدالفتاح إسماعيل أجاد التعبير عنها باستخدام الذكاء الاصطناعي والرسوم البيانية. وانا استمع اليه تداعت إلى ذهنيه فكرة عجز العرب في ترويض السياسة بسبب تعقيدها الشديد وما تتطلبه من صبر وإناءه وحلم وحكم وذكاء عمومي السياسة بوصفها فن إدارة الشأن العام هي (فارماكون ‏Pharmakon ) حسب أفلاطون بمعنى ( السم والترياق ) فإذا خربت خرب كل شيء في هذا العالم وإذا صلحت صلح كل شيء في هذه الدنيا ، وليس هناك شيء آخر يؤثر في حياة الناس بإشد مما تفعله السياسة؛ حتى الكوارث الطبيعية وتقلبات المناخ؛ ك البراكين والزلازل والفيضانات والعواصف والجفاف والجدب والخصب والبرد والحر والأوبئة والجوائح ةة هي أخف وطئة على حياة الناس في كل المجتمعات من أثر الشرور السياسة ومداراتها الفاجعة فهي الزمن الذي لا يمر ! بمعنى إنها دائمة الحضور والفعل والتأثير في حياة الناس في كل مكان وزمان ، فأما أن يتمكن الناس من ترويضها والسيطرة عليها وتقنينها وتقعيدها في نظم مؤسسية دستورية عادلة ومستقرة وأما أن تسحقهم بعنفها ووحشيتها التي لا حدود لها. وبهذا نفهم قول دوبرية في كتابه المهم (نقد العقل السياسي) : "الساسة في كل الأزمان جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أو بكلمة فاقدي العقل" ) إنها هي فحوى التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولم يتكسر رأسها أبدا! فمتى يدرك العرب أهمية وضرورة تقعيد السياسة في مجالها الخاص على أسس مؤسسية قانونية عادلة ومستقرة، ويشيدون بيتهم السياسي الخاص مثل سائر شعوب العالم المستقرة في دولها المزدهرة اليوم ؟ومتى يدركون ويفهم الأسباب العميق لمأساتهم الفاجعة، ويقبضون على مفتاح السر في كونهم كذلك منذ أقدم العصور في حروب دائمة ومستمرة بدلا من الأوهام الزائفة التي لازالوا يستجرونها من ماضيهم السحيق عن ذاتهم وعن الآخرين، وحينما نتقبل أنفسنا كما نحن في الواقع لا كما نتوهم حينئذ فقط يمكن لنا أن نتقدم. ولا قيمة ولا أهمية للشعوب والمجتمعات بدون دول ومؤسسات مهما كانوا عليه من دين وأخلاق. والشعب هو مصدر السلطة السياسية الوحيد لانها وجدت من أجله هو وادارةشؤونه العامة هو وحفظ كرامته واي مجتمع أو جماعة يجعل للسلطة مصادر أخرى غير المواطنيين الذين تمثلهم فهو يفهم ألف باء السياسة والديمقراطية . من المحاضرة فهمت لماذا نجحت الدولة العلمانية في تقعيد السياسة في مقعها الصحيح بينما فشلت كل المساعي الأخرى يقول المستشرق لجرنز وويل «كم ألفاً من السنين بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في (حالة حرب) دائمة سيخبرنا أولئك الذي سيقرأون أقدم سجلات الصحراء الداخلية، ذلك أنها تعود إلى أولهم لكن العربي عبر القرون كلها لم يستفيد حكمة من التجربة، فهو غير آمن أبداً ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي؟».هكذا يعاود سؤال السياسي والسياسة الحضور كالجرح النازف ذلك لأن السياسة هي الزمن الذي لا يمر! وليس بمقدور أحد تجاوز استحقاقها أبدا أن الفصل بين المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقلال المجال الديني عن هيمنة السياسي، وبهذا تكون العلمانية ليس كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي في حقيقة الأمر تحرير المقدس من تبعيته للمدنّس واستعادت روح الدين الإسلامي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين ومتتماً مكارم الأخلاق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” (الحجرات الآية 13) أو “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (سورة النحل الآية 125)، “ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن” (العنكبوت الآية 46)، أو ما جاء في السنة الشريفة “لا يرحم الله من لا يرحم الناس″، “لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً” وغير ذلك مما احتواه الدين الإسلامي الحنيف من قيم تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق والإنصاف والعدل والاعتراف والتسامح والتصالح والعفو والإيثار والتعاون والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السلام وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب والخداع والسب والتنابز بالألقاب والكبر والغرور والتطرف والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل.. الخ.

اغتنمت الفرصة عبرت عن ما يجول في خاطري بعد أن حييت المحاضر الشاب الذي أعتبره الأثر الايجابي الذي بقي من عبدالفتاح إسماعيل المختفي بوصفه خبيرا سياسيا حقيقيا يمنح على الثقة والطمأنينة بما لديه من معرفة علمية وثقافة سياسية حاذقة. وهكذا هي الديمقراطية ليست مجرد انتخابات فهمها العرب بل هي مؤسسات راسخة وقواعد لعبة شديدة الصعوبة والتعقيد لايستطيعها إلا المتمرسين وليس من هب ودب كما فعل الأحمر والراعي وعيالهم في البرلمان اليمني

ختاما يمكن ايجاز الموقف كله بالخلاصة التالية: الديمقراطيات لا تجعل المجتمعات دائما أكثر تحضرا, لكنها تفضح دائما وبلا رحمة صحة المجتمعات التي تحاول تجريبها ... فإذا كان المجتمع في صحة غير معقولة، فإن الديمقراطية لن تكون فقط محفوفة بالمخاطر، بل ربما تكون كارثة أيضا " وهذا يعني أن المشكلة ليست في التعددية الحزبية والانتخابات, بل في خلق مؤسسات بيروقراطية قانونية حديثة مستقرة قوية وقادرة على تهيئة الملعب السياسي العمومي المستقل وقواعد لعبته الخاصة المحايدة التي تقف على مسافة واحدة من جميع أفراد الشعب التي تمثل سيادته, بوصفهم مواطنين أحرارا على درجة متساوية من القيمة والأهلية والحقوق بغض النظر عن مرجعياتهم وهوياتهم المختلفة أما في ظل غياب المؤسسة البيروقراطية القوية ، مؤسسة المؤسسات (أي الدولة الوطنية الجامعة العادلة) كما حال معظم المجتمعات العربية الراهنة فلن تخدم الديمقراطية والانتخابات إلا قدرة القوى الاجتماعية والهويات التمزيقية وغالبا الرجعية في هدم بنية السلطة العامة وشبكات الأمان الاجتماعي. كما تشهد الوقائع الشاخصة في مصر والعراق واليمن وليبيا وسوريا والصومال وغيرها، التي تتصدع فيها المجتمعات تصدعات عمودية طائفية وقبلية ومناطقية وجهوية تقليدية خطيرة.

وهكذا يكون تأسيس وبناء المجال السياسي المستقل في إطار دولة وطنية رشيدة على أسس قانونية حديثة راسخة هو الشرط المسبق لكل ديمقراطية ممكنة. ربما كان عبدالفتاح إسماعيل السعدي نموذجا ممثلا للجيل الجديد من المهاجرين من بلادهم إلى أوروبا فقد عرفنا الجيل الأول الذي كان يقضي عمره كله في الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا أو في دول او في أي بلد ويعود إلى وطنه كما هاجر بلهجته وثقافته وربما أكثر تخلفا بينما جيل عبدالفتاح إسماعيل لم يمضى في المهجر أكثر من عقد من الزمن وها هو يتحدث اللغة الالمانية بطلاقة وبالغة الأجلزية كذلك فضلا عن كونه متخصصا في ارفع المجالات العلمية وأكثرها أهمية الفيزياء الحيوية ويفهم في السياسية والدبلوماسية أكثر بالف مرة من ساسة بلده الذي يديرونها كيفما اتفق بالهوشلية والهرجلة✋🏼