العقل اليمني تشكَّل في إطار "الحلال والحرام" بصيغة مجتزأة.
مساحة التفكير لديه خاضعة تحت هيمنة الفتاوى والتفسيرات المنتمية للقرون الخالية.
المدارس والمساجد لم تكن فضاءات للتعليم الحر، بل مؤسسات لإعادة الإنتاج والتدوير.
الخطاب الديني الذي سيطر على المجال العام صنع قوالب فكرية جامدة، ترى في كل محاولة للتحرر والتطلع والاكتشاف تهديدًا لكل شيء، وليس فقط الدين.
ولذلك، المواطن اليمني العادي وُضع أمام خيارين أحلاهما مر:
إما الخضوع لحكم ديني يستند إلى فهمه الخاص في ظل تجميد نصوصه، أو مواجهة العنف بوصفه كفرًا وخروجًا.
الجماعات الدينية وإن اختلف لون وشكل قشرتها الخارجية، إلا أنها من الداخل بالمعنى والجوهر ذاته، وهؤلاء أشداء على الكفار رحماء بينهم. والكفار كل من لا يوافقهم ولو كان مؤمنًا.
هل سيتسنى بناء نظام تعليمي يقوم على التفكير النقدي، بعيدًا عن التلقين الديني؟
تلك هي المسألة.
لكن كيف؟
لن يتم هذا الآن، إنما ليبدأ الآن نضال من هذا النوع؛ بهدف أن تكون المدارس فضاءات للعقل والعلم، وليست ساحات لتنشئة طلاب يتحولون إلى أدوات في يد الجماعات الدينية.
المجال الطبيعي للدين يجب أن يكون القناعة الشخصية وحدها لا غير، لا الدولة ولا التشريع ولا السياسة.
والشرط الأول للخروج من العنف هو بناء دولة المواطنة المتساوية، لا الانتماء الديني ولا المذهبي.
ويجب إلى ذلك تحرير الخطاب الديني بإعادة قراءة النصوص بعيدًا عن التفسيرات الموروثة.
الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، يجب أن يُفكك بوصفه مشروعًا سياسيًا لا دينيًا، وهو مشروع لا يخدم الدين بأي شكل. والحال الماثل أمامكم يشهد بما هو أكثر من الشهادة.
المواطنة يجب أن تُبنى على أساس إنساني، وليس ديني.
الإنسان في اليمن يجب أن يُعرَّف بصفته مواطنًا، لا زيديًا أو شافعيًا.
والحقوق والواجبات تُحدد بقانون، لا بمرجعية فقهية.
ثم لدينا القبيلة والمذهب، وقد كانا دائمًا أدوات في يد السلطة الدينية.
القبيلة ها هي أمامكم، استسلمت استسلامًا مهينًا للعصابة الإمامية، ولا أحد يفترض بعد هذه السنوات أن يعيد الإشارة إلى دور القبيلة.
لا دور لها إلا أن تتكسب بطريقة وأخرى.
والقبيلة لا تحترم الإنسان ولا تقيم له وزنًا حتى ولو كان من أبنائها ما لم يكن قويًا بأدوات غير شريفة.
ولذلك، إعادة بناء اليمن تتطلب دولة قوية تحتكر كل شيء، وتعيد تنظيم النسيج الاجتماعي على أساس وطني، لا مذهبي أو قبلي.
الوعي الجمعي لا بد أن يقوم على العقلانية، العلم والمواطنة.
الوعي المستنير بكل هذا هو الطريق الوحيد للخروج من دوائر العنف والانقسام.
اليمن لا تحتاج مشروعًا دينيًا جديدًا، بل مشروعًا وطنيًا، يُعيد بناء الإنسان بوصفه مواطنًا وفقط.
هذا هو المسار الوحيد لتأسيس دولة قادرة على تجاوز مآسي الماضي والانطلاق نحو مستقبل مختلف. وهو طريق طويل الأمد.
ما عداه لن نجد أمامنا إلا ست قبائل متناحرة لا ست دول.