لبعض الأشخاص رنينٌ خاص في حضورهم، حتى وإن طال مقامهم، كما لهم فراغ موحشٌ في غيابهم، حتى وإن تطاول غيابهم، يحضرون فيزيد المكان بهاء، ويغيبون فتخفت فضاءاته. إنها كيمياء الذات المتناغمة مع كل من حولها، وإن شئت قل: فنارات القيم التي تضيء ما حولها، فتضفي على المكان قيمة جديدة، وعلى الزمان بهاء مشعا.
نحن اليوم في رحلة ممتعة بصحبة قيل يماني أصيل من أقيال النضال والكفاح والمقاومة، تخلد حميما في ذاكرة الوطن، وستظل ذكراه خالدة أبد الدهر.
الوالد المناضل صالح أحمد سحلول، من مواليد 1919م في قرية بيت العميس، مخلاف العرش، محافظة البيضاء.
نشأ في القرية بداية كأي طفل في أسرة متوسطة الحال، ولها اهتمام بالشعر والأدب خلفاً عن سلف، وكان والده مغتربا في الولايات المتحدة الأمريكية، في عقد العشرينيات وما بعدها.
ألحقه جده وأعمامه بكتاب القرية، فتعلم القرآن الكريم، ثم تعلم الكتابة والحساب، ولم يتركوه لإكمال تعليمه، فهم محتاجون لرعاية الأغنام، وظل يرعى الأغنام حتى بلغ عمره خمسة عشر عاما.
في العام 1937م عاد والده من الاغتراب من أمريكا إلى اليمن، وكان يحلم أو يتصور أنه سيرى البلاد قد تطورت ولو قليلا عما كانت عليه من قبل خلال السنوات السابقة، وإذا به يرى الوضع على ما هو عليه ولم يتغير شيء منذ فارقه، فأخذه معه في رحلته الثانية إلى أمريكا، وكانت المصادفة أنه بعد خروجهم من رداع ووصولهم إلى عدن أُعلنت الحرب العالمية الثانية، وتم منع المسافرين إلى الخارج، الأمر الذي اضطر سحلول ووالده أن يغيروا من وجهتهم إلى ميناء عصب في ارتيريا بواسطة مركب صغير كانت تتلاعب به الرياح على طول الرحلة، ومن ارتيريا توجهوا إلى اثيوبيا؛ حيث يتواجد عم والده هناك، واضطروا للبقاء والعمل في أثيوبيا ست سنوات، حتى انتهت الحرب العالمية الثانية، وحتى احتلت بريطانيا اثيوبيا، وأخرجت الإيطاليين.
مع بداية وصوله لعمر 24 سنة بدأ ينظم الشعر في المهجر في أديس أبابا، نظما للتسلية وتخفيف وطأة العمل وآلام الغربة، ولم يكن يحتفظ بما ينظم من الشعر، فضاعت عشراتُ القصائدِ التي نظمها خلالَ تلك الفترة وما بعدها.
عاد إلى أرض الوطن بعد ذلك، وكانت الأمراض تفتك بالناس، والجوع يستبد بهم، أما الجهل فغارقون في وحله، وآلمَه أكثر حين وجد كثيرًا من أهله قد توفوا، ولم يطق والده البقاء، فذهب للاغتراب في بريطانيا، وبقي هو في القرية، حتى قامت ثورة 48م، وكان أحد مناصريها، وعاد إلى الشعر مرة أخرى، وقد قرأ بعض دواوين الشعراء الكبار، وسمع عن المناضلين الأحرار، وقرأ لهم، ثم ذهب إلى عدن للعمل هناك، والتقى بمن تبقى من المناضلين الكبار فيها، حتى قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وكان واحدًا من أعلامها النضالية والشعرية، من الليلة الأولى لها في صنعاء، ببندقيته وقصيدته، متجهًا بعد ذلك إلى رداع مع رفاقه الأحرار، ومنهم الشيخ أحمد ناصر الذهب وآخرون، وفي سبتمبر الثورة نظم أحرّ قصائده وأكثرها وأجملها، ومنها:
يا شعبنا قد قامت الثورة
تنصف لنا من باطل الماضي
بانحكم انفسنا بأنفسنا
لا عاد لا سيّد ولا قاضي
كان هذا هو زامل الثورة في رداع، وكان سحلول نائبًا للعامل الجمهوري الجديد، وهو أحمد ناصر الذهب، وقد أدخلوا عامل الإمام السجن مباشرة عقب عودتهم من صنعاء. ومن هنا صُقلت مواهبه الإبداعية، كما تفجرت مواهبه النضالية بالبندقية والكلمة معا.
قلده الزعيم المناضل الرئيس عبدالله السلال قائد الثورة، أول رئيس للجمهورية وسامَ شاعر الثورة في الأسبوع الأول لقيامها، اعترافًا منه بنضال الشاعر ودفاعه المستميت عن الثورة، وقد واصل الدور النضالي الوطني في كل المحطات النضالية التي تلت أحداث الثورة الأولى، بالكلمة والبندقية، بالقول والفعل معا، فمُنح العديد من الأوسمة والشهادات التقديرية قبل الوحدة من حكومات الشطرين وبعد الوحدة كذلك، كما شارك في العديد من الأسابيع الثقافية والمهرجانات الأدبية داخل الوطن وخارجه، ويعد أحد مؤسسي اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين عام 1971م؛ وشاعرنا سحلول كما غنى لسبتمبر 62م غنى أيضا لأكتوبر 63م، وفي الثانية يقول:
ردفان يا مشعل الحرية الثاني
من بعد مشعل ورمز الحرية غمدان
ثورة ستمتد من ردفاننا ساني
إلى المكلا إلى يافع إلى بيحان
وينتهي كل غاصب بالغصيباني
وكل خائن لشعبه والوطن قد خان
صدرت له سبعة دواوين شعرية، جُمعت في مجلد ضخم يقارب ألف صفحة، قدمه الأستاذ الكبير خالد الرويشان، وفيه من كلماته المتأنقة: عندما تفرغ من قراءة هذا الديوان، ستكونُ قد قرأتَ عناوينَ نصفِ قرن في صراع التثوير والتغيير والتنوير في اليمن. وإذا كنت من جيلي الذي لم يعش معظم هذه العناوين، فإنك ستشعر بالتاريخ يجري في عروقك، وبالألم يندفع في قرارة قلبك.
ثمّة شاعرٌ يعيدُكَ إليك من شرود أيامك، ونسيان بداياتك. وإذا كان للأرض أن تحكي، وللجبال أن تروي قصّةَ شاعرٍ وثورة، شاعرٍ وشعب، شاعرٍ وقضية، فإن صالح سحلول يقف ذروةً ضخمةً متميزة على جبل الشعر الشعبي في اليمن.
ونختتم رحلتنا مع هذا المناضل الصلب والشاعر الكبير بقصيدة ملحمة، هي واحدة من غرر قصائده الشعرية، عن الإمامة الكهنوتية في اليمن، بعنوان: الرجعية خاب رجاها. وفيها:
جل الذي يسمع دعا من دعاه
ونيتي يعلم خفاها
الحمد له والشكر يملأ سماه
والأرض له حمداً ملاها
حمداً لمن عنا أزال الطغاه
والرجعيهْ خَيَّبْ رجاها
الرجعيه ذي كَمَّمَتْ كل فاه
أزالها الله وانتهاها
أذاقت الشعب اليماني عناه
وأحرمت أرضه غناها
ومزَّقت لحمه ومصَّتْ دماه
ظل مُعَذَّبْ في شجاها
كم نهبت أمواله باسم الزكاه
يا غارة الله من جفاها
سبعين عام واحنا حفاةً عُراه
والرجعيه تخدم هواها
كم شعبنا المنكوب قاسى بلاه
وعاش عيشه لا سقاها
الترب فرشه والمكاوي دواه
والجوع في بطنه طواها
الله لا أحسن إليهم جزاه
كم أحرمونا من رخاها
كانوا يقولوا هم سفينة نجاه
للخلق تنجي من أتاها
وأين أعدا الرب من أنبياه
ومن سفينة آل طاها
لو يقربوها هؤلاء الجُناه
با ينذقوهم من جُباها
ويغرقوهم في عميق المياه
أو يحرقوهم في لظاها
هل جنة الفردوس ملك الطغاه
من الذي منهم بناها؟
أظن لو كانوا عليها ولاه
ما ذاق يماني شرب ماها
إن كانت الجنة لهم يا إله
فالشعب هذا ما يباها
ولا يريد جنة وفيها عِداه
بل يطلبك جنه سواها
يا شعبنا أرضك تريد انتباه
الرجعيه قَلَّت حياها
تريد أن تسجد وراها الجباه
ما با نصلي شي وراها
رحم الله شاعر سبتمبر العظيم، القيل اليماني الكبير صالح سحلول الذي غادر دنيانا في 9 نوفمبر 2014م بعد رحلة طويلة مع الشعر والنضال والكرامة.
د. ثابت الأحمدي