آخر تحديث :الأحد-13 أبريل 2025-01:52ص

ثرثرة في ذكرى الاعتقال وسجن الصالح

السبت - 12 أبريل 2025 - الساعة 09:01 م

سامي نعمان
بقلم: سامي نعمان
- ارشيف الكاتب


في مثل هذا اليوم  تقريبا قبل سبع سنوات - بالتاريخ الهجري - كان طقم تابع لميليشيا الحوثي العنصرية بقيادة العقيد علي علوان الشهير باسم القذافي يحاصر منزلي في قرية المصاعد بمديرية ماوية، قبل أذان المغرب بنحو نصف ساعة .. في الحقيقة كانت 5 إلى 6 أطقم ضمن حملة لاعتقالي.. أحدها فقط دخل القرية وثلاثة تمركزت في الطرق الفرعية المؤدية إلى قرية مزارعين مسالمين كانوا طوال حياتهم يستجيبون للدولة بورقة تسمى "طُلَاب" أو "استدعاء".. اثنين من الاطقم للتدخل السريع والعمليات الخاصة التحقت بها في مركز مديرية ماوية جوار جامع الأشبط تحسباً لأي اسناد.

كنت يومها في شوال صائما لقضاء بضعة أيام أفطرتها في رمضان.. كان إسماعيل ابن اختي يجهز لعرسه بعد 4 أيام ويسكن بمنزل جده المجاور لمنزلنا ببضعة أمتار.. وكان صوت أغاني أيوب ومنى علي وفيصل علوي يصدح طوال اليوم.. لم استطع النوم لا بالليل ولا بالنهار بسبب أغاني إسماعيل محمد علي.. مع طول السهر انهرت تقريبا بحدود الرابعة عصرا ودخلت في سبات عميق، رغم ضجيج عرس إسماعيل.. كانت نومة انقاذ وانعاش..

عند الخامسة والنصف تقريبا كانت أمي توفظني من نومي وتخبرني ان طقما يحاصر البيت وتخبرني أنها أخبرتهم أني لست موجوداً وأنهم بعد ذلك طوقوا المنزل..  معتز ابني ذي السادسة حينها قال لي: الحوثيين طوقوا المنزل وفتحوا الأمانات حق الأوالي بالسريع.. يعني أنهم كانوا في وضع الاستعداد لإطلاق الناس بقوة دون تردد..

قلت لأمي لا تنكري، أنا مش مجرم ومعنديش حاجة أخفيها أو أخاف منها.. كان الجو حارا قائضاً منتصف العام، وكنت نائماً شبه عريان من شدة الحر.. فلملمت متعادا المعوز "الإزار" والشميز "القميص" فاتحا ازراره.. وخرجت إليهم بصدر مكشوف ليطمئنوا وحتى لا يطلقوا النار علي خرجت إليهم.. كان القذافي، متمترسا واضعا سلاحه فوق مقدمة الطقم على بعد نحو 10 أمتار أمام بوابة البيت غربا، فيما نحو 9 مسلحين بينهم طفلين قد انتشروا على مسافات متباعدة بمحيط المنزل..

خفض القذافي سلاحه "الفرخ" بعدما رآني خارجاً شبه عار من باب دار الأسرة.. بقميص مفتوح على صدري العاري وألف المعوز "الإزار" على نصفي الأسفل.. صافحته: مرحبا يا فندم.. تفضلوا.. ليش هذا كله.. لا أدري ما الذي شعر به لكنه أخبرني أن "أبو ماهر" مشرف ميليشيا الحوثي يريدني في ضيافته.. سألته طيب وليش ما تتصلوا بي مافيش داعي تفجعوا أهل القرية، كنت ساتيكم باتصال.. انت ملاحظ اني انسان مدني بلا سلاح.. رد وكأني لاحظت عليه نوعاً من الحرج على تلك الهالة العسكرية: مدري مالهم يمكن في بلاغ خاطئ بتحرى بعد الموضوع يا أستاذ والعفو منك.. انا انفذ الأوامر.. قلت له نتوكل على الله.. لم أحاول التفكير بالعودة للمنزل للبس شيء ما حتى لا يلطبوا التفتيش او أخذ تلفوني ولا أي شيء وقد تعمدت تركها في الداخل لأنها فيها ما يكفي لإدانتي حتى السابع من الولد وحتى بعد موتي بألف عام بشريعة الإرهاب العنصري الحوثي.. أردت الصعود في صندوق الطقم، لكنهم طلبوا مني الجلوس في الكبينة، بجوار القذافي وكان بجواري طفل مجند اظنه دون 16 سنة جميل ومبهر للغاية بوسامته.. وحتى بتعامله وأدبه وخجله.. يبدو أن كان طريا حديث العهد بالملشنة.. كان أوغاد الحوثة وغالبيتهم أوغاد يطلقون عليهم "زينة أمطقم".. أكثر مرة كان يطمئنني حينما ينشغل القذافي بالرد على الاتصالات ويقول: لا تقلق يا أستاذ.. إن شاء الله مابش عليك شي.. وانا ارد عليه بقلق وتوتر: إن شاء الله..

غادرنا وأذن المغرب ونحن في ماوية.. وهناك كان طقمان من قوات الأمن المركزي بانتظارنا بمركز المديرية.. كانا بدفعة مسلحين يقاربون 16 فرداً بهندام عسكري وخوذات ودروع واقية من الرصاص وقناصات، اتضح لي انهم من كتائب التدخل السريع.. كانوا ينتظرون في مكان ما بمحيط القرية للتدخل إضافة لطقين أو 3 أخرى.. المهم حين وصلت معتقل الصالح بمنطقة مفرق ماوية كنت أرى أن الزفة التي ترافقني بحدود 6 أطقم على الأقل..

وبما أني كنت صائماً فقد أوقفوني في سوق السويداء بماوية وسمحوا لي بالنزول لتناول الإفطار والعشاء.. حتى لحظتها كانوا يعتقدون انها محاولة للفرار أو لعمل ما.. في الحقيقة لم أطلب منهم التوقف للعشاء.. طلبت منهم في مركز مديرية ماوية أن يسمحوا لي بشراء ماء وبسكويت وحليب لي ولهم من بقالات معروفة لدي لأفطر وسيقرضونني ما احتاج ومعه المال.. قال القذافي "لو انت صائم من صدق ممكن نأمنك وتفطر بالمطعم بالسويداء ولا يهمك.. هانا مابش مطاعم".. قلت له لم اخذ فلوس معي.. كان بحوزتي 500 ريال لا أكثر.. لا أتذكر المهم أنها لا تكفي لوجبة شخص صائم.. قال: واحنا والكل نتعشى.. ولا تهم الحساب.. علينا..

قلت له خلاص حاسب وانا بعدين بقضيك.. تعشينا في مطعم بسوق السويداء حوالي 5 أفراد، والبقية انتشروا في محيط المطعم وسطحه.. إرهاب مكتمل الدسم حتى آخر لحظة.. وآخرون على الأطقم برشاشاتها بوضيعات استعداد والمحركات شغالة.. الأشاوس الجبناء حتى اللحظة الأخيرة وادخالي إلى السجن كانوا ربما يتوقعون في أي لحظة أن لدي ميليشيا ستهاجمهم.. في الحقيقة الحوثي خائف ذليل، وذلته تلك تدفعه لترهيب الناس..

انتهينا ومضينا.. كان القذافي مشغولا بإجراء اتصالات لمعرفة مصدر البلاغ.. أو هكذا يريدني أن أشعر.. كقبيلي من حريب القراميش كان يريد في اللحظة الأخيرة ان يستعيد بعض ماء وجهه لخروج حملة على رجل أعزل.. أراد أن يشعرني انه بلاغ كاذب استدعى كل تلك الهيلمانة على رجل أعزل وأن من قدمه سيحاسب.. في الحقيقة كنت أعرف الحقير اللئيم الذي ذكرهم بي.. أعرفه جيداً، رجل مريض يحمل خساسة وحقارة الدنيا.. وهي خسة وحقارة مستلهمة من الحوثي، الذي لا يحتاج سوى لبلاغ، أي بلاغ حتى ليقتحم منزلاً على النساء والأطفال بكتائب الحسين والزينبيات.. سياسته "في بلاغ.. يعني في حاجة.. وإلا يطلع حاجة..

وصلت لمدينة الصالح برفقة القذافي.. لاحقا عام 2021 قتل القذافي وعرفت اسمه حينها.. "علي علوان" من أبناء حريب.. قتل على تخوم محافظة مأرب، كان يمسك في تعز منصب قائد شرطة الدوريات، ورجل العمليات الخاصة.. الطفل الوسيم بداخل الطقم ركض بعدي وقال يا أستاذ: معك قات.. قلت له لا يا ابني انت شايف.. قاتي بالبيت كنت بخزن واسمر للصبح.. قال شل هذا لك ولو تفذح والعفو منك.. لا تخاف انت محترم وان شاء الله تخرج قريب.. هذا الطفل المجند يبدو أنه لم ينغمس إلى يومها بالقذارة الحوثية، كانت تبدو عليه ملامح خجله ومهذبة.. لا أدري أي أسرة تلك التي سمحت لطفل بكل تلك الوسامة والخلق لأن يذهب بين عصابة من الشواذ والقتلة والمجرمين..

أخذوا مني الخاتم والساعة بيدي للأمانات، اين التلفون، قلت لهم الجماعة أخذوني هكذا.. قال أحدهم ضروري التلفون.. قلت له: أنا صحفي، ولن أنكر أي عمل قمت به.. التلفون تبحث فيه على اشخاص مش معروفين..

أخذوني لزنزانة (شقة 43) في عمارة يحرسها أبو يحيى، وتتبع الثقافي أبو مصطفى.. وتحمل اسم سجن "الواتس أب" إذ أغلب المعتقلين هناك من الذين يلفقون لهم تهماً من متابعة اخبار او مجموعات الواتس أب.. عدى مجموعة شباب من أبناء حجة، اتهموا بأنهم كانوا ذاهبين للالتحاق بقوات طارق صالح.. كنت أنا اخطر شخص في السجن على الأرجح.. البقية مجانين وشقات بالشوارع باليومية ومواطنين ورعاة غنم وقصر..

زنزانة عفنة بلا إضاءة مغلقة النوافد عدا فتحة صغيرة بحجم كف اليد.. كان هناك سجينا مسنا مصابا بالربو وبضيق التنفس يقلب حوض السيفون المكسور ويصعد عليه ويبقى أغلب اليوم واضعا وجهه في تلك الفتحة يستنشق الهواء حتى يتعب ويستريح ويعود، ولا يقطعه إلا النوم.

كنا بحدود 35 إلى 40 شخصا في الزنزانة الشقة ذات الثلاث غرف وحمامين ومطبخ، يتدلى من الأعلى "بيب" يدخل عبر شبك الباب لتعبئة عبوات الماء حسب ما يتوفر.. لحسن الحظ، كما اخبروني، كنت في الزنزانة بعد حادثتي وفاة في السجن، إحداها لأنور الركن، وكان الوضع قد تحسن نسبياً..

استدعوني للتحقيق من ليلتها خلافا لكثيرين أمضوا أشهرا بدون تحقيق.. تحقيق معصوب العينين اجلس على الأرض والجماعة مخزنين جنبي، احدهم يحقق وآخر يشتم  أحيانا حين لا تعجبه الإجابة..

لم أشعر بالوقت منذ دخلت الزنزانة، استمر التحقيق زهاء خمس ساعات ولم ادرك انه الفجر إلا مع أصوات الأذان الأول. أعادوني بعده إلى الزنزانة، وزملائي ينتظرون.. فضول السجن ليس كمثله شيء.. الجميع ينتظر سجينا جديدا، ينتظر خروج أحدهم للتحقيق وعودته.. ملوا النقاش اليومي والقصص السابقة.. سئموا انفسهم والجدران والقصص والحياة.. كل ساعة تجد أحدهم ينتظر منك ان تحكي له شيئا مختلفا عن الذي قلته لهم لحظة دخولك.. البعض ليس مكترثا ولا يريد أن يسأل.. لقد سئم القصص والأخبار.. يريد ان يعيش قصة نفسه فقط.. لا يعنيه العالم كله طالما وهو بهذا السجن العفن.. وآخرون شكاكون يظن وحده سجينا وكل البقية مخابرات، وآخرون يتلصصون على سجناء، هكذا الحوثي يوظف سجينا ضد آخر مع وعود تتراوح بين الإفراج أو الإخراج من الضغاطة، أو تحسين شروط السجن..