من المتعة إلى طاولة النقاش .. تجربة عائلية
ثلاثة أشياء تحفزني على الكتابة في هذا الموضوع.
أولها أنه في ثالث أيام العيد، طلب مني أولادي إن كان ممكنًا أن نشاهد مسلسلًا يمنيًا. أظن أن طلبهم هذا جاء استجابة واستمرارية للاهتمام، بعد أن كنا قد شاهدنا خلال ليالي رمضان مسلسلًا يمنيًا.
وربما يعود الطلب أيضًا إلى أننا عادة لا نفتح التلفاز في البيت منذ ان أغلقناه قبل عامين إلا لمشاهدة شيء محدد، وكان ذلك المسلسل هو "الجمّالية"، وقد كان ربطهم بالتلفاز آنذاك متعلقًا به. في الأيام الأخيرة من رمضان، وبينما كان الاولاد في المطبخ لإعداد الإفطار، سمعتهم يرددون بعض العبارات الطريفة التي التقطوها من المسلسل. وأبلغني ابني الأكبر أن المسلسل أتاح لهم التقاط كلمات محلية كثيرة، وعاشوا من خلاله تجربة لغوية مختلفة.
أما الأمر الثاني، فهو أنهم تمكنوا من خلال المسلسل من فهم مغزى العمل الدرامي، واستيعاب مستوى الخطاب -بشكل متفاوت-، والانخراط في الحبكة، وإدراك الرهانات التي يقدمها العمل. بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فصاروا يعلّقون على أداء الشخصيات، ويطرحون أسئلة حول الغموض أو أسباب تغيّر المواقف، ويتفاعلون مع لحظات التشويق.
على سبيل المثال، في مشهد يظهر فيه ممثلان على سيارة ذاهبين لمواجهة مسلحة، بينما تقف على بُعد منهما حبيبتيهما في لحظة وداع مشحونة بين الحياة والموت، انفجر الأولاد بالضحك لأن أحد الممثلين لم يكن "مقنعًا" في تعابير وجهه، ولم يرقَ إلى مستوى اللحظة. كما أنهم أبدوا استياءهم من كثرة مشاهد القتل والدماء، وغلبة المعركة على النص.
بعد ذلك، حاولنا البحث عن مسلسل آخر، فوقع اختيارنا على مسلسل كوميدي هو "كرت أخضر". شاهدنا بعض الحلقات الأولى، التي كانت ممتعة، رغم أن إيقاع العمل مختلف، سريع ومكثف. لذلك، فإن متابعة مسلسل من هذا النوع، خاصة لمن هم خارج البيئة اليمنية، أو ممن لغتهم العربية ليست الأولى، قد تكون صعبة. لكنّ "القفشات" الكوميدية فيها ما يُدرك بالفطرة، وكانت قادرة على جذب المشاهدين.
النقطة الثالثة والأخيرة، أنني خضت نقاشًا مع صديقي أيمن حول المسلسلات اليمنية، واتفقنا على أن هناك إمكانية كبيرة لأن تحقق الدراما اليمنية حضورًا قويًا، وأن تقفز إلى آفاق عربية أوسع، وتضع بصمتها الخاصة، وتجتذب جمهورًا من مختلف الأقطار. تنوّع التجارب الدرامية، وحسن توظيف التقنيات الفنية، قد يؤديان إلى تحوّل نوعي حتمي. لكن ثمة ضرورة لتدريب ليس الممثلين فحسب، بل كتّاب النصوص والمخرجين أيضًا.
هناك تحسّن فني ملحوظ في الأعمال الدرامية اليمنية، مع وجود هفوات واضحة في النصوص، والحوارات، والرؤية الفنية. وهذه تشكل أعمدة العمل الدرامي أو الكوميدي: المخرجون، الممثلون، كتّاب النصوص، المصورون، وفنّيو الديكور وغيرهم. من الضروري جدًا أن ينخرط كتّاب النصوص في محترفات كتابة إقليمية وعربية، فهذا هو السبيل الأفضل للوصول إلى عمل متكامل.
وأضيف إلى ذلك أن نجاح أي عمل درامي يعتمد أساسًا على توفر الموارد المناسبة، لكنه يعتمد أيضًا على وجود مخرجين ذوي رؤية فنية وفكرية وقيمية واضحة، تجعلهم قادرين على الذهاب ابعد من التحديات اللوجستية والمالية وجمع المال وتسليع الفن .
فالمخرج الجيد يستطيع أن ينتزع من الممثل أفضل أداء ممكن.
عمومًا، المسلسل الذي شاهدناه طيلة ليالي رمضان هو مسلسل "الجمّالية". كنت قد شاهدت حلقات متعددة من أعمال أخرى قبل أن أستقر عليه. اخترته لمعايير جمالية وفنية، وميولي الخاصة نحو فكرته العامة، إضافة إلى رغبتي في أن يكون المسلسل درسًا لغويًا تعليميًا لأولادي. هذا لا يعني أن المسلسلات الأخرى لم تكن ذات مستوى فني جيد، لكن الحلقات الأولى لم تشدّني بما فيه الكفاية، سواء بسبب الإضاءة أو كثافة الصراع والقتل أو المبالغات في الأداء.
ورغم هذه الملاحظات، جذبتني في "الجمّالية" الفكرة الناظمة للعمل، رغم ما فيه من هفوات في بناء الحبكة، واللجوء إلى الفانتازيا أحيانًا (كالبطل الخارق، أو القناع الجلدي، أو قتل شخصيات في حضرة الدولة دون مساءلة...)، إضافة إلى الغموض الذي يفتقر أحيانًا إلى المنطق، وضيق المساحة الجغرافية. فما زالت معظم المسلسلات اليمنية تدور في إطار القرية، كما قال صديقي أيمن. أرى أن العمل أعاد تدوير نفس القصة، بوجوه مختلفة، وما أبحث عنه هو الجديد في النص.
ومع ذلك، تميز المسلسل بانسجام عام في الخطاب، ولهجة معتدلة رغم بعض النشاز. بعض الممثلين استطاعوا لفت الانتباه بأدائهم البارع، وقدرتهم على تجسيد الشخصيات، والتحكم في تعبيرات الوجه وحركة الجسد، دون تشتيت انتباه المشاهد.
ظهر اليوم، وبينما كنت أستمع إلى إذاعة فرنسية، وقعت على حوار مع الممثل والمخرج الإيطالي توني سيرفيلو، ومعه الناقد السينمائي جان أنطوان جيلي. وقد طُرح عليه سؤال لافت: "عندما تؤدي دورًا، هل تفرغ نفسك من نفسك لتستوعب الشخصية؟"، فكانت إجابته أن كل دور هو انتقال نحو شخصية جديدة. وذكر قصة طريفة عن ممثل كان يؤدي شخصية مزعجة، واستغرق وقتًا طويلًا بعد انتهاء التصوير للخروج من هذه الشخصية لان كان حقا مزعجا مع كل الفريق اثناء التصوير ، مما يبيّن مدى التورط النفسي في الأداء التمثيلي الجيد.
شخصيًا، أنا سعيد بما تحققه الدراما اليمنية من منجزات متنوعة وغنية، رغم انقسامها وتشظيها، في ظل موارد محدودة وعدم استقرار سياسي ينعكس على الحياة الثقافية والفنية. ومع ذلك، أنا متفائل بما يمكن أن تحققه الدراما اليمنية في المستقبل، بالمثابرة، والجهد، والدربة، والتدريب.
وقد لفت انتباهي أن النساء المشاركات في هذا العمل الدرامي كن على مستوى عالٍ من الحرفية.
ورغم أن الحديث عن الشخصيات الرئيسة قد يكون مكررًا، إلا أنني أرغب في الإشادة بثلاثة أسماء برزت في هذا العمل: محمد الأموي، محمد البعداني، ورأفة صادق.
مصطفى ناجي
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك