كان أحد المعتقلين بجواري في غرفة مظلمة، لا نكاد نرى ونتلمس وجوه بعضنا، كان يكرر كلامه كلما ارتفعت نبرة الإحباط رافعاً المعنويات "الفرنسيون اقتحموا سجن الباستيل وأعدموا مدير السجن وسحلوه.. وهذا ما سيحصل للحوثيين.. قريباً إن شاء الله".. ظننته مثقفاً أو قارئا لتاريخ الثورة الفرنسية.. حينما سألته: وكيف انتصرت الثورة الفرنسية يا رفيق.. قال خلي لي حالي أنا مش رفيق ولا جن.. ذاكر هذا الموقف من فيلم وثائقي شفته قبل عدة سنوات عند واحد صاحبي..
بطبيعة الحال، هذه الزنازين القذرة في معتقل الصالح، بحسب ما عرفت من قصص أخرى تعد أفضل من عشرات الزنازين في نفس المعتقل، أو بمعتقلات أخرى بشعة.. هنا كنا لا نزال بحدود الرفاهية مقارنة بسجون العصابة الحوثية.. الرفاهية التي يموت فيها الناس أحياناً، تعذيباً، مرضاً، جوعاً، أو قهراً وانتحاراً..
خلف الجدران المصمتة وأبواب الزنازين الفولاذية المغلقة مواطنون بكل تناقضات الكون، وليس اليمن.. هنا تجد ملحدا تاب إلى الله، ومؤمنا كفر به لأنه أدخله السجن دون أن يظلم او يقتل او يفعل جرما.. تجد الشكاك، والمتوجس والمتفائل والمحبط، ومن يفكر بالانتحار.. وآخر يشعل السيجارة، ويمضغ القات ويظل ينحت بالجدار أو بالارضية بأي شي، فيما يعتقد أنها خطة للهرب.. ثمة خطط نجحت بالفعل..
بكل زنزانة ينصبون عاقلاً، في الغالب يفرض نفسه بالاحترام أو بالفهلوة أو بالبلطجة، يتولى استلام الطعام، وجمع الفلوس وتسجيل الطلبات لمن يريد شراء مشتريات من خارج، مع محاولة تنظيم ما يمكن تنظيمه من أمور النظافة والزنازين.. في إحدى الزنازين لحقت عاقلاً محترماً اسمه عبدالسلام من حجة.. نقل في اليوم التالي الذي دخلت في السجن إلى ذمار بحسب ما قيل، ليتولى بداله محام معتقل من بيت "الجلال"..
في الحقيقة لا أحد يعلم إلى أين ينقلون.. ذلك اليوم نقلوا العشرات من سجن الصالح أغلبهم من حجة وتعز.. ينقلونهم ويعتقلون غيرهم حسب الطاقة الاستيعابية أو المزاج والوضع الطارئ.. يسوقونهم كالأغنام في شاحنات مكتظة بحماية مشددة.. البعض يقولون إلى الجبهات، وكانت حينها جبهات الساحل الغربي في الذروة.. البعض يقولون إلى ذمار، حيث فيها معتقل مركزي يستخدمونه للضغط على المختطفين للبحث عن تبادل أسرى بالتنسيق مع أقاربهم في المناطق الحكومية.. الهم الأكبر للحوثي من أي مشتبه كان محاولة إيجاد أي ثغرة على سجين تجعله يصنفه أسير حرب، ويجعله يتواصل مع أقاربه لإدراجهم ضمن صفقات تبادل محلية او مركزية..
دخلت السجن بعد عيد الفطر بأيام.. كان عشرات السجناء في ذروة الإحباط.. يوم العيد ألبسوهم "معاوز" بخيط واحد أو "مزج واحد" وقمصانا "تي شيرت" رديئة وأخرجوهم إلى الساحة وأحضروا قناة المسيرة وصوروهم على أنهم دفعة إفراج بمكرمة من عبدالملك الحوثي بمناسبة رمضان وعيد الفطر.. أعيد هؤلاء للسجن وقالوا لهم بس شوية أوراق وإجراءات وتخرجوا اليوم، وعادوا كأنهم لم يتلقوا وعداً بالإفراج.. وبالمناسبة هذا من أنكى أساليب التعذيب..
لا يرتاح الحوثي إن وجدك متأقلما مع سجنك تعيش ولا تسأل ولا تكترث متى سيفرج عنك، إن وجدوك هكذا يستفزونك ويطلبونك ويخبرونك أنه من المحتمل ان يفرج عنك قريبا.. بس مسألة ضمانة او وقت أو لما تجي لجنة.. حينها تتحول حياتك إلى جحيم.. والليلة تمر كأنها شهراً تحسبها بالثانية.. إنها أسلوب قذر في التعذيب النفسي والقهر.. أشدهم قهراً من أخرجوهم إلى الساحة بملابس العيد وصوروهم مع أكياس ملابسهم على أنهم مغادرون ثم أعادوهم إلى الزنازين العفنة.. بحسب أحدهم سأل حارس العمارة "يا أبو يحيى.. اتقوا الله مش قلتم بتخرجونا.. فرد عليه إخسأ عليك ذنوب عادك ما تطهرت".. في الحقيقة هكذا كانوا يردون حتى حينما تتعفن الزنازن من انقطاع الماء وضجيج السجناء طلباً للماء.. "عليكم ذنوب.. تطهروا".
انتهت جلسة التحقيق الطويلة معي ليلة دخولي السجن.. العشرات هناك لم يعرفوا التهم المنسوبة لهم ناهيك عن وجوه المحققين، الذين تلتقيهم معصوب العينين، وتبصم أعمى على أوراق يقولون إنها أقوالك.. نقلت اليوم التالية من زنزانة 43 إلى زنزانة 44.. هما شقتان متجاورتان، تتقاسمان ذات العفن والكتمة وذات الوجوه واللحظات.. والتحقيق في الطابق الأخير من العمارة..
هناك فقط كان لدينا رجل يصفونه بالمجنون، لكنه كان يغني، لديه قطعة معدنية ربط عليها أسلاكا ويدندن بمزاجه أو بمزاج الآخرين.. أحيانا يشتمونه ويقتربون من الاعتداء عليه وهو يضحك..
مزاج السجن عكر، ليس له ضابط، لا نظام، فوضى.. لا تستطيع ضبط أوقات النوم ولا الصحو ولا الحياة ولا الفرح ولا الكآبة.. استغنى السجناء عن فرش الاسفنج والبطانيات التي جلبها لها أقاربهم لأنها تجعل الجسم يحترق بسبب امتلائها بالبق والكتن وآفات أخرى لا تستطيع رؤيتها.. يتقاسم السجناء الكراتين كفراش او قطع خيوط "الشوالات" التي يحضرون بها الكدم.. وكل شخص يضع حذاءه كمخده حتى أنها تضع شكلها على الخدود إذا لم تضع فوقها شيئاً.
أنت هنا في مكان يسمونه "الضغاطة"، ومع ذلك يعتقد بعض من في هذه الزنازن أن الضغاطات الحقيقية أكثر بشاعة ووحشة وعذابا.. في اليوم الثالث استدعوني لاستكمال التحقيق، وسألوني هل لديك أقول أخرى.. قلت لهم لا.. قالوا لي إن "المرتزقة يولولون بسبب اعتقالي" فأخبرتهم أني في السجن ولا أعرف شيئا.. ضحك المحقق ووعدني بنقلي إلى مكان أفضل.. كان يبدو عليه قدر من التعامل الرسمي للمحققين، اخبرني أني كنت صريحا اكثر مما توقع ولم اتعبه.. يبدو أنه من المحققين القدامى في أجهزة الأمن الذين التحقوا بالميليشيا العنصرية.. لكنه لم يكن يحقق وحيداً، إذ يكون بجواره مشرفين شهود، تعرفهم بقدح إشعال السجائر والسعال بين حين وآخر.. أحدهم شتمنى أكثر من مرة بألفاظ تنم عن انحطاط أخلاق.. وهددني بالضغاطة الانفرادية وحرمان الزيارة والراحة.. فعليا قال إني من أكثر المعتقلين ارتزاقاً لأني أخبرتهم أنه لا يزال لدي راتب يسري حتى اللحظة من سفارة الكويت التي عملت فيها لأكثر من 10 سنوات قبل غزو مرتزقة إيران لصنعاء..
بعد منتصف الليل نقلت إلى "البدروم"، وهو دور أرضي من شقتين متصلتين مفتوحتان من احد الاتجاهات المنخفضة إلى فناء مدينة الصالح والوادي، مع نوافذ كبيرة ومفتوحة.. شعرت بالحياة هناك، مقارنة بالزنزانتين 43 و 44.. الحياة التي ستتحول جحيماً بمجرد اعتياد زنزانتك الجديدة..
إحدى الشقتين فرشت بالموكيت وتستخدم قاعة محاضرات للمساجين الذين ينامون فيها كأخشاب متراصة بجوار بعضها.. هنا صار بالإمكان ان تلحق بعض الشمس وتجد الهواء وتختلس الحديث مع من هم بالخارج.. الأكل أفضل.. صالة محاضرات كبيرة وفيها شاشة يشغلونها بالمزاج أو لمحاضرات الحوثي.. وحوالي 5 غرف مشتتة بالجهتين.. مراوح الهواء في كل الغرف مكسرة وملتوية، وبحسب ما فهمت فذلك ناجم عن حالات انتحار او محاولات.. أخبرني السجين أبو فارس أنه كان نائما ولم يعرف إلا بحشرجة سجين يلفظ أنفاسه معلقا إلى المروحة، فنهض ورفعه ونادى السجناء لإنقاذه وكتبت له الحياة.. "أبو فارس" مجند حوثي من بلاد الوافي وجريح حرب به صفائح في الرجل، وكان قد أمضى في السجن نحو 8 أشهر مع أنه دخل بحسب زعمهم لمدة أسبوع أو أسبوعين "ليتطهر من الذنوب".. حبسوه لأنه أخذ من أحد المراجعين مبلغ 60 ألف ريال ليساعده في الافراج عن ابنه.. انكشفت قصته واستدعي وطلبوا منه تسليم المبلغ ليعيدوه لصاحبه المسكين لأنه مجاهد وجريح وهذا المبلغ "رجس" يؤثر على طهارته الجهادية.. أمهلوه أياماً فاستدان وأعاد المبلغ.. بحسب ما أخبرني بينما كان في جلسة المناصحة عن المال الحرام بدؤوا يصرفون من المبلغ الذي اعاده مبالغ لشراء قات وماء ومشروبات.. هذا هو الحوثي، يناصحك وهو يقنعك أنه حتى وكلنا لصوص، فأنت محرم عليك وأنا من يحق له ذلك.. الايمان والكفر.. الطهارة والنجاسة.. النزاهة واللصوصية.. كلها سلع خاصة به يقرر مع من يستخدمها ومتى ومن يحق لها المزاوجة بينها.
هنا كانت الأوضاع أفضل من الزنازين العلوية، عدد السجناء كثير يناهزون 65 شخصا، يرتبون بينهم أماكن نومهم، وكان فيهم عقلاء معمرون في السجن حاولوا بشكل معقول ضبط أوقات الهجوع والنوم وأماكن للسهر..
بوساطة خبير، ألقيت رقم هاتف إلى أحد الحراس، من أبناء الحيمة ليتصل بأسرتي ويبلغهم أني احتاج الملابس والمال، طلبت الكثير لأني كنت أعتقد ان أمد اعتقالي سيطول.. وعدته بأن اعطيه اليوم الثاني مقابل الاتصال.. اليوم التالي وصلت الرسالة العزيزة، الربع من كل شيء.. ارسلوا لي 3 معاوز، وقمصان وتي شيرت.. و 6 أكياس قات، وحوالي 30 ألف ريال.. وصل من كل شيء أقل من النصف.. كانوا يسلمونها للبوابة وتجمرك مع كل انتقال من مراسل لآخر.. كيس ونص قات وصل، و13 ألف ريال.. حتى الملابس بما فيها الداخلية تمت جمركتها بأكثر من 50%..
القات قصة في السجن، هدية عزيزة.. القات شجرة الحياة والأمل والهدوء، خاصة هنا.. وللعلم، حينها منتصف العام، وسعره في السوق بخس، بألف ريال بالخارج تأخذ "جمام" أو ما يكفيك من عوارض "ريش".. السعر يقترب فعليا من المجان، لكنه في المعتقل بالوزن.. القات تجارة رابحة للوسطاء.. يرسل السجين بمبلغ 500 ريال في قلب الصيف كافية لتخزينة محترمة، مع عمولة المراسل، فكانوا يعطوننا ورقاً سوداء يابسة، ولأني من ماوية كنت أدرك أن السوق في هذا الموسم لا يباع فيه هذا القات مطلقاً، وأدركت أنهم يأخذونه بالمجان من بقايا التصفية لدى بعض الموردين.. وصلتني من أهلي وأصدقائي عدة مرات دفعات من القات، لكنها لم تصل.. كانوا يتصلون بالرقم الذي يتواصل بهم ويخبرونه.. وكنت أقول "الله يجعلها سمك ياللي أكلت قاتي.. إلا القات.. لن نسامح يا أوباش"..
السجن مكان ملائم لتجربة كل شيء.. كنت قد قطعت التدخين لأشهر، لكن في السجن عدت ودخنت قليلا طيلة أيامه مع السجناء.. لم اشتري لكن كان بيننا تبادل منافع، بدون مقايضة.. هنا تجد الأنانية، وتجد الإنسانية أكثر، تجد الكراهية، وتجد الحب.. تجد الكثير من الوساوس، وتجد معها أيضا الصدق.. تجد القهر واليأس والإحباط، لكنك كثيراً ما تجد الأمل أقرب.. أحدهم يقول لك "أنا بخرجك.." وآخر يقول لك: انت صحفي تعتقد أنك بتخرج.. أنت أخطر واحد بالسجن، الناس كلهم محبوسين على نكت بالواتس أب.. وبعضهم رهائن بدل آباءهم أو أبناءهم".. بالفعل كنت أخطر واحد في السجن، فقد حققوا معي عن ارتباطي بالعدوان، وشغلي بسفارة الكويت – كإحدى دول العدوان، وعملي وظهوري وكتاباتي في وسائل الإعلام.. وأني سكرتير أحمد بن دغر رئيس الوزراء الذي لم اعرفه.. كما وفتشوا عن منشوراتي في الفيسبوك التي تصفهم بالميليشيا.
ثمة مسنون تبكي لحالهم، وشباب أمضوا سنوات من أعمارهم لا يعرفون تهمة، سوى أن أبوه أو عمه إصلاحي.. خطيب مسجد إصلاحي ومدرس.. ومسن ثمانيني يرعى الغنم ولا يعرف كيف يشغل الراديو ومتهم برفع الإحداثيات للتحالف.. وخمسيني محبوس "بدل فاقد" عن ابنه الذي خدعهم بالصرخة وأمنهم وكان يعمل لهم مراسلا داخل السجن بين العمارات، لتوصيل الطعام والقات والماء، وصبر على عمله وولائه وصرخته، وهرب إلى مأرب.. وعوضا عن محاسبة مسؤولي السجن، ذهبوا لاعتقال والده.. هذا هو الحوثي وهذي هي أخلاقه وشريعته..
كان بجواري الشرعبي "القطامي" رحمه الله، غادر السجن بعدي بأشهر وربما سنوات، حتى قرأت خبر وفاته قبل نحو عامين.. كان من أكثر السجناء تماسكاً وجلدا.
ليس هناك ما يمكن أن تقرأه سوى القرآن الكريم.. السجن مكان للروحانية أيضا لمن كان يفتقدها خارجه.. المظلوم المقهور الذي لا يقدر على شيء ليس أمامه من سبيل سوى التمسك بالأمل.. وما من أمل يلوح أمامه سوى اللجوء إلى الله.. إنها الحاجة والغريزة للأمل والحياة.
وبجوار المصحف أكوام من ملازم حسين الحوثي السخيفة التي حاولت إعادة قراءتها، فلم أجد فيها ما يستحق النقاش والاحترام.. كانت عامل كآبة وكفر وسخرية.. لا شيء مؤثر فيها سوى الهراء الذي وجد ضالته في الجهل لا أكثر.
يستبسل بعض السجناء بقراءتها، ويحرصون على الصلاة بجوار الخليدي الثقافي الذي كان ينزل القاعة للوعظ الحوثي.. البعض كانوا يسربلون ولا يقولون آمين.. على أمل أن يكون ذلك طريقهم للخلاص.. يضحك القطامي: قد جزعوا عليا كثيرين... مساكين يسربلوا أسبوع ويرجعوا يكفروا ويسبوا للحوثي وملازمه.. بتشوف..
بالفعل الحوثي لا يؤمن بأن تصبح حوثياً في السجن، أنت هنا مشروع شخص محتمل مبادلته بأسير من جنوده، أو حصالة نقود لأفراده وسماسرته.. أو هامش يستخدم سجنا لترهيب المجتمع أن الحوثي بلا أخلاق لا يرحم أحدا يعتقل المسن والمريض والجريح والطفل بلا تهمة وبدون تمييز وبمزاجه العنصري.. هذا بحد ذاته كافٍ لإرهاب المجتمع الذي بات يبحث عن أدنى حدود المصلحة والكرامة والإنسانية.