آخر تحديث :الأربعاء-16 أبريل 2025-02:03ص

الذين نسوا أباءهم

الأربعاء - 16 أبريل 2025 - الساعة 02:00 ص

مصطفى ناجي
بقلم: مصطفى ناجي
- ارشيف الكاتب


حسمت أمري صباح اليوم في الذهاب إلى متحف الهجرة الواقع في شرق باريس داخل الأسوار أو باريس الصغرى، لغرض زيارة المركز الأرشيفي الذي يحمل اسم عبد المالك صياد، السوسيولوجي الجزائري الشهير، والذي تميّز بأعمال بحثية رائدة في مجال دراسات الهجرة، وقد عمل لفترة طويلة مع أحد روّاد علم الاجتماع، بيير بورديو.

وصياد صاحب مصطلح "الغياب المزدوج" والقائل بـ الحضور المقونن (في بلاد الغربة) والغياب المستنكر (في البلد الأصل).

‎قطعتُ مسافة طويلة حتى وصلتُ إلى المكان. وعند وصولي إلى مكتب الاستقبال، تبيّن لي أن الدخول إلى المركز يتطلب حجزًا مسبقًا، وهو ما لم أكن على علم به. زيارتي إلى باريس عابرة، وليس من السهل بالنسبة لي أن أخصص وقتًا للحجز. لكن لحسن الحظ، تمكنت من الاستفادة من زيارة المتحف نفسه، الذي يضم معرضًا دائمًا إلى جانب معارض مؤقتة.

‎يتناول المتحف موضوع الهجرة، وهو جزء من مركز بحثي متخصص في دراسة الظاهرة. تنقلتُ بين أروقة المتحف الذي خُططت زيارته كرحلة في تاريخ الهجرة في فرنسا، بما يحمله من آلام وجراح، وبشكل ما، يعرض المعرض تاريخ التحولات الاجتماعية والسياسية والتشريعية والاقتصادية الفرنسية عبر العقود، تلك التحولات التي ساهمت فيها عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، وكانت الهجرة إحدى أبرز تلك العوامل.

‎يعالج المتحف موضوع الهجرة في العصر الحديث، تحديدًا منذ عهد تجارة العبيد وفترة الاستعمار، وما تبع ذلك من تحولات سياسية واقتصادية وعسكرية في أوروبا، أدت إلى تغييرات ديموغرافية كبيرة، خاصة في فترات الحربين العالميتين، بالإضافة إلى آثار حركات الاستقلال وما رافقها من تحولات سكانية.

‎يعرض المعرض أيضًا تطور التشريعات المتعلقة بالأجانب والمهاجرين على مدى أربعة قرون، مع التركيز على كيفية تعامل الدولة والمجتمع مع الأجانب، والتحولات في الخطاب الاجتماعي، بما في ذلك تنامي السلوك العنصري والمعادي للأجانب نتيجة ظروف سياسية واقتصادية.

‎الرحلة في المتحف، بقدر ما كانت غنية، كانت مرهقة أيضًا. مرهقة في موضوعها، وفي الألم الذي تنقله، والذي يشرح كيف تشكّل الموقف الحالي تجاه المهاجرين.

‎المعرض المؤقت أيضًا كان في صلب موضوع الهجرة، حيث تناول نوعًا محددًا من الهجرة، وهو هجرة العمال الذين جاؤوا إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية. هؤلاء المهاجرون ساهموا في بناء واقع مادي واقتصادي جديد، استدعى سياسات عمرانية وحضرية جديدة، نشأت عنها ما يُعرف بـ"الضواحي"، التي احتضنت اليد العاملة القادمة من دول عدّة، وعلى رأسها بلدان شمال إفريقيا.

‎كانت هذه الضواحي ضرورية لنهضة فرنسا العمرانية بعد الحرب، لكنها مع الوقت تحولت إلى واقع اجتماعي معقد، اتّسم بالعنف الرمزي والمادي، وبظروف حياة مختلفة، تصل أحيانًا إلى حد الفصل الاجتماعي، وتعميق التفاوت في الفرص والمواطنية.

تتيح زيارة المتحف موضعة الجدل حول الهجرة - المسقطة حصراً على المسلمين وعلى العرب وبجانبهم الأفارقة- في نطاق جغرافي اوسع هو حقيقة تكوين فرنسا تاريخياً عبر موجات هجرة كانت ردود الفعل تجاهها في السابق - رغم التقارب الديني والثقافي والإثني بين القادمين والمستوطنين - لا تختلف في طابعها الكاره والتحريضي.

ويستغرب المتابع للجدل حول الهجرة في فرنسا وفي عموم أوروبا ان بعض ابناء المهاجرين الأوربيين اصبحوا اليوم على رأس حملات التحريض على الاجانب متجاهلين ما لاقاه آباؤهم.


مصطفى ناجي


الصورة جدارية في متحف الهجرة في باريس

في إطار معرض مؤقت بعنوان : ضاحيتي الغالية

من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك