لا أحد يُحب القصف، ولا يُبرّر سقوط الأبرياء. هذا موقف أخلاقي ثابت لا يتبدّل بتغيّر الجبهات. لكن الموقف الأخلاقي لا يكتمل إذا غضّ الطرف عن الذي صنع المأساة، وصمّم الجريمة، وأخرج المذبحة، ثم أطل من شاشة فضائية أو منصة تواصل متقمصًا دور الضحية.
ما حدث في ميناء رأس عيسى هو سيناريو دموي بُني على تخطيط حربي بالغ القذارة: منشأة مدنية حُوّلت إلى منشأة مزدوجة الاستخدام، تُخزّن فيها الوقود المُهرّب، وتُستخدم لتهريب السلاح الإيراني، وتحريك اقتصاد الحرب. ثم تُترك لتُقصف بمن فيها.
الغارة تُدان؟ نعم. لكن الأكثر إدانة هو من خزّن البنزين بين العمال، وخبّأ الدرون في ظل الرافعات، وجعل من الميناء ثكنة مموّهة بالسفن والمساعدات، ثم خرج ليسأل: "من قتل المدنيين؟"
القانون الدولي الإنساني واضح: المنشآت المدنية التي تُستخدم لأغراض عسكرية تفقد حمايتها، وتُعتبر أهدافًا مشروعة. وعند استغلال المنشآت المزدوجة – كتهريب السلاح وتخزينه بجانب المواد الإنسانية – تصبح أهدافًا مشروعة، شريطة احترام مبادئ التناسب والتمييز والاحتياط.
لكن ماذا لو استغل طرفٌ تلك المنشآت عمدًا، ووضع فيها مدنيين، ورفض إخلاءها؟ هنا يتحوّل النقاش إلى اتهام صريح باستخدام المدنيين كدروع بشرية، وهو ما تمارسه ميليشيا الحوثي بلا تردّد.
داعش فعلت ذلك في الموصل، والحوثي اليوم يفعل نفس الشيء في اليمن: الاحتماء بالمدنيين، وتلغيم المشهد، ثم عرض الرواية على شاشة من دموع. من يجب أن يُسأل عن دمائهم هو من استخدمهم غطاءً لتهريب السلاح، لا من استهدف مخازن الحرب.
الأمين العام للأمم المتحدة لم يتجاهل هذا الواقع، حيث دان الغارات الأميركية، لكنه طالب الحوثيين بوقف الهجمات على السفن، وعدم استخدام المنشآت المدنية في العمليات. حذّر من مخاطر بيئية وإنسانية ناتجة عن تحويل الموانئ إلى ساحات معركة. بعبارة أوضح: لا تكن جزارًا بمعطف طبيب.
ولماذا لا تُقصف مظاهرات الحوثي؟ الجواب أبسط مما يبدو: لأن الحوثي هو من يزرع قادته بين الجياع، وخصومه لا يختبئون خلف لافتة أو طفل مقابل كيس رز. ببساطة… لأنهم ليسوا حوثيين.
ساحة "الصرخة" ليست ساحة رأي حر، بل عرض منظّم بإتقان القهر. آلاف السذّج يظنّون أن الموت في سبيل "سيادة" الحوثي مدخل للجنة، وآلاف المقهورين خرجوا تحت سطوة الفقر أو الرعب.
الحوثي لا يدير معركة، بل يُدير عرضًا للموت. يدّعي السيادة وهو لا يملك إلا الخُمس… والبقية لإيران. القرار يُصاغ في طهران.
من أراد أن يندب الضحايا، فليجب أولًا: من وضعهم هناك؟ من دفن السلاح تحت أقدام العمّال؟ من جعل الميناء محطة تهريب لا معبر نجاة؟ ومن اختار أن يمزج البنزين بدم الإنسان؟!
فقط دعوا اليمنيين يعيشون مثل خلق الله: بلا منغصات عقائدية، ولا هتافات موت معلّبة، ولا ميليشيات تلبسهم هويّة لا تُشبههم. يريدون خبزًا لا خطبًا، وسيادة لا صرخة، ودولة… لا ضريحًا جديدًا فوق الركام.
وكما بدأنا: من وضعهم هناك؟