نظر إلى شهاداته العلمية الجامعية بحسرة وألم وهو يتذكر مشوار حياته الطويل في طلب العلم والمعرفة. بلغ من العمر عتياً. في الخامسة والاربعين من عمره. عادت به الذكريات الى سنوات طفولته الأولى. حينما كان يتلمس طريق الكتابة والقراءة ويرسم حروف الأبجدية وأرقام الحساب بالقلم الرصاص على البياض وكيف كانت والدته وولده يشجعانه على ذلك. سرحت به الذاكرة الى ذلك اليوم الذي أصطحبه والديه لشراء مستلزمات المدرسة؛ الأقلام والدفاتر والهندسة والزي المدرسي المكون من القميص الأبيض والشورت البيج . كان يوما لا ينسى في حياته فمازلت حلاوة الفرحة تضيء تلابيب عقله وقلبه.ابتسم بمرارة وهو يعيد النظر الى شهاداته العلمية المعلقه على جدران غرفة نومه، إذا حرص على الاحتفاظ بها كلها منذ سنة أولى إبدائي، ستة عشر شهادة علمية كلها تشهد على تفوقه العلمي وحصوله على اعلى درجات النجاح، إذ سجل اسمه على الدوام بين الخمسة الأوائل في كل الصفوف الدراسية بجدارة وكفاءة لا تشوبها شائبة.
كان بارعا بالخط والرسم والرياضات والهندسة ويحفظ كل القصائد الشعرية المقررة في التعليم الأساسي والثانوي.كان يطير من الفرح وهو يخط واجب الخط المدرسي : من جد وجد ومن زرع حصد! العلم نور والجهل ظلام! العلم بالصغر كالنقش بالحجر! العلم يبني بيوتا لا اساسا لها والجهل يهدم بيوت العز والشرف! من سهر الليالي ارتقى المعالي! كان يخطها بفرح وحميمية ويتخيل ذاته محلقا فوق أجنحة الحروف والمعاني. كانت عينيه تضيء بفرح غامر وهي تهيم في عوالم الذاكرة المفعمة بالأمل والنجاح والإنجاز. لكنه فجأة يشعر بمرارة وخيبة أمل وهو ينظر الى شهاداته القديمة التي كان قد نبشها للتو من سحارة والدته المقعدة وأخذ يعيد ترتيبها على جدار الغرفة ويمسح ما تراكم عليها من تراب واهمال. نظر الى شهادة الدكتوراه التي تحصل عليها منذ خمس سنوات من كلية العلوم البحرية في القاهرة. بتقدير ممتاز ومرتبة الشرف. تخصص قيادة السفن التجارية العملاقة الذي كان حلمه الاثير منذ سني طفولته الباكرة. كان يحلم بإن يكونا طيار أو ربان سفينه. وهكذا صار ربان سفينة كما حلم ولكنه لم يجد الفرصة للعمل ولا يعرف اين هي السفينة التي يقودها وفِي أي المواني راسية؟ وفِي حركة لا إرادية هوت يده على الشاهدة المعلقة الماطرة بالزجاج الفاخر والخشب الابنوس المتطرز في عرض الحائط. وقد تداعت الى ذهنه مصائر زملاءه الفاشلين في دراستهم وأولئك الذين لم يدخلوا ابدا بوابة أي مدرسة نظامية في حياتهم! فأحدهم هو رئيس الدولة وأخر وزير ثقافة، وثالث مفتى الديار ورابع وزير النفط والصناعة وخامس مدير الميناء وسادس قائد في الجيش وسابع زعيم حزب كبير وهو لا يجيد نطق جملة مفيدة واحدة وأبناءه العشرة أعضاء مجلس النواب ؛ عشرة أطفال جهلة كلهم أعضاء مجلس النواب! خرج من منزله يجر الخطوات بحذاء ممزق واسمال مهترئه وذهب الى رصيف العاطلين عن العمل يحمل مطرقة وازميل وسطل بلاستيكي، الثروة الوحيدة التي تركها له والده الذي كان عاملا في مجال البناء والتعمير. وبعد عام من الانتظار المهين في سوق العاطلين على رصيف الوطن المذبوح. ادرك أن فرص العمل في البناء والتعمير لم تعد متاح في زمن الحرب والمليشيات المسلحة فقرر الالتحاق بأحد جبهات المعارك المفتوحة لعله يحصل على قطعة سلاح أو غنيمة ليبيعها ويعالج بثمنها أمه المريضة. لكن قدراته الجسدية وطبيعة تأهيله العلمي المدني لم تمكنه من التكيف والانخراط الفعّال في هذا المجال العسكري الحربي الذي يحتاج الى قدرات ومؤهلات آخرى أهمها؛ القدرات الجسدية والقسوة والقدرة على استخدام السلاح وعدم الخوف من القتل والتدريب الجيد على فنون الحرب والكر والفر وغيرها. وتلك مواهب وقدرات لا يمتلكها وهو ابن المدينة البحرية المسالمة. فكر بالهرب من الجبهة مرات غير مرة لكنه كان يتخيل والدته المريضة التي تنتظر عودته بالدواء والغذاء والغنيمة..تداعت الى ذهنه أيام البطالة المهينة على رصيف الشارع تلك الذكريات وغيرها كانت تهبط كل فكرة لديه للهرب من الجبهة. فجأة لمعة في ذهنه فكرة الاستشهاد بالمعركة بوصفها أفضل الخيار الممكنة أبتسم وهو يتخيل ذاته شهيدا تتحدث عن وكالات الأنباء والقنوات والصحف ويزف خبر استشهاده لوالدته المقعدة وخطرت في ذهنه أغنية مارسيل خليفة( أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها حتى عاد فعاد مستشهدًا .. كانت هذه الفكرة بالنسبة له آسرة إذ تمنح حياته معنى وقيمة جديرة بالأهمية والاعتبار لكن يا للأسف ليس هناك من قتال في جبهات القتال كلهم يمضغون القات بالليل وينامون بالنهار. فكيف السبيل إلى نيل الشهادة في حرب كهذه؟! فكر كثيرا بضرورة اغتنام فرصة وجودة في الجبهة بأي طريقة. وكان يتضرع إلى الله أن يحتدم أوار المعركة في الجبهة ويواجه الرصاص ببسالة تمنحه شرف الشهادة... انتظر عام ولم يحدث ما كان يتمناه فزاد احساسه بالضيق والاختناق في بيئة لم يألفها من قبل إذ لم يستطع التكيف مع هذا الوسط الغريب الأطوار..
كان يشعر بالغربة الخانقة وسط الزحام. وذات ليل حلقت طائرة حربية على مقربة من جبهتهم وحدث تبادل لإطلاق النار في المعسكر واضطرب هرج ومرج فاغتنم الفرصة في منتصف الليل والظلام الدامس قرر الانتحار في خندقه دون علم أحد من رفقاه في المعسكر وفكان شهيدا وهذا هو الأمل والخيار الوحيد الذي أدركه قبيل أن يضع فوهة بندقيته على جبينه ويضغط على الزناد. مات الشهيد ولم تمت الحكاية!
