آخر تحديث :السبت-21 سبتمبر 2024-12:13ص

انقلاب 1955م.. (12 ــ 30)

الجمعة - 20 سبتمبر 2024 - الساعة 10:14 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


لافتات سبتمبرية

نُسجت الرواياتُ الكثيرة عن تفاصيلِ انقلاب مارس 1955م، بقيادة المقدم أحمد الثلايا، ولكل وجهته فيما ذهب، ولعل أصدق وأدق تفاصيل ما جرى قد جاءت في مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني، يقول: "في يوم الخميس 7 شعبان، سنة 1374هـ، 31 مارس، 1955م، فوجئنا في الصباح الباكر بأحدِ المرتبِين بصالة، ليُنهيَ إلينا بأن الجيشَ قد ضربَ حصارًا على القصر والمقام في العرضي، واحتل المباني الحكومية، وفتح مخازن الذخيرة، ووزع السلاح على من لا سلاح له، واستولى على السيارات والمطار، وقطع أسلاك البرق والتلفون، واحتلّ محطة اللاسلكي..".

والحقيقة أنّ هذا الانقلابَ الطارئ، غير المخطط له كان ردةَ فعلٍ غاضبة من قيادة الجيش، وعلى رأسها المقدم الثلايا على أحداثِ الحوبان الشهيرة، حين اختلف الجنودُ مع الأهالي على اقتطاع الأشجار من أجل الحطب، فقتل الجنودُ أحد المواطنين، فثار الناسُ عليهم بعد ذلك، وهاجموهم، الأمر الذي اضطر الجيش إلى مهاجمة الناس إلى بيوتهم وانتهابهم، تأديبًا لهم على تعديهم. فاستغل المقدم الثلايا ــ وهو معلم الجيش يومها ــ هذه الحادثة، وقد كان ينتظر الفرصة المواتية، والمبرر المعقول للانقلاب على الإمام، موضحًا لأفراد الجيش أن الذي حرمَكم من حقوقكم، وصادرها، وألجأكم إلى الاحتطاب هو الإمام نفسه، وعليه فلنذهب جميعًا لمحاصرة قصره، وإرغامه على التنازل لأخيه السيف عبدالله.

لقد كان السّيفُ عبدالله وزيرُ الخارجية، والمكلف بالنظر في شؤون الناس أيضا في الداخل صاحبَ رؤية في الإصلاح والتحديث، معترضا على سياسة أبيه سابقًا، ثم على سياسة أخيه أحمد لاحقًا، وكان على علاقةٍ طيبةٍ بالأحرارِ والمصلحين. ومع ذلك فقد كانَ الشهيد الثلايا يرى وجوبَ التخلصِ من حكم بيت حميدالدين كلهم، بلا استثناء، سواء أحمد أو السيف عبدالله، إنما تكمن العقبة الكبرى في الإمام أحمد، وفي حال التخلص منه يسهل التخلص من السيف عبدالله، الأقل دموية منه. وهو ما كان يصارح به رفاقه ممن يثق بهم.

تعاهد الثلايا مع أفراد جيشه على الصمود والثبات، وأقسموا قسما مغلظا بين يديه، معاهدين إياه: "ما يسير فحمة إلا وقد ساروا رماد"، فرد عليهم: "شمس تطلع، خبر يأتي". أي الخبر القادم مع شروق شمس الغد.

ذهبت جموع الجيش لحصار قصر الإمام الذي يقيم فيه في "صالة" منادين إياه بالتنازل لأخيه السيف عبدالله. وكان الإمام يومها مريضًا، أو متظاهرًا بالمرض، في صبيحة يوم 1/4/ 1955م، وحين رأى أن الجيش قد أطبق عليه، وألا مفر من مطلبه تظاهر بالتجاوب واللين معهم، وكتب هذه الصيغة التي تلاعب بها في الوقت الذي لم تدرك فحواها الجموع: "إلى المحبين الكرام، سلمهم الله، لقد كان ما كان مما سبق في علم الله سبحانه، والآن لعل الله سبحانه قد وفق الجميع إلى ما فيه الخير والصّلاح، فإنا حملنا الأخ سيف الإسلام عبدالله حفظه الله الحجّةَ، وكان التنازل على أن يقيم بالأمر ويجريه على شريعة الله سبحانه، ولم يبق ما يوجب الأخذ والرد، وقد كان هذا بحضور جماعة من العلماء، فليقف كل واحد محله، والأخ سيف الإسلام حفظه الله يخرج إلى محله بالعرضي، للقيام بأعمال الناس، وعليكم جميعًا اعتماد أوامره، ومن خالفَ هذا فعليه حجة الله. والله المعين والموفق، وقد كان منا التحرير إلى الملحقات بوقوف كل واحد محله، وعود من قد خرج بيته، وسيرسلها الأخ الفخري حفظه الله، والسلام عليكم، 9 شعبان، سنة 74هـ".

وعاد حاملُ الرسالة وقرأها على القوم، فسمعوا لفظة "التنازل" فصفقوا لها وكبروا، وفهموها تنازلا عن الإمامة من الإمام لأخيه عبدالله، مع أن الإمام يقصد التنازل بتسيير الأعمال، وهو غير التنازل عن الإمامة بطبيعة الحال، فتلاعب بألفاظ الخطاب الذي لا تفهمه الجماهير، ثم انصرفوا عن أي إجراء ضده. بينما استطاع الإمام استعادة أنفاسه وترتيب أوراقه من جديد، لينقلب على الانقلاب، ويحكم قبضته من جديد، في الوقت الذي استرخى السيف عبدالله في مقر إقامته بوزارة الخارجية.

ولأن نساء الإمام داخل القصر فقد عمدن إلى قص شعورهن وإرسالها إلى مشايخ القبائل، لاستنهاض عزائمهم وحميتهم لإنقاذ النساء داخل القصر المحاصر، وهي من التقاليد القبلية المعروفة، والتي لا يتخلف عنها إلا جبان، ناقص المروءة، وبحسب الشامي: "فعلت هذه الرسائل فعل السحر لدى شيوخ القبائل.. فاندفعوا بقبائلهم لنجدة الإمام..". ويبدو أن هذه من تكتيكات الإمام أحمد وخططه الماكرة.

وصلت جموع القبائل المدافعة عنه، في الوقت الذي كان قد استطاع استمالة الشاويش المحجاني، المرابط مع المدفع الوحيد في جبل صبر، والذي أطلق عدة طلقات على جموع الجيش المرابط في العرضي، فأصيب بعض الجنود برهبة وخوف، ما دفعهم إلى الانسلال عن معلمهم الثلايا، والاتجاه نحو الإمام، وحينها خرج الإمام الذي كان مريضا، ويعاني من الروماتيزم راكبا حصانه، ممتشقا سيفه، واتجه إلى مبنى الخارجية، حيث يقيم "الإمام الجديد"..! فأمر أتباعه بالقبض عليه ومن معه. وزاد أن أمر بإحضار أخيه العباس من صنعاء الذي أيد الانقلاب، وفي تعز أقام لهما حفل غداء معًا، ثم أرسلهما إلى حجة، بصحبة جنوده، موجهًا عامله على حجة بإعدامهما هناك. أما الثلايا فقد حاول الفرار نحو عدن، إلا أن الأهالي قبضوا عليه وسلموه للإمام، والذي أخرجه إلى الميدان، وحشد الناس، ووجه له بعض الأسئلة: ألم أحسن إليك؟ ألم أعلمك؟ ألم أبنِ لك بيتا؟ وهو يجيب بنعم. ثم التفت إلى الجماهير، مخاطبًا إياهم: هذا الثلايا أحسنتُ إليه وربيته وعلمته وقربته، ثم جازاني بما تعلمون. فما جزاؤه يا ناس؟
فتعالت أصوات الناس في الميدان: الإعدام، الإعدام، الإعدام.
ويقال: أن الثلايا التفت إلى هذه الجماهير، وقال: لعن الله شعبًا أردتُ له الحياة فأراد لي الموت. وتُروى أيضا بصيغ أخرى مقاربة. مرددًا: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم مدّ عنقه، وطار سيف الوشاح برأسه. وهكذا كانت معظم حفلات الإعدام.

وبعد أيّامٍ أُعدم بعض رفاقه أيضا، كما ظلّ آخرون في السجن، وكانت مأساة جديدة، تُضافُ إلى مأساةِ ثورةِ الدستور، سنة 1948م.
وهكذا تبخرت تلك العُهود والمواثيق التي قطعها تلاميذُ الشهيد الثلايا ورفاقه، فخانوه، وتخاذلوا عنه، وأكثر من ذلك حين نادى بعضهم بإعدامه في وجه الإمام، قبيل إعدامه..!
لقد كان انقلاب 55م يشبه ثورة 48م من أحد أوجهه، فهو انقلاب عائلي مدعومٍ بنخبة ثقافية وسياسية من غير العائلة، هم قوام هذا الانقلاب، وكما انتهى الأمر في 48م بالقضاء على رؤوس العائلة الثائرة، متمثلة في آل الوزير، وقائد الثورة العسكري جمال جميل، والنخبة السياسية من حولهم، فقد انتهى انقلاب مارس 55م بإعدام رأسي الانقلاب العائلي عبدالله والعباس، وقائد الانقلاب العسكري أحمد الثلايا، وبعض العناصر الأخرى أيضا. وقد قال البردوني مقيمًا الانقلاب: إنه عائلي مزدوج من عائلات وضباط، على رأسها البيت الإمامي، وعلى عائلية هذا الانقلاب المزدوج فإن له ثنائية شعبية؛ إذ شاركت في صنعه عناصر وطنية نقية القصد، وطنية الغاية..

والبردوني يُجمل نكسة انقلاب 55 في ثلاث نقاط:
1ــ الارتجالية، كاستجابة للحدث الطارئ.
2ــ انفراده بالحركة عن جملة الجيش في كل المراكز.
3ــ تحركه لصالح إمام جديد.
وعلى أية حال.. ومهما كان من أمر فشل الانقلاب، وما خلف من كوارث إنسانية دامية ومرعبة، إلا أنَّ هذا الحدثَ قد مثّل ــ في حد ذاته، وعلى فشله ــ واحدةً من المحطات النضالية لليمنيين، وكسرت رهبة الكهنوت الجاثم على الشعب، وكان له ما بعده من الجدل الذي أحدثته ثورة الدستور سابقًا.

وتجدرُ الإشارة هنا إلى أننا لم نتناول الحدث بجميع تفاصيله التي ألفت فيه كتبٌ من أمثال ثورة 55م للعميد الأكوع، وأُعدت عنه رسائل أكاديمية؛ لعل أهمها رسالة الماجستير للباحث اليمني المرموق حيدر علي نادي العزي، إنما وقفنا عليه كمحطة نضالية، ضمن المحاط النضالية الأخرى التي تكللت بثورة السادس والعشرين من سبتمبر 62م، بصورة موجزة، بعيدا عن تفاصيل الأحداث التي هي من اختصاصات المؤرخين.
د. ثابت الأحمدي