آخر تحديث :الإثنين-21 أكتوبر 2024-02:14ص

لماذا يحولون الزعامات الفاشلة إلى أبطال .. قراءة في أوهام الذات المهزومة

الإثنين - 21 أكتوبر 2024 - الساعة 01:25 ص

حسين الوادعي
بقلم: حسين الوادعي
- ارشيف الكاتب


"لماذا يحولون الزعامات الفاشلة إلى أبطال .. قراءة في أوهام الذات المهزومة"

................


ليست هزيمة عادية. لا في مداها ولا سرعتها ولا الأوهام التي دمرتها.

كأن عوامل تسارع الزمن والتطور التقني الهائل في الحرب والإعلام تجمعت لتضيف على هول الهزيمة داخل وجدان الانسان العربي أهوالا مضاعفة. فصلت بين نكبة 1948 ونكسة 1967 عشرون سنة أتاحت للعربي المهزوم لملمة بعض الجراح ، لكن هزيمة اليوم مزيج فاجع من النكبة والنكسة في غضون شهور.

فقدنا آخر جزء محرر من فلسطين ودمرت لبنان واستوطن الموت كل مكان في غزة.

الشحن العاطفي والحماسة المجنونة والتطلعلات اللاعقلانية لفعل 7 أكتوبر زرعت داخل الملايين أن فلسطين ستتحرر في أيام. شاركت جوقة إعلام الممانعة (الجزيرة وأخواتها) في تغذية الوهم وقدمت للمواطن العربي جرعةغير صحية من الدهون الايديولوجية والاوهام السرطانية والسموم الدينية غيبته عن الواقع.

لكن الهزيمة أتت! كارثية ومذلة وحقيقية وراسمة عار الإذلال بأصابعها الخمس على وجوهنا. وإلى جانب عار الهزيمة كان هول المذبحة واضحا واحتفالات الكيان الغاصب بالقتل الجماعي عارية ووقحة ومستفزة. لقد فقدنا الأرض والإنسان!


ليست المشكلة أننا هزمنا مرة أخرى أمام إسرائيل. المشكلة أننا لم نعد نتحمل هزيمة جديدة. وأي هزيمة جديدة كفيلة بتدمير ما تبقى لدينا من توازن ذاتي، وتهشيم ما بقي من فتات احترام للذات، وحرق شظايا أمل ضعيف في المستقبل نعرف ضعفه لكننا نتمسك به لكي لا تموت مشاعرنا.

في مثل هذه الحالات لا يبقى أمام الذات المهزومة إلا حل وحيد: الانكار.

"حالة الإنكار Denial"، يلجأ لها الشخص لتكذيب كارثة كبيرة حدثت له لا يستطيع عقله أن يستوعبها، لأن اعترافه بها قد يغير او يدمر كل ثوابته في الحياة، فيسعى لإبقاء الحقيقة المؤلمة خارج الوعي رغم توفر "اﻷدلة الدامغة" على وجودها.

وحياة العربي سلسلة مستمرة من الإنكار. ظللنا ننكر حقيقة الهزيمة رغم وضوحها بعد أيام قليلة من اجتياح غزة، لكن خطر الاعتراف بالهزيمة على ذواتنا قذفنا الى انكار الواقع. لكن الانكار وحده لم يكن كافيا. وشعارات مهرجي الجزيرة حول "المقاومة تربح اذا لم تخسر" و "النصر بعد الهزيمة" صارت مضحكة الجماهير، والانكار نفي سلبي مجرد ولا بد من جرعة تدعمه لتسند كيان الذات المهزومة.


مع اعتقادي أن مجتمعاتنا العربية مسرح خصب للاضطرابات النفسية الجماعية كالبارانويا وجنون العظمة والجروح النرجسية، إلا أن الأحداث الحالية تدفعني لاقتراح اضافة اضطراب نفسي آخر هو delusional disorder مرض الوهم أو الأضطراب الوهامي.

‏ يحدث الاضطراب الوهامي عندما يعجز المريض عن التفريق بين الواقع والخيال ويؤمن بأشياء غير واقعية حتى لو كانت كل الدلائل ضدها.

ورغم أن الدراسات ترجح حتى الان ان هذا المرض نادر وفردي، الا أن حالة هذيان النصر والمعجزات تطرح امكانية أن يكون هذا الاضطراب شائعا وجماعيا، خاصة أن سيكولوجية الجماعة اكثر عرضة للانهيارات العقلانية والأوهام.

‏اقترح تسمية: اضطراب الانتصار الوهامي victory delusional disorder ، أو مرض النصر الوهمي لتسمية الحالة الغريبة في السياسة العربية منذ 1948 حتى اليوم. خطورة هذا المرض كما شاهدنا في اليمن 2015-2022، ولبنان 2006، وغزة 2023 أنه يصرف الأنظار عن الواقع وعن ضرورة ايقاف المذبحة وإنقاذ المدنيين ويقذف بالمصابين في سلسلة لاعقلانية من انكار الواقع ووهم العظمة والقوة. وكلما زاد الوهم زاد عدد المقابر والخيام والنائمين والجائعين.


لقد وقعنا في هذا الوهم منذ 7 أكتوبر وعشنا داخله لكن الضربات اللاحقة أبت إلا أن تبدده.

استطاعت إسرائيل القضاء على اغلب قادة حزب الله وحماس في أسابيع. اللحظتان الدراميتان الكبيرتان كانتا في مقتل نصر والله والسنوار. لكن مقتل السنوار اكثر مأساوية لان آخر الأوهام ستسقط بسقوطه.

لقد فشلت عقدة الانكار وصارت الهزيمة مرسومة بالابعاد الثلاثة. وفشل الاضطراب الوهامي وخسرنا الكرامة مرة خامسة وسادسة بعد حسارة الأرض والانسان.

عندما تتعرض الشعوب الطبيعية للهزيمة تعترف بها وتدرس أسبابها وتتجاوزها. لكن الشعوب الغارقة في وحل الهزائم الداخلية والخارجية أعجز ما تكون عن ذلك. وبدلا من دراسة أسباب الهزيمة والخروج منها، تتمسك بها وتعيد تصنيع ترسانة هائلة من الخرافات للدفاع عنها.


إن تاريخ العرب الحديث هو تاريخ الهزائم المذلة: داخليا (فشل الوحدة والتنمية والاشتراكية والديمقراطية) ، وخارجيا ( الهزائم الستة امام إسرائيل، احتلال العراق، سقوط اليمن والعراق ولبنان وغزة في المصيدة الإيرانية).

ان الاعتراف بالهزيمة والرؤية العقلانية للواقع في مثل هذه الظروف حمل ثقيل لا يقدر عليه الا القلة من القادرين على تجاوز أفيون الإنكار إلى ترياق الاعتراف، والانتقال من الاعتراف الى فعل الخروج من الهزيمة.

لكن التعاطف مع الزعيم المهزوم وتبجيله متلازمة سياسية عربية.

وهذا سر شعبية حماس الني تسببت في أبشع هزيمة للقضية الفلسطينية بعد نكبة 1948.


لاخظ أمين معلوف أن اكثر زعيم عربي شعبية حتى اليوم هو عبد الناصر، صاحب الهزبمة الأسوأ في تاريخ العرب ومصر.

وأن اكثر زعيم عربي مكروه هو السادات، صاحب الانتصار العربي الأبرز حتى اليوم.

في مجتمعات القهر تغيب المحاسبة وينجح الفاشل والمستهتر ويتحول الى بطل.

بينما في مجتمعات المحاسبة والمعاقبة يحدث العكس. سيسقط نتنياهو بعد الحرب بسبب مسؤوليته السياسية عن 7أكتوبر، وربما ينتهي في السجن.

وبدلا من ذهاب السنوار للسجن أو للمشنقة سيتحول الى بطل لهزيمة ستطبع بصماتها الدموية على جباه الفلسطينيين لسنوات.

أسقط البريطانيون تشرشل رغم انه صاحب الانتصار على النازية، ذلك الانتصار الذي انقذ أوروبا كلها. ومع ذلك رؤوا فيه بطلا للحرب وليس بطلا للسلام والتنمية.

كان البطل المهزوم في الستينات قوميا عسكريا ذا رؤية تقدمية مهما كان خللها. لكن بطل اليوم طائفي، دموي، مرتهن لقوى إقليمية .. ومع ذلك، التعاطف مع البطل-القاتل/المهزوم لم يتغير.

لقد مات السنوار مهزوما ووحيدا ومطاردا ومعزولا وعاجزا عن الهرب او حتى رفع يديه في لحظاته الأخيرة.

ميتة السنوار نموذج متكامل للفشل القيادي. ولو أن الاكاديميات العسكرية أرادت أن تضيف لمناهجها مثالا للأخطاء العسكرية الفاضحة لما وجدت أفضل من حدث 7 أكتوبر وميتة السنوار لتدرس السياسيين والعسكريين أخطاء العسكرية والسياسة التي يجب تجنبها.

لكنه عند العرب سيتحول الى بطل!


ان الصدمات القوية تغيّر الأوضاع وتهز استقرار الأنظمة والمجتمعات والقيم السائدة. فيشعر من يمر بهذه التجربة أن حياتهم وقيمهم لم تعد لها قيمة، وأن العالم من حولهم ينهار بكل جوانبه الروحية والمادية والأخلاقية.

في هذه الظروف تتصدر "سيكولوجية الجماهير" الواجهة بنفس المعنى الذي طرحه غوستاف لوبون: العجز اللاعقلاني، سرعة التصديق بالأوهام ، الإحساس الساذج بالقدرة على تحقيق المستحيل لو كان هناك بطل!..

يشعر الفرد المهزوم بحاجة للانتماء الى ما هو اكبر منه. ومع مقتل نصر الله والسنوار شعر الكثيرون ممن سكروا بخمر أوهام النصر حاجتهم للذوبان في "قبيلة" اكبر من ذواتهم. ولتكن هذه القبيلة افتراضية في عصر السوشيال ميديا والواقع الافتراضي. ولأن حزب الله وحماس سقطتا فلم يعد هناك بديل غير التعلق بوهم "البطل".


تحول ملايين العرب الى "جمهور نفسي" . والجمهور النفسي حسب لوبون يخسر عقله وفرديته ليكسب الإحساس القوة .. ومهما كانت خلفيات الجمهور النفسي مختلفة فانهم يتوحدون. قد يكون بينهم أمي وعامل وبسيط وبوفيسور في علم السياسة ومفكر، لكن الفروق الفردية والذهنية بينهم تتلاشى ليصبحون ذاتا واحدة بنفس الفكر.لهذا لا استغرب من مفكرين وباحثين وفلاسفة ان ينجرفوا نحو تقديس البطل الزائف كما ينجرف البسطاء والأميون.


ترتبط البطولة بالإنجاز. لكن أبطالنا العرب بلا إنجازات. ليسوا بلا إنجازات فقط، بل هم ابطال الإنجازات المعكوسة. بعد كل هزيمة نصنع من فاعلها بطلا. ناصر بعد 67، صدام بعد 91، نصر الله بعد 2006، السنوار بعد 2023. الجمهور النفسي يبحث عن "بطولات نفسية". بطولات الأوهام لا بطولات الأفعال.


من صفات عقلية الانسان العربي المقهور ، كما حللها مصطفى حجازي، "السيطرة الخرافية على المصير". الاعتقاد ان معجزة ما، أو بطلا خارقا أو تحولا قدريا قادر على حل أزماتنا وتحقيق أحلامنا. تتغذى حالة السيطرة الخرافية على المصير من اللاعقلانية الضاربة أطنابها في العقل العربي والسياسة العربية.

اللاعقلانية قد تكون عرضا مرضيا لواقع مأساوي, لكنها في المجتمع والسياسة العربيين ليست عرضا وانما اسلوب متعمد للوجود. اللاعقلانية نمط حياة وأسلوب معتمد للتعاطي مع الوقائع والهزائم والخيبات.

في مثل هذا الواقع ينجرف الناس نحو الحلول السحرية. أما "المقاومة" فتفقد معناها وشروطها وتتحول الى حل سحري. قاوم وستتحرر. قاوم وستنتصر. لا تفكر في أسلوب المقاومة المناسب ولا في ظروفه ولا في امكانياته نجاحه او فشلة. العالم يمشي بالسحر. المقاومة العنيفة فعل سحري فمن اتخذه سينتصر. لا نقاش!


انتقلنا من التوسل بالاولياء إلى الاحتماء بالزعيم المنقذ كحلول تعويضية بسبب الشعور بالذل والعجز. ولأننا نتعامل مع قضية فلسطين من بال الذل والعجز نبحث عن أي فرصة لإيذاء إسرائيل حتى ولو كان الثمن موت الفلسطيني.


حلل مصطفى حجازي الذي رحل قبل أيام في خضم الانهيارات المأساوية التي طالما رصد آثارها على "سيكولوجية الانسان المقهور" كيف ان المقهور يتأرجح بين الاستسلام للقاهر او ممارسة العنف ضده. وهو حين يستسلم يستسلم قدريا بلا تفكير عقلاني في ضرورة الاستسلام، وعندما ينجرف للعنف ينجرف دون تفكير في أهدافه و عواقيه.

هذا هو بالضبط مفهوم الإنسان العربي المقهورللمقاومة.

وكان حجازي قد حذر من خطورة الانجراف العربي نحو خرافة "البطل الأسطوري". لكن تحذيره ذهب ادراج الرياح وها هم العرب في حفلة زار سياسي لتحويل السيكوباثي الى بطل.


عرفت البشرية أنواعا عديدة من الأبطال: اليطل المؤسس (بسمارك، جيفرسون), البطل المحرر( ديغول، غاندي). البطل النهضوي (مهاتير محمد، ميجي). لكن العرب في عصورهم لم يعرفوا غير نوعين من الابطال: قديما البطل الفاتح: الاستعماري الذي يحتل الأقطار الأخرى ويخضعها، وحديثا البطل المأساوي: الزعيم الذي يتبنى مشروعا نبيلا يحاول تنفيذه بوسائل قمعية أو لاعقلانية حتى يسقط سقوطا مأساويا جارا معه شعبه نحو الهزيمة.

البطل المأساوي او التراجيدي في الدراما هو الذي يقع في إشكال قدري عصي على الحل لأن أفعاله تتناقض تناقضا جذريا مع أهدافه، وكلما قام بفعل لتحقيق هدفه دنّسه هذا الفعل وجعله أبعد أخلاقيا وواقعيا عن تحقيق هدفه.


أعظم بطل تراجيدي في الدراما هو أوديب. واسمحوا لي أن الخص تراجيديا اوديب لأوضح اللعنة العربية حول التعلق بالبطل المأساوي.

مختصر قصة أوديب أن الآلهة ستغضب على ملك طيبه "لايوس" لأنه قتل. وعقاب الآلهة أنه إذا انجب ولدا ذكرا فانه سيقتل على يد إبنه. تنجب له الملكة جوكاستا ولدا فيطلب منها أن تقتله، لكن الأم تتراجع وتعطيه للحدم الذين سيسلمونه الى راعي غنم سيربيه كأنه ابنه. يكبر أوديب ويكتشف انه ليس ابن الراعي فيذهب في رحلة للبحث عن جذوره. وفي طريقه الى مملكة طيبه يلتقي بوالده الملك لايوس في الطريق ويتعاركان فيقتل أوديب والده دون أن يدري، وهكذا يتحقق عقاب الآلهة. يتابع أوديب طريقة فيلتقي بالوحش الأسطوري ويقتله ونتيجة لشجاعته يتزوج الملكة جوكاستا دون أن يدري أنها أمه. بعد أيام من الزواج السعيد ينتشر الطاعون في المملكة، وعندما يستشير أوديب الكهنة عن السبب يقولون له ان قاتل الملك "لايوس" يعيش في المملكة، وان الطاعون لن يتوقف إلا بعد مقتله. يبحث اوديب عن قاتل الملك لايوس ليكتشف أنه والده وأنه قتل والده وتزوج أمه، وانه يجب ان يقتل نفسه ليتوقف الطاعون. تقتل جوكاستا نفسها ويفقأ اوديب عينيه ثم يهيم في الطرقات طالبا من الناس أن يقتلوه.


هذا ملخص التراجيديا مستحيلة الحل، والخطيئة التي لا يمكن التطهر منها. ولو درسنا نماذج ناصر وصدام ونصر الله والسنوار فلوجدناهم نماذج مختلفة من البطل المأساوي. كان ناصر يرى ان إلغاء الحياة السياسية والأحزاب وتقييد الحريات ورفض الديمقراطية ضرورة لا بد منها من أجل تحقيق الاشتراكية والوحدة. لكن الاشتراكية والوحدة سقطا بسبب هذه الأخطاء. في هزيمة 1967 فقأ ناصر عينيه ( بالمعنى الدرامي) عندما اعلن استقالته، وطلب من الجماهير محاكمته (قتله بالمعنى الدرامي). لكن جذور الهزيمة وأسبابها هي نفسها سياسات عبد الناصر وبطولاته. أراد عبدالناصر الخلاص من طاعون الهزيمة بالانتقام من قاتل الأب (الأب هنا رمز لحلم القومية) لكنه هو نفسه القاتل والقتيل. المجرم والضحية.


أشعر بتأنيب الضمير حين أقارن ناصر بالسنوار. فناصر رغم كل عيوبه ظل يعمل داخل منطق الدولة ونحو حلم العدالة. أما السنوار رغم وجوده في خانه المواجهة مع إسرائيل فظل طوال حياته خارج منطق الدولة وداخل منطق الجماعة المسلحة والايديولوجيا الدينية الضيقة. لكن السنوار كناصر نموذج للبطل المأساوي الذي يجر نفسه ومجمتعه الى الهاوية. الفارق بينهما أن ناصر كان يسعى لهدف نبيل بأساليب غير نبيلة بينما هدف السنوار لم يكن يختلف كثيرا عن أساليبه غير النبيلة.


لقد قتل السنوار أباه (القضية الفلسطينية) وارتكب الخطيئة التي لا يمكن التطهر منها ( له تاريخ طويل للتنكيل بالفلسطينيين واختطافهم وتعذيبهم وقتلهم واخفاء جثثهم. وله تاريخ آخر كأحد أثرياء غزة ومتنفذيها في ملاحقة التجار وحبسهم والافراج عنهم مقابل دفع الملايين. وهل زواج الأم بالمعني الدرامي الأوديبي بأقل سوءا من قتل القريب والأخ والتنكيل به؟). لقد توهم السنوار أنه قتل الوحش (7 أكتوبر) لكنه كان واهما. فقد ابتلع الوحش طيبه بأكملها. وانتشر طاعون الموت والقتل والإبادة في غزة ولكي يوقف السنوار هذا القتل لم يكن هناك حل إلا أن يقتل المتسبب فيه، فكيف يمكن ذلك مجرم وضحية في نفس الوقت. إذا استسلم ليوقف الحرب سيفشل ويٌقتل، وإذا تابع الحرب العبثية سيفشل ويُقتل. تراجيديا مستحيلة بلا حل ولا تطهير.


لكن، كما لاحظ امين معلوف، للعرب عادة غريبة في أسطرة المهزومين. كانت صور السنوار صادمة ومهينة لكن الاعتراف بخا سيسقط منظومة قيمنا وأفكارنا وأوهامنا. في هذه الحالة، لا مانع عند الذات المهزومة من تجاهل الواقع واختراع اسطورة وهمية لمقاتل شجاع قاتل حتى النهاية. هنا تعود قيم الفروسية العربية الجاهلية للبروز في عصر الذكاء الاصطناعي والحروب السبرانية. لقد دمر غزة ورهن القضية لكنه مات "مقبلا غير مدبر". وتبرز فضيلة "القتال سيفا لسيف" لتداعب خيال الذات العربية المهزومة. فالبدائي الذي يقاتل وجها لوجه لأنه متخلف عن تكنولوجيا الحرب والعصر أفضل وأشجع ممن يدير حربه من خلف شاشات اعقد الأنظمة التسلحية في العالم لأنهم "محتبئون"!. عنترة بن شداد في مواجهة القرن الحادي والعشرين في كوميديا سوداء تعجز هوليوود عن صنعها.


لا أبالغ لو قلت أن السنوار المهزوم والمُذَل هو ما داعب خيال الشارع العربي. تجربة العب الطويلة مع البطل المأساوي والزعيم المهزوم عميقة ومتجذرة. إنه مهزوم ومهان مثلنا. إنه يشبهنا. إذا لنحوله الى بطل لنبحث عن خلاص وهمي عبر بطل وهمي يشبهنا. ليس مهما أنه لم ينجز شيئا. سنخترع إنجازات كاذبة مثل كذب الوضع كله وزيفه. قناع كرامة زائف ولا صفعة حقيقة موقظة!


لن تنتهي القضية الفلسطينية ولا الحق الفلسطيني في المقاومة. لكننا يجب ان نستفيد من الهزيمة السادسة وندرك ان مقاومة الميليشيات الطائفية لم تنتج إلا الخراب، وان أسلوبا جديدا لانتزاع الحق الفلسطيني يجب أن يبنى على العقلانية السياسية وفهم الواقع لا على التفكير بالتمنى والحلول السحرية والتعلق بالأوهام. يجب ان نعرف كعرب أن الاعتراف بالهزيمة هو الخطوة الأولى لتحليل أسبابها، وان معرفة الأسباب هو الخطوة الأولى للخروج منها. وأن الاعتراف بالهزيمة لا يعني التخلي عن الحق الفلسطيني لكنه سينقذ ما تبقى من دم فلسطيني لا ترى فيه ضباع المقاومة الطائفية أكثر من "خسائر تكتيكية".

المقاومة ليست لحظة غضب ونزق ضد العدو. وليست انتحارا يجمل بالشعارات الفارغة. المقاومة فعل إنساني قائم على حياة الانسان وكرامته ومشاركته. وأي مقاومة تحتقر حياة الانسان وتعتبرها مجرد "ثمن رخيص" او "خسائر تكتيكية" هي أسوأ أنواع الجرائم. جريمة لا تقل سوءا عن الاحتلال المدان في كل الشرائع والقوانين والمواثيق الدولية.

...................


20 أكتوبر 2024