أظن أنني من آخر من سيكتب عن وفاة الحبر الأعظم، البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، الذي لم يُوارَ جثمانه بعد.
لقد أحدثت وفاته صدىً عالمياً واسعاً، تجاوز حدود العالم المسيحي. وقد أعرب كثير من اليمنيين عن تعازيهم في رحيله، ما دفع البعض إلى التهكم، مصدومين من هذا "التسامح" تجاه رجل دين ينتمي إلى ديانة أخرى.
برأي، تعود شعبيته إلى أسباب سياسية يمكن تقسيمها إلى جانبين:
أولاً، مواقفه التي توصف بالتقدمية، حتى إن اليسار الأوروبي – رغم علمانيته – وجد فيه حبره الخاص. فقد اتخذ البابا مواقف شجاعة وغير معتادة، خاصة في وجه الجشع الرأسمالي، واستعمال القوة لفرض السياسة، وتفشي الحروب، ومظاهر الاستبداد. ولعل أبرز تلك المواقف إدانته لما يجري في غزة، وهي من أشجع مواقفه.
ومع أن نزوعه التقدمي دفعه إلى تشجيع استعمال الطاقة النظيفة والعناية بالانشغالات البيئة والدفاع عن حقوق المهاجرين، وانتقاد سياسات اليمين المتشدد – سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة – واتخاذ خطوات جريئة تجاه قبول المثليين، وفتح باب المساءلة حول سلوك بعض رجالات الدين المسيحي، سواء على الصعيد المالي أو الأخلاقي (الجنسي وفضائح الاعتداء على الأطفال في الدير والكنائس)، إلا أن ذلك لم يمنعه من اتخاذ مواقف محافظة في قضايا أخرى، كرفضه للإجهاض، إذ شبّه ممارسته بعمل "قاتل مأجور".
الجانب الثاني من شعبيته، خاصة في دول الجنوب، يكمن في خلفيته الجغرافية؛ فهو من الأرجنتين، ومن ثمّ فهو أول حبر أعظم يأتي من خارج أوروبا منذ قرون طويلة. لقد مثّل هذا الأمر تحولاً مهماً، كسر احتكار أوروبا للسلطة الدينية الكاثوليكية، وفتح الباب أمام احتمالات أن يتولى هذا المنصب في المستقبل شخصية من إفريقيا، على سبيل المثال.
الاهتمام الإعلامي بوفاته، ومراسم ما بعد الوفاة، يعكسان الحضور القوي للدين – أفكاراً وأشخاصاً ورموزاً – في حياة الشعوب، بما في ذلك الأكثر علمانية.
فبرغم أن الفاتيكان دولة رمزية ومساحتها لا تتعدى حدود مؤسسة جامعية، فإن البابا، في رحلاته الخارجية وعلاقاته الدبلوماسية، يمثل رقعة انتشار المسيحية خارج أوروبا، خاصة في شرق آسيا، حيث تشهد المسيحية نمواً ملحوظاً، وفي إفريقيا التي تشهد أسرع معدل انتشار للمسيحية في العالم.
بمعنى آخر عملي فهو يجسد السلطة الرمزية لانتشار وقوة المسيحيةفي العالم.
في فرنسا، على سبيل المثال، خُصصت مساحة إعلامية واسعة لوفاته، سواء في التلفاز أو الإذاعات أو الصحف. وعلى الرغم من أن علاقته بفرنسا لم تكن حميمة دائماً – إذ كان ينظر إليها كبلد مغرور ومتعالٍ – إلا أن زياراته لها، مثل زيارته إلى جزيرة كورسيكا، أثارت جدلاً وتساؤلات كثيرة، وغالباً ما كانت مواقفه مناقضة لمواقف السلطة السياسية.
أما في العالم الإسلامي، فثمة عاملان جعلا النظرة إلى هذا البابا أكثر إيجابية وتميّزاً: إلى جانب موقفه من غزة، كان من أبرز الداعين إلى حوار الأديان، وقاد لقاءات متكررة مع قيادات دينية إسلامية. كما لم تُنقل عنه يوماً تصريحات مسيئة للإسلام أو مشككة في قدرته على التطور، على عكس ما حصل مع سلفه بنديكت السادس عشر.
تظل مؤسسة/ دولة الفاتيكان من الجهات المثيرة للاهتمام والتي تغص بالاسرار والغموض والتعقيد الهيكلي والطقوس والمراسم شديدة التعقيد.
مصطفى ناجي
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك