وأنا أقرأ كتاب الفيلسوفة الانجليزية هيلين ماري ارنوك، الذاكرة في الفلسفة والأدب. استوقفني سؤال الذاكرة بوصفه حالةً وجودية يعيشها كل فرد يقول ( أنا) رمز ضمير المتكلم الحاضر الدائم في كل لغات العالم. ماذا تعني (أنا)؟ وماذا يحدث لو عجز الكائن عن قولها؟ أنها تعني اسمي الذي يحمل جسمي هنا ولآن ولكنه ولد وتشكل في الماضي منذ طفولتي ولحظتها المآروية - بحسب عالم النفس الفرنسي جاك لأكان - هي المرحلة التي يمر بها الطفل عادة بين عمر 6 إلى 18 شهراً، حين يتعرف على صورته في المرآة لأول مرة ويدرك أنها “هو” قبل هذه اللحظة، لا يكون لدى الطفل إدراك متماسك لذاته ككيان مستقل ومتماسك ورغم إن الطفل يرى صورته في المرآة كصورة كاملة ومتماسكة، في حين أن تجربته الجسدية الفعلية ما تزال مجزأة وغير منسجمة (لأنه لا يتحكم بعد كليًا في جسده) بالتالي، فإن “الذات” التي يتعرف عليها الطفل ليست حقيقية بالكامل، بل هي صورة “مثالية”، أشبه بنموذج خارجي يتماهى معه، وهي من هنا تشكل “أنا وهمي” (moi imaginaire) تلك ال (أنا) الذات الفردية لا يمكن وعيها بدون الأسم والذاكرة وبهذا المعنى تتشكل هوية الكائن عبر الاستمرارية الجسدية الحية والذاكرة القادرة على التخيل والاستعادة للتجربة الماضية في الطفولة المبكرة. تتأسس ال( أنا) من خلال الاغتراب: أي من خلال رؤية الذات من خارجها، كموضوع خارجي ومنذ تلك اللحظة يبدأ الطفل بالدخول في نظام الخيال الرمزي الذي سيتقاطع لاحقا مع الواقع والتوقع. والسؤال هل يمكن تصور هوية الجسم الكيان بدون اسم يشير اليه؟ وكيف يمكن أن تكون حياتنا بدون ذاكرة؟ هكذا يمكن النظر آلى موضوع الذاكرة في الحالة الإنسانية التي انبثقت
الطبيعة؛ كائنٌ وُلدَ من رحمِ الطبيعة، لكنه تمردَ عليها بواسطةِ الرمز، فخلقَ واقعًا موازيًا من المعاني المُتفقِ عليها، واقعًا يسمحُ له بنقلِ المعرفةِ عبرَ الأجيال، لكنه يجعله أيضًا عُرضةً لأوهامِ الجماعاتِ والأيديولوجيات. هكذا، يصبحُ تاريخُ اللغةِ، مرآةً لتاريخِ الدماغِ، وكلاهما معًا مرآةٌ لتاريخِ الإنسانِ ككائنٍ غريبٍ، يعيشُ فجوةٍ وجوديةٍ بين عالمِ المادةِ وعالمِ الدلالة. وهذا هو ما بحثه الفيلسوف الأمريكي ترينس دبليو في كتابه المهم ( الأنواع الرمزية؛ اللغة والدماغ ١٩٩٧م إذ اشار إلى إن اللغةُ ليست مجردَ أداةٍ اخترعناها، بل هي جزءٌ من بيولوجيتنا، مثلما الجناحُ جزءٌ من بيولوجيا الطائر. لكن هذا الجناحَ الرمزيَّ يحملُ ثمنًا باهظًا: فالقدرةُ على تخيّلِ المستقبلِ جعلتنا نخشى الموت، وقدرتُنا على اختراعِ الآلهةِ جعلتنا نعيشُ في صراعٍ أبديٍ بين الإيمانِ والشك"( ينظر، استفهامٌ وجودي في عصر التخصصات المتشظية... التطور المشترك للغة والدماغ، جوجل) وربما كان قلق الإنسان الدائم في مواجهة العالم مبعثه اللغة والخيال إذ
" بينما يلهو الدلفينُ في الماءِ دون أن يُقلقه التفكير بالموت، يُجبر الإنسانُ — بفضلِ رموزه المجردة — على العيشِ في زمنٍ متخيَّل: ماضٍ من الذكرياتِ المؤلمة، ومستقبلٍ من المخاوفِ الافتراضية. هذا الانزياحُ الزمني هو ما يجعلُ الإنسانَ الكائنَ الوحيدَ الذي يعاني من القلقِ الوجودي، وكأنّ الرمزَ ( اللغة) هو السيفُ الذي قطّعَ نسيجَ البراءةِ البيولوجية"
وهكذا ينفتح سؤال الذاكرة على مدى متزايد الاتساع من المفاهيم والآفاق، إذ تبين لي وأنا أعيد القراءة في المفهوم ومعناها أنه شديد الاتصال والتداخل بسلسلة كاملة من المفاهيم الهامة منها ( ذاكرة ، تذكرة ، مفكرة، عقل ، لغة ، هوية، زمان، مكان ، تاريخ ، سرد، رواية، تُمثل، تُذكر، تداعي ، الصورة، الحفظ ، الخزن، المعرفة الخيال ، النسيان، الزمان، التوقع، الحنين، الندم، الصفح ، الغفران الحضور الغياب الخ).
وربما كان سؤال الذاكرة في عصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي يمتلك راهنة جديدة بعكس ما كان عليه في الأزمة الماضية حينما كانت تقنيات الذاكرة والتذكر محدودة بلغة الجسد والاستجابة السحرية اللاهوتية لمقاومة الفناء ف تحنيط الجسد يمثل محاولة للإبقاء على الذات الجسدية كأداة لاستدعاء الشخص، وهويته، وربما حتى روحه.
فالمومياء ليست جسداً ميتاً فحسب، بل هي مستودع للهوية، ملفوف بذاكرة طقسية ودينية، تحاول ربط الحياة بالموت، والزمن بالأبدية وبهذا المعنى من المهم اعادة النظر لمعنى الذاكرة ووظيفتها الميتافيزيقية فالأهرامات ليست مجرد مقابر ملكية، بل هي تعبير مادي ضخم عن الرغبة في البقاء – ليس فقط الجسدي، بل الرمزي أيضاً.
ورغم إن الذاكرة وجودية فردية بالأساس إلا إن سرعان ما تحولت إلى هيمنة ايديولوجية قمعية
في تاريخ الإنسان إذ ازعم هنا بانه لا وجود لذاكرة فردية محضة إذ إن كل فرد إنساني هو ثمرة تزاوج بين شخصين فاعلين ينتمين إلى عائلة ومجتمع ولغة ودين وثقافة وتاريخ وحضارة وذاكرة مشتركة فالبشر لا ينبتون في الصحراء كما تنبت النباتات الشوكية في مواسم المطر بل كما تُبذر البذور في الأراضي الزراعية المستصلحة لهذا الغرض أو كما تغرس الشتلات في الحدائق والبساتين بما تحتاجه من رعاية وعناية واهتمام وتمهيد وتشذيب وتهذيب باستمرار حتى تنضج الثمار. والبذر تحمل في جوفها شكل الشجرة وطعم الفاكة! بل إن ميشيل فوكو يرى إن الذكرة ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي نتاج خطابات محددة تُنتجها المؤسسات والسلطة. في كتابه “نظام الخطاب”، يشير إلى أن ما يُحفظ أو يُنسى في الذاكرة الجمعية ليس عفويًا، بل يخضع لآليات التحكم. السلطة تحدد أي ذكريات تُكرّس وأيها تُقمع، وذلك عبر أرشفة التاريخ، كتابة السرديات، أو التحكم في وسائل الإعلام والتعليم. على سبيل المثال، التاريخ الرسمي الذي ترويه الدولة يعزز ذاكرة تخدم شرعيتها، بينما تهمش الروايات البديلة أو ذكريات الفئات المهمشة ففي كتابه “المراقبة والعقاب”، يوضح كيف تُشكل المؤسسات (كالسجون والمدارس) ذاكرة الأفراد عبر الانضباط والمراقبة، مما يجعلهم يدخلون طواعية في أطر السلطة. وفي كتابه “تاريخ الجنسانية”، يوضح كيف تُحفر السلطة ذكرياتها على الجسد عبر الممارسات الانضباطية والتنظيم الحيوي (biopower). الجسد يصبح أرشيفًا للذاكرة يحمل علامات السلطة، سواء عبر العقوبات الجسدية أو التنشئة الاجتماعية. الذاكرة هنا ليست مجرد عملية ذهنية، بل تجربة جسدية تخضع لسيطرة الهيمنة. وبذلك غدت الذاكرة آلية لتكريس السلوكيات المطيعة، حيث يتذكر الفرد القواعد والعقوبات، فيصبح خانعا كما هو الحال في تاريخ مؤسسات الهيمنة السياسية الأيديولوجية العربية والإسلامية.
عن الذاكرة ومداراتها المتنوعة سوف تكون ندوتنا الليلة في بيت الثقافة والفنون، منتدى كاتب وكتاب عبر الفضاء الافتراضي. وذلك بالتوقف عند كتاب الذاكرة في الفلسفة والأدب للفيلسوفة الإنجليزية هيلين ماري وارنوك (14 أبريل 1924 – 20 مارس 2019) التي حاولت فيه مقاربة السؤال الآتي: ما أهمية الذاكرة التي نمنحها تقديرا الرفيع؟ في ضوء هذا التساؤل جاء كتابها المكرس لبحث الذاكرة في الفلسفة والأدب ١٩٨٧م من زاوية نظر وجودية تحليلية إذ تعد من البريطانيين القلائل الذين تأثروا بالفلسفة الوجودية. تميزت ورنوك بتنوع اهتماماتها الفلسفية، حيث برعت في الفلسفة الأخلاقية من منظور وجودي، فلسفة العقل، التربية، وأخلاقيات القضايا العامة. في بداية مسيرتها، ساهمت مع الروائية آيريس مردوخ في التعريف بالفلسفة الوجودية في بريطانيا، رغم هيمنة الفلسفة التحليلية. في أعمالها المتأخرة، دمجت بإبداع بين الفلسفتين الوجودية والتحليلية، مما أضفى طابعًا مميزًا على كتاباتها العديدة ومنها؛ فلسفة سارتر ، 1963 وأخلاقيات الوجودية ١٩٦٧ والوجودية ١٩٧٠م والخيال ١٩٧٦ ومحتال مع الله: إبعاد الدين عن السياسة ٢٠١٠م .الطبيعة والفناء: ذكريات فيلسوف في الحياة العامة (2004) وغير ذلك من الكتب والدراسات المنشورة. يهمنا اليوم التوقف عن كتابها المهم، الذاكرة في الفلسفة والأدب١٩٨٧م ، ترجمة فلاح رحيم عن دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ٢٠٠٧م في ٢٢٢صفحة من القطع الكبير. الكتاب يتناول موضوع الذاكرة بوصفها خطابا مشتركاً بين الفلسفة والأدب، عبر المسار التاريخي للأفكار كما هو الحال في الكتب أو الدراسات التي تستعرض تداخلات الفلسفي بالسرد الأدبي والنظري بالتجريبي في معالجة الذاكرة. كتاب صغير الحجم ولكنه عظيم الأهمية إذ عرضت فيه ورانوك الذاكرة في السياق التاريخ للفكر الفلسفي والسرد الأدبي في ستة محاور رئيسية فضلا عن المقدمة التي استهلّتها بمقاربة مفهوم الذاكرة بوصفها فعالية عقلية واهميتها في تشكيل الهويات الفردية والجمعية للكائنات العاقلة تحت عنوان ( الذاكرة والدماغ) بعدها
تناولت الذاكرة في تاريخ الفلسفة مستعرضة آراء أهم الفلاسفة الكلاسيكيين: أفلاطون، أرسطو، ديكارت، لوك، هيوم بالنقد والتقييم إذ اكدت
إن سؤال الذاكرة قد شغل الفلاسفة منذ أقدم العصور، ويعد أفلاطون من ابرز الفلاسفة الإغريق الذين بحثوا في الذاكرة بوصفها معرفة مكتسبة من عالم المُثل؛ المعرفة تذّكر! تلك هي الخلاصة الأفلاطونية في تأمل الذاكرة ثم عرضت موقف أرسطو من الذاكرة بوصفها صورة حسية تنطبع في ذهن الإنسان كما ينطبع الخاتم في عجين الصلصال واستعرضت الذاكرة في الفلسفة الحديثة، بدءاً من الذاكرة الفردية عند ديكارت ولوك وهيوم ونيتشة إلى الذاكرة الفينمولوجية الوجودية عن هوسرل وبرغسون وسارتر إذ إن تأثرها بسارتر وبيرغسون يعكس اهتمامها بالبعد الزمني الوجودي للذاكرة، بينما نقدها للوك وهيوم ورسل يتماشى مع التوجهات النقدية للحداثة.