آخر تحديث :الأحد-29 سبتمبر 2024-12:01ص

في مخاطر غياب المؤسسات العامة وضياع حقوق الإنسان واختلاط الأدوار الاجتماعية

السبت - 28 سبتمبر 2024 - الساعة 11:49 م

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


الإنسان كائن أناني اعتباطي تبريري فإذا منح دور وسلطة يتمثلها بكل حذافيرها ويسلك ويتصرف بحسب مقتضياتها بغض النظر عن عواقبها وأثارها خيرا أو شرا. وكل انسان في الواقع هو ممثل لسلسلة من الادوار الاجتماعية( دور الأب ودور الأم ودور الابن ودور الابنة ودور الزوج / الزوجة. ودور الصديق ودور الزميل ودور المدير ودور السجان ودور الجلاد ودور القاضي ودور الموظف العمومي ودور الرئيس ودور الوزير ودور السفير ودور المعلمة ودور المربية ودور الأستاذ ودور التلميذ ودور المصلي ودور الإمام ودور المؤذن ودور المغني ودور الشاعر ودور الزعيم . .الخ إذ أكدت نظرية الدور الاجتماعي بأن سلــوك الفرد وعلاقاته الاجتماعيـة انمـا تعتمد على الادوار الاجتماعيـة التـي يشغلهــا فــي المجتمــع . فضــلاً عــن أن منزلته ومكانته تعتمد على ادواره الاجتماعية المعترف بها والمقدرة اجتماعيا خير تقديرا. فلا سلطة الا بوظيفة ولا وظيفة الا بدور اجتماعي ولا دور اجتماعي الا بفاعل اجتماعي يقوم به صاحبه في المجتمع. والدور هو نمط الافعال أو التصرفات التي يتم تعلمها الاشخاص أما بشكل مقصود أو بشكل عارض وتحدد سلوكهم وتصرفاتهن في المواقف الاجتماعية التفاعلية بوصفهم فاعلون اجتماعيون. وتستند نظرية الدور على مجموعة من الفرضيات الأساسية وهي:
١- توقع سلوك الأشخاص بحسب ادوارهم الاجتماعية.
٢-إن بعض أنماط السلوك تعد صفة مميزة لأداء الأفراد الذين يعملون داخل إطار معين .
٣- إن الأدوار غالبا ما ترتبط بعدد معين من الأفراد الذين يشتركون في هوية واحدة .
٤- إن الأفراد غالبا ما يكونون مدركين للدور الذين يقومون به ، وإلى حد معين الأدوار يتحكم فيها حقيقة الإدراك بها .
٤- إن الأدوار تستمر بسبب ما يترتب عليها من نتائج من ناحية وبسبب ارتباطها بسياق نظم اجتماعية أكثر اتساعا من ناحية اخرى .
٥- تتعزز الادوار الاجتماعية وتستمر بحسب ما تناله من اعتراف وتقدير اجتماعي إيجابي ومكافئة وظيفية عينية. وهذا هو ما بينته نظرية ستانفورد في تجربة السجن والجلاد. في أغسطس 1971، نفذ عالم النفس «فيليب زيمباردو» تجربته الشهيرة «سجن ستانفورد»، التي كان هدفها معرفة تأثير الأدوار والبيئة على الأشخاص، إذ خلق بيئة سجن في أحد أقسام جامعة ستانفورد، وأعلن عن فرصة للتطوع في التجربة، فتقدم ما يقرب من 70 متطوعًا، واختير 24 منهم بعد المقابلات والاختبارات المعيارية للتأكد من سلامتهم النفسية وأهليتهم للتجربة.
وُزِّعت الأدوار على المتطوعين عشوائيًّا بين حراس وسجناء، وبدأت التجربة بإعطاء الحراس اللباس الخاص بهم، والنظارات السوداء لمنع التواصل البصري مع السجناء. ومن أجل تعزيز دور السلطة والقوة في الحرس، سلموهم العِصي الخاصة بهم.أما السجناء فجردوهم من ملابسهم وهوياتهم، وأعطوهم أرقامًا عوضًا عن أسمائهم، وسلموهم لباس السجن. بذلك يتعامل الحارس مع رقم، وليس مع شخص لديه كرامته وحقوقه الخاصة. وكان الحراس يعملون في مناوبات خلال اليوم على مدى ثماني ساعات للفترة الواحدة. التجربة التي كان من المقرر أن تستمر لأسبوعين، اضطر الدكتور زيمباردو إلى إنهائها في اليوم السادس، بعد أن أصبح الوضع لا يُحتمَل، وصارت الإهانات والضغط النفسي على المساجين بسبب الحراس لا تطاق، بداية بالعقوبات الجسمانية، مرورًا بالإهانات والقرارات العشوائية، كإيقاظ السجناء من نومهم وطلب عمل تعداد أو تمارين، وصولًا إلى إجبار السجناء على تطبيق تصرفات مؤذية على بعضهم بعضًا. وقد تم تركيب اجهزة كهربائية لتعذيب السجناء تتضمن ثلاث درجات من عملية التعذيب بثلاثة ازرار الأخضر والأصفر والأحمر. وكان يطلب إلى المعنين بدور المحققين تشغيلها أثناء عملية تعذيب السجناء وانتزاع اعترافاتهم. إذ لاحظ صاحب التجربة أن المحققين يسرعون إلى ضغط الزر الأحمر برغبة وحماسة وهو في منتهى القسوة والألم أكثر من الزر الأصفر والأخضر. إذ بدأ الحراس التصرف بعدوانية وقسوة تجاه السجناء، في حين أصبح السجناء مكتئبين ومحبطين، إذ عانى 5 سجناء مشاعر سلبيةً حادةً منها البكاء والقلق الحاد، ووجب إعفاؤهم من الدراسة باكرًا.وكتب زيمباردو في كتابه «أثر إبليس»: «لم يستطع مقاومة إغراءات الموقف في الانصياع للسلطة والسيطرة مع الحفاظ على قدر من النزاهة والأخلاق إلا فئةً قليلةً من الناس، لكنني حقًا لم أكن من هذه الفئة النبيلة» وفقًا لزيمباردو وزملائه، تؤكّد تجربة سجن ستانفورد أهمية الدور الذي تؤديه الظروف والمواقف في السلوك البشري، فقد وضعوا الحراس موضع سلطة فتصرّفوا بطريقة قد تختلف عن تصرفاتهم في حياتهم اليومية أو في مواقف أخرى، ولأن السجناء وضِعوا في موقف لا يملكون أي سيطرة فيه، أصيبوا بالاكتئاب والبلادة.وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهت لتجربة ستانفورد بوصفها مثالًا عن الأبحاث غير الأخلاقية، وحصر المشاركين على فئة من الذكور الاميركيين البيض وعدم كفايته في تمثيل الشرائح الاجتماعية الاوسع في المجتمع. بغض النظر عن كل تلك الانتقادات التي وجهت للتجربة في تكشف أحد خفايا النفوس البشرية في المواقف والادوار المختلف وأثر البيئة والتربية في عملية التنشئة الاجتماعية للإنسان.
والنتائج التي يمكن استخلاصها من تلك التجربة العلمية هي:
١- أن الادوار الاجتماعية تشكّل سلوك وتصرفات الافراد في المواقف المختلفة بغض النظر عن قيمهم الأخلاقية.
٢- سلوك الفرد يمكن التنبؤ به من معرفة دوره الاجتماعي اذ ان الدور يساعدنا في تنبؤ السلوك .
٣- لا يمكن اشغال الفرد للدور الاجتماعي واداؤه بصورة جيدة وفاعلة دون التدريب عليه , علماً بأن التدريب على القيام بالادوار الاجتماعية يكون خلال عملية التنشئة الاجتماعية .
٤- تؤثر المؤسسة والبيئة والثقافة السائدة في تمثل الافراد لادوارهم الاجتماعية وممارستها برغبة وحماسة.
وهكذا يصف الدور الاجتماعي للفيلسوف أو العالم : مجموع الوظائف النسقية المعترف بها اجتماعياً بوصفها وظائف وأدوارًا مشروعة ومقدرة اجتماعيا خوّل لفئة من أفراد المجتمع النهوض بها، والتي بفضلها منحوا اسمهم وصفتهم المهنية (علماء) لقاء ممارستهم نشاطاتهم وفق معاييرها وقيمها المهنية الخاصة بصفتهم جماعة أو مؤسسة علمية، والتي لا يكون المرء عالماً إلا بها. وربما كان غياب هذا الدور في الثقافة العربية الإسلامية سبباً من أسباب تخلف الإنسان والمجتمع ومن ثم تخلف العلم عامة والعلوم الإنسانية خاصة، ومن منظور العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة، فمن المحتمل أن غياب دور العلماء وتهميش قيمتهم ومكانتهم الاجتماعية في المجتمعات العربية الإسلامية التقليدية بالقياس إلى الحضور الطاغي لفئات اجتماعية أخرى أمثال: المشتغلين بالسياسة والسلطة، والفقهاء ووعاظ السلاطين والمطبلين وغيرهم من النخب التقليدية الذين مازالوا يشغلون ادوارا اجتماعية بالغة التأثير والنفوذ ويتمتعون بقيمة ومكانة اجتماعية عالية ومقدرة خير تقدير، في حين ان المشتغلين بالمعرفة العلمية والمؤسسات الأكاديمية مازالوا يعانون من عدم الاعتراف بدورهم الاجتماعي والمهني. وهذا يعبر عن تدني الوعي العام بقيمة الإنسان وحقوقه الأساسية بوصفه معياراً وهدفاً وغاية للتتنمية المستدامة، كما أشار امارتيا صن "أن حرية الإنسان هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ممكنة، ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع"( امارتيا صن،التنمية الحرية ، مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض و الفقر،سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد312 ص45) وحينما يصبح العلم مؤسسة اجتماعية مستقلة كما كانت (( الجمعية الملكية للعلوم التي تأسست في لندن عام 1645م وهي أول مؤسسة علمية رسمية و((أكاديمية العلوم في باريس )) عام 1662م فضلا عن المؤسسات الجامعية فهذا معناه مرحلة حاسمة في نشوء وازدهار الدور الاجتماعي للنشاط العلمي.
وفي سياق تناوله للبُنى الثقافية والمؤسسية التي حالت دون مقدرة العلم العربي على اتخاذ تلك الوثبة الحاسمة من الباراديم التقليدي المغلق إلى الباراديم الحديث الجديد توصل توني أ. هب في كتابه المهم، فجر العلم الحديث؛ العرب والغرب والصين. إلى نتائج بالغة الخطورة والأهمية اليكم بعضها:

1- لم يكن لعلماء الطبيعة العرب دور معترف به اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يوازي دور الفقهاء من حيث السلطة والنفوذ، بل كانت بنية الفكر والعواطف في الإسلام في القرون الوسطى بشكل عام ذات طبيعة جعلت طلب العلوم الوضعية والعقلية وعلوم الأولين أمراً يثير الشكوك ويجلب لأصحابها كثيراً من المتاعب والتهم الخطيرة على حياتهم( توني أ .هب ،المرجع السابق ، ص73)
2- كانت سلطة الفقهاء وسطوتهم شاملة بحيث لم يتركوا شيئاً للعلماء والفلاسفة ليقولوه، بل إن الفلاسفة وعلماء الإنسانيات لم يكن لهم وظيفة ودور معترف بهما في المجتمع، ومن ثم لم تكن لهم حماية، إذا ما أردوا التعبير عن آرائهم بشأن القضايا الفكرية بحرية، كمسألة خلق العالم، والعلية الطبيعية، والحرية الإنسانية، وما إذا كان بإمكان الإنسان الوصول إلى المبادئ الأخلاقية عن طريق الرؤية العقلية بعبارة توماس كون( توني أ.هب، المرجع السابق، ص86)

-3 غياب البنية المؤسسية القانونية؛ أي عدم وجود الجماعات ذات الشخصية القانونية الاعتبارية المستقلة في الحضارات العربية الإسلامية؛ إذ لم تكن مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي مؤسسات قانونية مستقلة، بل كانت المدارس ملحقه بالمساجد، وكانت المدارس مكرسة لتعليم علوم الدين والحساب، وتستبعد العلوم الطبيعية، فضلاً عن أن المدارس كانت مؤسسات خيرية وقفاً دينياً تنفذ رغبات وأهداف أصحابها الدينية وغير الدينية، كما أن نظام التعليم كان يعتمد على الصفة الشخصية، وكان الشيخ أو الفقيه هو الذي يمنح الإجازة لتلاميذه، ولم تكن الشهادة أو الإجازة تمنح من قبل جماعة أو مؤسسة مستقلة لا شأن لها بالأمور الشخصية كما كان عليه النظام في الجامعات الأوربية القروسطية. ولما كان التعليم في حقل العلوم الطبيعية يجري خارج المدارس الرسمية، فقد كان التخصص في علم من العلوم الأجنبية يقتضي السفر مسافات شاسعة بحثاً عن علماء متخصصين في علوم الأولين غير المرغوب فيها طبعاً .
إن البنية الشخصية المهيمنة في مختلف مجالات حياة المجتمع العربي الإسلامي قد عاقت نمو فكرة المؤسسة المستقلة وعرقلت نشوء معايير العلم الموضوعية والشمولية والعالمية والتراكمية، بل عرقلت نشوء الجامعة بوصفها مؤسسة حرة ومستقلة، يقول (هف): "إن الولايات القانونية في العالم الإسلامي لم تنشأ مطلقاً لأن المسلمين كلهم أعضاء في الأمة الواحدة ولا يجوز فصل المسلمين إلى جماعات يتميز بعضها عن بعض شرعاً" (توبي .هب ، المرجع السابق، ص 129 )

4- غيابفكرة العقل والعقلانية؛ إذ إن مصادر الشرع هي القرآن الكريم، والسنة، والإجماع، والقياس، وهذا ما أفضى إلى التخلص من العقل بوصفه مصدراً من مصادر التشريع، وقدأدى التضييق على العقل إلى إنكار النظرة العقلانية إلى الطبيعية؛ أي دراستها بوصفها موضوعًا قابلاً للفهم والسيطرة ،كما أن مفهوم العقل الذي شاع عند المسلمين ليس العقل الفعال عند أرسطو، ولا (النور الداخلي) عند فلاسفة النهضة، بل يطلقون كلمة العقل على الأفكار التي يؤمن بها عامة الناس. ويرى فضل الرحمن أن "اللاهوت احتكر في نهاية المطاف حقل الميتافيزيقيا كله وأنكر على الفكر الخالص حق النظر نظرة عقلانية في طبيعة الكون وطبيعة الإنسان ،لكنالعلم الحديث لم يكن له أن يظهر ويزدهر دون توافر أطر ميتافيزيقية عامة ومعترف بها تقوم على فرضيات عن انتظام العالم الطبيعي وخضوعه لقوانين معينة وعلى الإيمان بقدرة الإنسان على فهم البنية الكامنة في الطبيعة وفهم القوانين التي تتحكم في الكون والحياة والإنسان واستيعابها والتنبؤ بنتائجها والسيطرة عليها، وربما هذا هو ماقصده ماكس بيرونتز بقوله: "أنه لا يزال هناك ما يقال بشأن اكتشاف السبب في أن هناك آخرين عميت بصيرتهم عن التقاط ما حاولت الطبيعة أن تقوله لهم، على الرغم من أنهم في الظاهر كانوا قادرين على ذلك"(([1]) ماكس بيرونتز، ضرورة العلم، المرجع السابق، ص 57) ويخلص (هف) إلى القول: "لقد ضيق مهندسو الشريعة واللاهوت في الحضارة العربية الإسلامية القدرات العقلية عند ألإنسان ورفضوا فكرة الفاعلية العقلية التي يتميز بها جميع بني البشر لصالح الرأي القائل إن على الإنسان أن يسير على نهج السلف وأن يتبع التقليد، وإن الأسلاف لم يتركوا شيئاً للآخلاف. أما الأوربيون القروسطيون فقد وضعوا تصوراً للإنسان والطبيعة كان فيه من العقل والعقلانية ما جعل النظرات الفلسفية واللاهوتية مجالات مدهشة من مجالات البحث التي كانت نتائجها لا هي بالمتوقعة ولا بالتقليدية (قاسم عبد المحبشي, فلسفة التاريخ في الفكر الغربي المعاصر: أرنولد توينبي موضوعا, الهيئة العامة للكتاب, صنعاء, 2006م ط1, ص 76)

كان العرب في كل حقول العلم .. في طليعة التقدم العلمي ...إذ أن ما حققه العرب يثير الإعجاب إلى حد يدعو للتساؤل عن السبب الذي منعهم من اتخاذ الخطوة الأخيرة باتجاه الثورة العلمية الحديثة ؟ ويضيف هب " كان العرب قد وصلوا إلى حافة أعظم ثورة فكرية حدثت في التاريخ، ولكنهم رفضوا الانتقال من العالم المغلق إلى الكون اللانهائي) حسب تعبير(Koyre كويري). وبما أنهم عجزوا عن اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة في بداية العصر الحديث، فإن البلاد الإسلامية لا تزال تتمسك بالتقاويم القمرية"( توني أ. هب ، المرجع السابق، ص 65)

في نقد فكرة الخلاص الفردي

فكرة الخلاص الفردي الراسخة في الثقافة العربية؛ فكرة صحراوية متناسلة من الزمن الجاهلي، حينما كان الناس يبحثون عن أرزاقهم بظلال سيوف وبرعي إبلهم كما قال عبدالمطلب (إني أن أنا رب إبلي وأن للبيت رباً يحميه) تلك الفكرة الناتجة من طبيعة الحياة الصحراوية المتذررة مثل قبرات رمل الصحراء في مهب العاصفة المتنقلة لم تعد صالحة في زمن العولمة وانكماش الزمان والمكان وصيرورة العالم قرية كونية وحدة. في زمن الدول بوصفها مؤسسات عامة وحامية وضامنة فلا قيمة للأفراد والشعوب بدون دول وطنية ذات سيادة مستقلة. ومن المعلوم أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين والموت والحياة نابعة من علاقاتهم الاجتماعية ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسات الحديثة وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعداءها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال فيها بعض الناس ينكرون أهمية وضرورة وجود ونمو تلك المؤسسات بوصفها شبكة من الإطر المنظمة تشكل في مجموعها الدولة، إذ تعد المؤسسات هي أهم مقومات الدول الحديثة، وهذا ما يفسر حرص مواثيق الأمم المتحدة بتعريف جريمة الإبادة الجماعية بتدمير المؤسسات الحيوية في مجتمع من المجتمعات. والأشخاص يأتون ويذهبون بينما المؤسسات هي وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون والتنمية. ونحن الذين نقوم بتشكّيل مؤسساتنا ثم تقوم هي بتشكلنا، وكيفما نشكلها تشكلنا والمؤسسات العامة في المجتمعات الحديثة لها حرمة مقدسة مثل حرمات المقدسات الدينية الإسلامية في مكة والمدينة والمساجد والمقابر وغيرها، التي يحرص الجميع على تبجيلها وحمايتها وصيانها وتنميتها دون قوانين ملزمة بل بالقيم والهيبة والشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاهها. والمؤسسات العامة التي ينتفع منها جميع أفراد المجتمع لا يمكنا أن تحمي ذاتها بذاتها بل يجب أن يحرص جميع أفراد المجتمع على حمايتها كما يحرصون على حماية منازلهم. فهل أدركنا ماذا تعني مؤسسة عامة أنها تعني مصلحتك ومصلحتي ومصلحة الأجيال التي ستأتي بعدنا، ولا يجوز التهاون بها ابدا في كل حال من الأحوال، والمجتمع الذي يعجز عن حماية مؤسساته العامة القائمة ليس بمقدوره ابدا إعادة تأسيسها وبناءها بعد ضياعها. وليس هناك ما هو أصعب من بناء مؤسسة عامة في المجتمعات التقليدية. وفي المجتمعات التي تفتقد الى ثقافة وخبرة المؤسسات الحديثة بوصفها شخصيات اعتبارية مستقلة تمتلك أهلية قانونية وتدير أمورها بمواثيق ودساتير أو عقود قانونية مجردة ، تهيمن ثقافة الإيمان السحري بالأشخاص من بني الانسان وقدراتهم الخارقة على حل المشكلات الاجتماعية وتجاوز الأزمات السياسية التاريخية ؛ ثقافة الشخصنة تلك توفر بيئة خصيبة لنمو وازدهار ثقافة قيم التنافس والصراع بين الافراد تحت وهم الاعتقاد بإنهم هم المعنيون بالأمر إذ أن الأوليات الاجتماعية المادية والمعنوية تتفاعل في السياق المضطرب للأحداث مدفوعة بمشاعر مركبة من الخوف والتهديد والقلق والشعور بالعجز والأمل والرجاء لتتمخض في لحظة من اللحظات عن انبثاق ادوار مختلقة تستدعي وجود اشخاص ذات صفات محددة ، سرعان ما تنجبهم لإشباعها بطريقة يصعب فهم دينامياتها اللاعقلانية المتخفية ، تماماً كم تفعل دينامية الكبت والحصر في أعماق ذواتنا الفردية فيما وصفه سجموند فرويد بالانزياح والتصاعد والتعويض الاستهيامي لإشباع الحاجات الحيوية الملحة ، وهكذا هو حال الهستيريا الجماعية في حالات العجز والفشل في الحصول على الإشباع الممكن في الواقع، إذ تضطر اخيراً الى البحث عن حلول ولو كانت وهمية ، وهذا ما لاحظته في الحالة العربية الإسلامية ، والحالة اليمنية على نحو أشد ، اذ نجد أشخاص ممن كنا نظنهم اكثر حلم وحكمة ينساقون مع وهم ثقافة البحث عن المنقذ الخارق ؛ زعيم أو بطل أو شيخ دين أو بلطجي ورغم أهمية الأشخاص ودورهم الفاعل في التاريخ الإ أنهم محدودي القدرات والطاقات بدون مؤسسات فاعلة إذ مهما كانت عبقرية الأشخاص وكفاءتهم وإخلاصهم وجهودهم فانهم بدون وجود مؤسسات فاعلة وكفوءة ، كأنما يحرثون البحر! الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكنها أن تستمر وتدوم إذا وجدت من يتعهدها ويصون ! وهكذا بقت الدول التي تحكمها المؤسسات البروقراطية الحديثة مزدهرة منذ مئات السنين في العالم الحديث بينما كل النظم التي تمحورت حول الأشخاص منذورة بالخراب والزوال بزوالهم الحتمي ! أنا أحترم الأشخاص ولكن لا أثق بقدرتهم على فعل إي شي جدير بالقيمة والاعتبار إذا كانوا لا يمتلكون مؤسسات مبنية على أسس قانونية عقلانية سليمة ! وفِي الثورات قل لي ما شعارك أقول لك من أنت وفِي السياسة قل لي ما هي مؤسستك أقول لك من أنت! والشعوب حالة ثورية عائمة وعلى النخب الفاعلة تقع مسؤولية تحويلها إلى حالة مؤسسية مستقرة ونحن الذي نقوم بشكّل مؤسساتنا باتباع جملة من القيم والاجراءات ثم تقوم هي بتشكلنا.نكرر الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فهي وحدها التي يمكن أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون.فكيف ما كانت مؤسساتنا نكون! وفِي عدم وجودها لا معنى للكلام واللف والدوارن ودمتم بخير وسلام!