تلك الحكمة الشعبية العربية هي مفتاح سر
الحالة العربية منذ اللحظة القرشية. البارحة قرأت تعليقك من غير دولة عربية على الجرائم المروعة التي ارتكبها الأسد ضد الشعب السوري العظم. مصري يقول: لا وجه للمقارنة بين مبارك والأسد ويمني يقول: سلام الله على علي عبدالله صالح استشهد ولم يكن في سجون أي سجين سياسي لا تحت الأرض ولا فوقها! وربما يتحمد رعايا الدول العربية الملكية؛ ملوكهم ويشكروا الله لأنه جعل بلادنهم مليكة وليست جمهورية..الخ. بل إن بعض العرب يقارن الحالة العربية مع إسرائيل ذاتها ويقول: إسرائيل افضل😳وهكذا تتعذي النظم العربية وتستمد بقائها من بعضها😳أليست هذه الحالة تستدعي البحث والدراسة؟
هناك إجماع بوجود أزمة أزمة سياسية مستحكمة في البلاد العربية التي لم تتمكن بعد من إنجاز هذا الاستحقاق التاريخي بعد اقصد الدولة بوصفها مؤسسة سياسية وطنية جامعة للفاعلين الاجتماعيين تستند على مبدأ الحق الدستوري لا حق القوة القهري. وهنا يمكن لنا الإمساك بجذر المشكلة التي أرقت المفكر السياسي الفرنسي دوبرية حينما تساءل: «لماذا ينبغي أن تزيغ عقول الناس بمجرد أن يعيشوا في مجتمع؟ هذا السؤال الذي يجب علينا نحن العرب مواجهته، إنه سؤال العيش في مجتمع مندمج منظم سياسي عادل ومستقر. فما الذي يفسر عجزنا المستديم عن إنجاز هذه النقلة الضرورية من الحالة الطبيعية حالة (حرب الجميع ضد الجميع) حسب هوبز إلى الحالة المدنية والعقد الاجتماعي والمؤسسة الجامعة دولة المواطنين الأحرار بحكم القانون؟ يقول المستشرق لجرنز وويل «كم ألفاً من السنين بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في (حالة حرب) دائمة سيخبرنا أولئك الذي سيقرأون أقدم سجلات الصحراء الداخلية، ذلك أنها تعود إلى أولهم لكن العربي عبر القرون كلها لم يستفيد حكمة من التجربة، فهو غير آمن أبداً ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي؟
هكذا يعاود سؤال السياسي والسياسة الحضور كالجرح النازف ذلك لأن السياسة هي الزمن الذي لا يمر! وليس بمقدور أحد تجاوز استحقاقها أبدا، والسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية: (المناخ والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والزلازل والبراكين …إلخ) حسب فاليري. وما نعيشه اليوم من شرور الفساد السياسي في غير قطر عربي في (فلسطين والعراق والجزائر ولبنان وليبيا والسودان وسوريا واليمن والصومال وغيرها لا يقاس بأي حال من الأحوال بما يمكن أن تفعله أي كوارث طبيعية محتملة. والوضع مرشح للمزيد في ظل هذه الموجة العاصفة من الحروب الطائفية التي تذكّر بحرب الثلاثين عاما في أوروبا التقليدية. (كيف دمرت الحروب المذهبية أوروبا؟) كتب، هاشم صالح قائلا: «لكي أفهم ما يجري الآن في العالم العربي فإنني مضطر للبحث عن سوابق تاريخية من أجل المقارنة. إذا لم نكن قادرين على إسعاف الناس عمليا فعلى الأقل لنساعدهم نظريا. كيف؟ عن طريق شرح ما يحصل لهم من فواجع وكوارث تنزل على رؤوسهم دون أن يدركوا أسبابها العميقة بالضرورة».حقا إننا «العرب» نعيش لحظة كارثية ومصيراً فاجعاً بعد أن تحطمت – شعاراتنا وأحلامنا ومشاريعنا وأوهامنا الكبيرة بالجامعة الإسلامية والوحدة القومية والاشتراكية الأممية والاستقلال والحرية والتنمية والعدالة الاجتماعية ..إلخ – على صخرة التاريخ العتيدة إذ بتنا أشبه بسفينة تتقاذفها الأمواج في كل الاتجاه بعد أن فقدت البوصلة ولا تلوح في الأفق القريب بارقة أمل للنجاة. إن مأساتنا تكمن في أننا تعاملنا مع التاريخ بحسن نية ساذجة ومنحناه معنى ليس من طبيعته في شيء، حينما توهمنا أنه أشبه «ببغلٍ حرون يمكن قيادته بالسوط لترويضه" بحسب أحمد برقاوي. والسؤال هو كيف يمكن قراءة وتفسير المشهد العربي الراهن بما يعيشه من أحداث دامية وحروب مستعرة وما الذي يفسر انبعاث هذه الموجة الكاسحة من خطابات الهويات الأصولية التي أخذت تشيع في المجتمعات العربية الإسلامية اليوم على نحو خطير ومثير للحيرة والفزع؟ حروب دينية طائفية عشائرية جهوية سياسية مستعرة في كل مكان (شيعية، سنيه مسيحية، عربية كردية، في العراق وسوريا. ومسيحية، شيعية، سنية، درزية، في لبنان. وزيديه، حوثية، اثنا عشرية، سنية، سلفية، عشائرية، جهوية في اليمن، ولغوية أثنية عربية، أمازيغية بربرية إسلامية في الجزائر، ومسيحية إسلامية، جهوية في السودان، وعشائرية طائفية مناطقية في ليبيا.. الخ) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي، وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار( دواعش روافض، نواصب خوارج، مجوسية، صفوية، قاعدة، أنصار الشريعة، شيعية، حزب الله، أنصار الله، داعش والنصرة.. إلخ). والسؤال الملح هنا والآن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في المجتمع العربي الإسلامي يتحول إلى شر مستطير، بينما هو في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأميركا واستراليا وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات (ديانات، أقليات، أعراق، إثنيات، لغات، طوائف، ملل، نحل، ومذاهب وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة). الجواب ببساطة العلمانية هي التقنية السياسية الانجع في تأسيس الدول واستقرارها وازدهارها.فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف حينما يكون مقدسا، إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة، (دينية أو أيديولوجية) يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي وعصبوي ديني، وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف هو أخطرها على الإطلاق، ذلك لأن (الثار الحر) يشكل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة، ففي كل مرة ينبثق منها من أيّ نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة، يميل إلى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي، ويهدد وجوده بالخطر.“فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد أناس ينساقون إليه بحرية وحماس، ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكنهم أنفسهم، غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب مؤسسة محايدة للعدالة، أقصد الدولة الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلال المجالات، (السياسي والديني والمدني والاقتصادي والثقافي والعلمي.. الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة، وكل المحاولات الراهنة المعتمدة على المدخل الأمني في ضبط ظاهرة العنف في المجتمعات العربية بالقوة العسكرية العارية المحلية أو الخارجية، من المؤكد أنها تزيده اشتعالاً مثل (اللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يلقى عليه بقصد إطفائه). فهل آن الاوان الى إعادة التفكير بالعلمانية بعيدا عن المنظور الأيديولوجي الذي يشوّش معناه التقني الحقيقي، بوصفها تقنية سياسية ناجعة مجربة ومختبرة عبر ثلاثة قرون من التاريخ السياسي للدولة الحديثة ليس في أوروبا وأميركا فحسب بل في كثير من دول أسيأ وأفريقيا المستقرة والمزدهرة اليوم من الصين الى جنوب افريقيا وفي مجتمعات إسلامية مماثلة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، ومنها ماليزيا وأندونيسيا وباكستان وغيرها. إذ أن الفصل بين المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقلال المجال الديني عن هيمنة السياسي، وبهذا تكون العلمانية ليس كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي في حقيقة الأمر تحرير المقدس من تبعيته للمدنّس واستعادت روح الدين الإسلامي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين ومتتماً مكارم الأخلاق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” (الحجرات الآية 13) أو “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (سورة النحل الآية 125)، “ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن” (العنكبوت الآية 46)، أو ما جاء في السنة الشريفة “لا يرحم الله من لا يرحم الناس″، “لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً” وغير ذلك مما احتواه الدين الإسلامي الحنيف من قيم تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق والإنصاف والعدل والاعتراف والتسامح والتصالح والعفو والإيثار والتعاون والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السلام وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب والخداع والسب والتنابز بالألقاب والكبر والغرور والتطرف والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل. الخ.
ما اضعف الناس بدون مؤسسات عامة تحميهم من بعضهم ومن غيرهم ومن غوائل الدهر وصروف الحياة وحينما تكون المؤسسات ضدهم وتسعى إلى سحقهم والإمعان في قهرهم كما يتنضد أمامنا الآن من سجون الأسد الرهيبة فاعلم إن الجرائم التي ارتكبت بحق كل من وقع في مخلب ذلك الوحش المسعور من السوريين من مختلف الفئات العمرية والشرائح الاجتماعية ( نساء ورجال وشيوخ وأطفال وفتيات وفتيان وأمهات وزوجات وطالبات وتلميذات .الخ ) ربما مئات الآلاف من المواطنين السوريين قضوا نحبهم أو امضوا حياتهم في غرف التعذيب وفي ظلام السجون وسوف نشاهد ونسمع قصص عذبات لم تكن تخطر على بال الشيطان ذاته.
فاذا كان التعذيب هو فن إمساك الحياة في الوجع، وذلك بتقسيمه إلى (ألف موتة) قبل أن تتوقف الحياة على أشدّ حالات الفزع” بحسب ميشال فوكو فيمكن القول مع جان بول سارتر إن نظرة الضحية في وجه الجلاد السادي الذي يتلذذ بتعذيبها تحيله إلى كائن غريب عن أفق الحياة وقيمها الإنسانية الأخلاقية والجمالية التي تستحق الفرح والمحبة لا القتل والتدمير. وهذا هو موقف الشعب السوري العظيم مع اقذر طاغية في تاريخه. ويقصد بجريمة إمساك الحياة في قاع الوجع إن الضحية من شدة التعذيب تلفض أنفاسها الأخيرة أو تفقد قدرتها على الوعي والإحساس ويغمى عليها من شدة الوجع.
وتلك هي السادية في أوضح صورها كما عرضها
جان بول سارتر في صراع النظرات إذ ربما يكون سارتر قد اخذ عن هيجل "ان الطريق الى الداخل يمر من خلال الاخر "ان الحرية عن هيجل هي رغبتها في الاعتراف من قبل الآخرين وهي صراع ومغامرات دامية من اجل هذه الغاية, انا احتاج من الشخص الاخر اعترافا بوجودي, كحرية لا لشيء, انه الاخر الوسيط بيني وبين نفسي, وهذا ما يعرف عند سارتر, بالنظرة. ان نظرة الاخر تحولني الى موضوع ، إلى شيء، الى ماهية عندما تحدق بي, وهي بذلك تسلبني حريتي بمعنى من المعاني, وبالمثل ان تحديقي بالاخر يجعله موضوع امتلاك لي, تسلبه حريته وتحيله الى شيء وسط الاشياء ان كلا منا يحاول ان يطيح بالاخر ويتجاوزه ويمتلكه. وهكذا يظهر لنا سارتر ذلك الصراع والصدام الميتافيزيقي بين الانا والاخر, بين حرية الانا وحرية الانت. وليس العيون حتما باعتبارها اعضاء فسيولوجية هي التي تتطلع الي, انه الشخص الاخر باعتباره ذاتا حرة تحيلني الى وجود في ذاته, تحجرني تماما مثلما تحجر عيون "الميدوزا" كل من تنظر اليه لتمنحه وجودا في ذاته " ان كوننا نرى من جانب شخص اخر يجعلنا عبيدا, فاذا تطلعنا نحن اليه جعلناه عبدا ونحن سادة" ان السادى لا يبحث عن قهر حرية من يعذبه بل يبحث عن اجبار هذه الحرية, يبحث عن امتلاكها بتوحيدها مع جسد من يعذبه, واكراه الضحية ليس مهما, لان تركها يظل حرا. هكذا تظل شهوة السادى ظمأ دائما وجوعا ملتهبا لا يمكن اشباعها واستئصال شأفتها المحمومة.
فالحضارة هي أولا وأخيرا فعل تُحضر وتحضير ومسار ترقي تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون salvaticus»، ثم إن الحضارة هي جملة الصفات المكتسبة خارج الطبيعية، وهي أخيراً مجموع الظواهر المميزة للحياة في هذا العالم الخاص المتطور الذي بناه الإنسان المدني.وما يهمنا هنا هو التأكيد على أن الحضارة من حيث المفهوم والسياق التاريخي تتميز عن مفهومَي الثقافة والمدنية لكونها تتصل اتصالاً لازماً بشكل التنظيم السياسي والقانوني والأخلاقي للمجتمع، إنها تعني العيش في مجتمع سياسي منظم بالدستور والقانون والضمير الأخلاقي، فكلما كان التنظيم الاجتماعي خاضعاً للقانون كلما كان أكثر تحضراً، وقد بدأت الحضارات في التاريخ بوجود الدولة الإمبراطورية في الشرق القديم، ويذهب أرنولد توينبي إلى أن الحضارة هي الوحدة الأساسية في دراسته للتاريخ إذ إن كلمة حضارة عنده ارتبطت بقدرة المجتمع على تنظيم نفسه سياسياً واجتماعياً وثقافياً في دول كبيرة، وعنده أن إفريقياً السوداء بهذا المعنى عرفت ثقافات، ولكنها لم تعرف حضارات. وعلى هذا النحو يمكن القول إن الحضارة والثقافة والمدنية، هي قوى وعناصر التاريخ، وما عناصر التاريخ إلا وسائله وأسبابه وغاياته وقواه التي يتطور بها صاعداً في معارج التقدم والتطور والارتقاء، وهي: الثقافة علماً وأدباً وفناً: هي القوة الإبداعية في التاريخ، والتطور الدائم المستمر في العلم والأدب والفن. والحضارة: سياسةً وأخلاقاً وتشريعاً: هي قوة التاريخ التنظيمية، والتطور الدائم المستمر في السياسة والأخلاق والتشريع. فمتى يتجاوز العرب اللحظة الخلدونية التي شخصها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي في كتابه المهم منطق أبن خلدون؟!