عرفت البشرية أنواعا عديدة من الأبطال: اليطل المؤسس (بسمارك، جيفرسون), البطل المحرر( ديغول، غاندي). البطل النهضوي (مهاتير محمد، ميجي).
لكن العرب في عصورهم لم يعرفوا غير نوعين من الابطال: قديما البطل الفاتح: الاستعماري الذي يحتل الأقطار الأخرى ويخضعها، وحديثا البطل المأساوي: الزعيم الذي يتبنى مشروعا نبيلا يحاول تنفيذه بوسائل قمعية أو لاعقلانية حتى يسقط سقوطا مأساويا جارا معه شعبه نحو الهزيمة.
البطل المأساوي او التراجيدي في الدراما هو الذي يقع في إشكال قدري عصي على الحل لأن أفعاله تتناقض تناقضا جذريا مع أهدافه، وكلما قام بفعل لتحقيق هدفه دنّسه هذا الفعل وجعله أبعد أخلاقيا وواقعيا عن تحقيق هدفه.
أعظم بطل تراجيدي في الدراما هو أوديب. واسمحوا لي أن الخص تراجيديا اوديب لأوضح اللعنة العربية حول التعلق بالبطل المأساوي.
مختصر قصة أوديب أن الآلهة ستغضب على ملك طيبه "لايوس" لأنه قتل. وعقاب الآلهة أنه إذا انجب ولدا ذكرا فانه سيقتل على يد إبنه. تنجب له الملكة جوكاستا ولدا فيطلب منها أن تقتله، لكن الأم تتراجع وتعطيه للحدم الذين سيسلمونه الى راعي غنم سيربيه كأنه ابنه.
يكبر أوديب ويكتشف انه ليس ابن الراعي فيذهب في رحلة للبحث عن جذوره. وفي طريقه الى مملكة طيبه يلتقي بوالده الملك لايوس في الطريق ويتعاركان فيقتل أوديب والده دون أن يدري، وهكذا يتحقق عقاب الآلهة. يتابع أوديب طريقة فيلتقي بالوحش الأسطوري ويقتله ونتيجة لشجاعته يتزوج الملكة جوكاستا دون أن يدري أنها أمه.
بعد أيام من الزواج السعيد ينتشر الطاعون في المملكة، وعندما يستشير أوديب الكهنة عن السبب يقولون له ان قاتل الملك "لايوس" يعيش في المملكة، وان الطاعون لن يتوقف إلا بعد مقتله.
يبحث اوديب عن قاتل الملك لايوس ليكتشف أنه والده وأنه قتل والده وتزوج أمه، وانه يجب ان يقتل نفسه ليتوقف الطاعون. تقتل جوكاستا نفسها ويفقأ اوديب عينيه ثم يهيم في الطرقات طالبا من الناس أن يقتلوه.
هذا ملخص التراجيديا مستحيلة الحل، والخطيئة التي لا يمكن التطهر منها.
ولو درسنا نماذج ناصر وصدام ونصر الله والسنوار فلوجدناهم نماذج مختلفة من البطل المأساوي. كان ناصر يرى ان إلغاء الحياة السياسية والأحزاب وتقييد الحريات ورفض الديمقراطية ضرورة لا بد منها من أجل تحقيق الاشتراكية والوحدة. لكن الاشتراكية والوحدة سقطا بسبب هذه الأخطاء. في هزيمة 1967 فقأ ناصر عينيه ( بالمعنى الدرامي) عندما اعلن استقالته، وطلب من الجماهير محاكمته (قتله بالمعنى الدرامي). لكن جذور الهزيمة وأسبابها هي نفسها سياسات عبد الناصر وبطولاته. أراد عبدالناصر الخلاص من طاعون الهزيمة بالانتقام من قاتل الأب (الأب هنا رمز لحلم القومية) لكنه هو نفسه القاتل والقتيل. المجرم والضحية.
أشعر بتأنيب الضمير حين أقارن ناصر بالسنوار. فناصر رغم كل عيوبه ظل يعمل داخل منطق الدولة ونحو حلم العدالة. أما السنوار رغم وجوده في خانه المواجهة مع إسرائيل فظل طوال حياته خارج منطق الدولة وداخل منطق الجماعة المسلحة والايديولوجيا الدينية الضيقة. لكن السنوار كناصر نموذج للبطل المأساوي الذي يجر نفسه ومجمتعه الى الهاوية. الفارق بينهما أن ناصر كان يسعى لهدف نبيل بأساليب غير نبيلة بينما هدف السنوار لم يكن يختلف كثيرا عن أساليبه غير النبيلة.
لقد قتل السنوار أباه (القضية الفلسطينية) وارتكب الخطيئة التي لا يمكن التطهر منها ( له تاريخ طويل للتنكيل بالفلسطينيين واختطافهم وتعذيبهم وقتلهم واخفاء جثثهم. وله تاريخ آخر كأحد أثرياء غزة ومتنفذيها في ملاحقة التجار وحبسهم والافراج عنهم مقابل دفع الملايين. وهل زواج الأم بالمعني الدرامي الأوديبي بأقل سوءا من قتل القريب والأخ والتنكيل به؟). لقد توهم السنوار أنه قتل الوحش (7 أكتوبر) لكنه كان واهما. فقد ابتلع الوحش طيبه بأكملها. وانتشر طاعون الموت والقتل والإبادة في غزة ولكي يوقف السنوار هذا القتل لم يكن هناك حل إلا أن يقتل المتسبب فيه، فكيف يمكن ذلك وهو المجرم والضحية في نفس الوقت. إذا استسلم ليوقف الحرب سيفشل ويٌقتل، وإذا تابع الحرب العبثية سيفشل ويُقتل. تراجيديا مستحيلة بلا حل ولا تطهير.
يحلم الغزيون بلحظة الخلاص من الطاعون الاسرائيلي-السنواري، لكنهم يرون إخوانهم العرب يؤبدون الطاعون بتحويل القاتل الى بطل.
………….
فقرات من مقال طويل منشور سابقا على هذه الصفحة